الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجوه المدينة

وجوه المدينة
21 مايو 2014 21:12
لي أن أنوه بأن كلمتي عن “وجوه المدينة” مستوحاة من قراءتي لكتاب “المدن الضواحي” للمهندس المعماري عبد الواحد منتصر. فهذا الكتاب الجديد يحمل إلينا وجوهاً أخرى للمدينة كما يراها مهندس معماري يبدع في رؤيته لأوضاع العمران في المغرب، ويسعى إلى فتح حوار مع مبدعين وكتاب، من أجل خلق رؤيات متقاطعة للمدينة المغربية ومستقبلها. وبهذه الكلمة أحيي عبدالواحد منتصر والمهدي أخريف على ما يبنيان، خطوة خطوة، دون أن ننتبه بالضرورة إلى هذه المغامرة المتفردة في زمننا. 1 انجذبت، وأنا صغير، إلى المدينة في بنائها وجمالها، وتعلمت كيف أعيش فيها من خلال تتبع حياة الناس، داخل أسوارها وخارجها. فاس، مدينتي الأولى، كانت تمثل بالنسبة لي معنى المدينة. كنت أراها وقد اكتمل بناؤها منذ قرون، لكنها كانت مفتوحة على بنايات جديدة في العصر الحديث. فحي العدوة، الذي انتقلت عائلتي إلى السكن فيه، ابتداء من 1953، كان نموذج الأحياء التي تبنى فيها بيوت جديدة، لأنه كان بساتين ثم امتلأت أرضه شيئاً فشيئاً بالبنايات. من بيتي تعرفت على الطريق إلى الكُتّاب في حي العيون. طريق كنت كلما قطعتها تعلمت سراً من أسرارها وجانباً من تاريخها، بعد ذلك تعلمت كيف أذهب وحدي إلى دكان جدي في رحبة الرصيف، قبالة جامع الرصيف. عندها أحببت سوق الرصيف، أحد أكبر أسواق فاس للمواد الغذائية. وفجأة أخذت أتسرب إلى دكان أبي في القيسارية. خلال هذه الرحلة كان حبُّ الخروج من البيت يزداد انتعاشاً وفتنة. وما كنت انتبهت إليه، آنذاك، هو وجود أكبر سوقين بالمدينة، القيسارية (القيصرية) والشماعين، بين ضريح مولاي إدريس وجامع القرويين. وهذه الثلاثة هي التي أدركت أنها مركز المدينة. كل الطرق تؤدي إليها ومنها تتوزع الطرق نحو جميع أحياء المدينة وأبوابها. من لا يصل إلى هذا المركز لا يعرف فاس ولم ينتفع بزيارتها. 2 لا تكتمل فاس إلا بمكانين موجودين خارجها: سيدي حرازم، من جهة الشرق، الحامة التي كنا نقضي العطلة فيها ونقوم بالرحلات على القدمين صحبة رفاق المدرسة للسباحة في مياهها المعدنية؛ ومولاي يعقوب، من جهة الغرب، الحامة التي كنا نتمتع بالاستحمام في مياهها المعدنية الحارة، من فصل الخريف إلى فصل الربيع. مكانان يتقدمان المدينة ويتممانها. 3 عندما بلغت سن العاشرة ركبت مع أبي حافلة أقلتنا إلى المدينة الجديدة التي تسمى دار دْبيبَغ. فاس أخرى. أروبية. فاجأتني بحديقتها الممتدة على مسافة مئات الأمتار، وبالبنايات الأروبية من كل جهة من الحديقة، ثم بالطرق المعبدة التي تعج بوسائل النقل الحديثة، من سيارات، وحافلات، ودراجات، وشاحنات. مدينة كانت تنسيني أنني أسكن مدينة فاس القديمة. عالم مختلف، له جمال انفتاح الطرق ووضوحها. عالم أوروبي مليء بالتقنيات وبمظاهر الحياة الأروبية، من مقاه ودور السنيما ودكاكين مزينة بواجهات كأنها مشاهد بألوان مرتبة بذوق تظهر فيه الجاذبية. وبعد أن تعودت على أن أزور بمفردي المدينة الجديدة، أخذت أتجول فيها حسب رغبتي. أنتقل من شارع إلى شارع، ومن وسط المدينة إلى أحيائها الخلفية. لكل منطقة جمالها. بهذا اكتشفت أن مركز المدينة الجديدة يتألف من مركز الشرطة ومحكمة الاستئناف وبنك المغرب. لا يوجد في المركز مسجد ولا مؤسسة علمية. وهذا الاختلاف بين مركزي المدينتين، القديمة والجديدة، ساعدني على إدراك ما لم أكن أتوقعه. مدينة فاس لها وجوه، عدة وجوه. 4 من دلالات كلمة “الوجه” في العربية: المعنى، والجهة، والشريف، والمستقبل، وأول الشيء. وهي أوسع من دلالتها في الفرنسية، حيث نعثر على الشكل والطريقة، أو السحنة ووجهة النظر. دلالات تسعف في التقاط وجوه المدينة. تهيئ لي العربية فهم ما حدث لي مع المدن التي تعرفت عليها بعد فاس، وتدلني الفرنسية على خصائص وسمات معمارية. أهم وأكبر مدينة سافرت إليها، وأنا صغير، هي الدار البيضاء. في كل مرة كنت أزورها كنت أتساءل عن بداية المدينة وعن نهايتها، كما كنت أتساءل عن كيف اجتمعت حشود الناس التي كنت أراها وهي تخترق الشوارع أو تنتقل من شارع إلى آخر. كانت الدار البيضاء تتراءى لي وكأنها تغير كل مرة حدودها. تتسع وتتسع. ومع تغير الحدود واتساع المساحة تحتضن المدينة سكاناً وافدين إليها من جميع جهات المغرب وآخرين من بلدان أجنبية. كان السؤال عن الحدود محيراً وباعثاً على الدهشة. ما كنت أجهله من الدار البيضاء كان أكبر مما كنت أعرفه عنها. كنت، خلال زياراتي، أكتفي بمشاهدة البنايات والواجهات، وبملاحظة الناس وحركاتهم. ولكثرة العربات وسرعة سيرها، كنت أبذل مجهوداً في الانتباه إلى الطرق، قبل الإقدام على قطعها. يدي في يد أبي أو يد قريب مني. بدون عارف بالمدينة لم يكن لي أن أتحرك. وقضيت سنوات وأنا أمشي جنب شخص آخر يدلني على الطريق، لا شيء غير الطريق. وفي صيف 1965 انطلقت وحدي، أتجول، أتفحص، أتعرف، أكتشف، أستمتع. الدار البيضاء مدينة فسيحة وعمودية في آن، ذات جمال مفاجئ، تبصره من بعيد، وأحياناً تتوقف وجهاً لوجه أمامه، مع إحساس دائم بعدم الألفة مع المدينة، أو بشيء لا أستوعبه. 5 بين فاس والدار البيضاء شرعت وجوه المدينة، بين القديم والحديث، ترتسم أمامي. شغفي بالمدينة كان شغف الباحث عن الجميل والمدهش في آن. كنت أرغب في المشاهدة، لا أقل ولا أكثر. أشاهد مرة ومرة. أتجول وأشاهد. ولا أملُّ من تجديد المشاهدة، كما لو كنت أقرأ كتاباً لا تنتهي صفحاته، أو تغريني نصوصه بإعادة قراءتها، مرات متتالية. وفي كل مرة أحس بإعجابي وشوقي. 6 من فاس إلى الدار البيضاء، تليهما طنجة، التي زرتها أول مرة عام 1966. طنجة عالم الضوء والألوان والبحر. ثم، بين 1968 و1970، سافرت إلى أروبا لاستكشاف مدن أصبح لها مكان في مخيلتي من خلال ما اختزنته الذاكرة. كانت البداية مدريد، عبر الجزيرة الخضراء، وبعدها باريس، في السنة الأولى؛ وفي السنة الثانية مدريد مرة أخرى، باريس، الجمال والحرية، ولندن في الطرف الشمالي الغربي، بعد قطع المانش. في هذه الأسفار أصبحت أتمتع بجمال المدينة، لأني تعلمت من الدار البيضاء تصميم المدينة الحديثة، وشعرت بالتآلف مع مشاهدة جموع الناس، مقيمين وزائرين. أنا قادم من المغرب، وفي المغرب كان المشير ليوطي يريد أن يصمم الدار البيضاء ويبنيها وفق أحدث التصورات المعمارية في العالم. هذا ما أدركته لاحقاً وأنا أزور نيويورك. ذلك السؤال الذي كنت أطرحه، وما زلت حتى الآن، عن بداية ونهاية المدينة، عن حدود المدينة، أصبح واضحاً مع المدينة الحديثة في أروبا، وخاصة مع باريس. هذه مدينة تشعر وأنت في وسطها، بين الحي اللاتيني وشارع الشانزيليزي، أن بناءها اكتمل منذ القرن التاسع عشر. لكن وسائل النقل تدلك على الضواحي التي تحيط بالمدينة من جميع الجهات. وكانت أشهر ضاحية، بالنسبة لي كسائح آنذاك، هي فرساي. كان لابد أن أزورها لأتعرف على قصرها، الذي جعلت منه الكتابات والأعمال الفنية أسطورة معمارية، ومن خلاله أتعرف على هذا الملك الجبار، لويس الرابع عشر، وعصره. من فرساي أصبحت أتعود على العبور، حسب الصدفة، إلى بعض ضواحي باريس، وهو الأمر ذاته الذي عشته في مدريد، التي كنت حرصت على زيارة مدينة أرانخويس، إحدى المدن الضواحي، التي كنت أعرفها من خلال السمفونية الشهيرة للموسيقي ألبنيس. 7 هذه العلاقة، التي نشأت لي مع المدن، أصبحت تحمل دلالة ثقافية وحضارية في آن. لا أعيش في المدينة بل أعيش من خلال علاقتي بالمدينة. وعلاقتي بها علاقة بجسد حي: يتنفس، يتحرك، يكبر، يفرح ويتألم، يحيا ويموت. تلك هي المدن بالناس الموجودين فيها، وهكذا أعيش من خلال علاقتي بها. لذلك أحب السفر إلى المدن التي أصحبت مرجعاً للمعمار والحضارة العمرانية عبر التاريخ. وقد حدث لي أن اقتنعت، وأنا شاب، بأن من لا يزور المدن المرجعية لا يستطيع أن يستوعب حضارة البلد الذي توجد تلك المدينة فيه. في نيويورك، مثلا، أدركت الفرق بينها وبين باريس والدار البيضاء. فأنت في نيويورك تحس أنك وسط العالم. الأرض من جميع جهاتها تبدو قريبة منك، تدور كأسطوانة. وفي باريس تشعر بأنك واقف في مركز أروبا، أثينا على يمينك ولندن على يسارك. أما في الدار البيضاء فتقتصر على الإحساس بأن أفق الرؤية ينحصر في المغرب. وهذه العلاقة، دلتني، من ناحية أخرى، على وجوه المدينة. أعطي كلمة “الوجوه” هنا ما أشرت إليه من دلالات كلمة “الوجه” في العربية. ومما أختاره دلالة “المعنى” و”المستقبل”. بخصوص المعنى، لا يبلغ أي تجمع سكاني مرتبة المدينة إلا إن هو وصل إلى إنشاء معنى الإقامة والسكن، في شروط معمارية وأوضاع اجتماعية، سياسية وثقافية، توارثتها الحضارات. ولكن السكن والإقامة تاريخيان، يتأثران بالزمن ويفعلان فيه. لا إقامة ولا سكن خارج التاريخ، الزمن. يعطي كلُّ زمن وجهاً للمدينة. وبهذا الوجه تتجدد تسميتُها، قرناً بعد قرن، أو دولة بعد دولة، أو نظاماً بعد نظام. فوجوه مدينة فاس، مثلاً، هي معانيها التي اكتسبتها عبر القرون؛ فاس البالي، قصبة النوار، فاس الجديد، الملاح. ثم هي التي أصبحت معروفة بها أيضاً في العصر الحديث، ابتداء من العهد الاستعماري، الذي جاء برؤية مختلفة، للمدينة ووظائفها، عن المدينة الإسلامية. وتشير دلالة “المستقبل”، في العربية على ما يستقبلك، في المكان والزمان. فالمدينة تستقبل القادم إليها كما يستقبلك شخص يقيم فيها من معارفك. والمكان الذي يستقبلك هو ما نسميه الضاحية. إنها في المقدمة، نقطة تقبل منها وتعبر من خارج المدينة إلى داخلها. يستقبلك سيدي حرازم إن كنت قادماً إلى فاس من جهة الشرق أو الشمال، ويستقبلك مولاي يعقوب إن كنت قادماً من الغرب أو الشمال. ضاحيتان طبيعيتان. اختارهما متصوفان ليقيم كل واحد منهما في أحداهما، على أطراف المدينة. ضاحيتان كانتا مفتوحتين على استقبال الزوار، أو على أبناء المدينة العائدين من سفرهم. وبالضاحية تتعدد وجوه المدينة، كما أنها بهذه الوجوه المتعددة تغتني في المتخيل الجماعي. وكما أن ساكن المدينة ينظر دائماً إلى الضاحيتين باعتبارهما امتداداً للمدينة، فإن زائر الضاحيتين لا تكتمل زيارته إلا بالدخول إلى المدينة وبلوغ مركزها. 8 تختلف الضاحية في القديم عنها في الحديث. عندما توجهتُ للعمل والإقامة في المحمدية اكتشفت أن هذه المدينة ضاحية من ضواحي الدار البيضاء. وإذا كان سكان الدار البيضاء ينظرون إلى المحمدية كشاطئ، يتدفقون عليه في الصيف خصوصاً، أو في نهاية الأسبوع، فإن نسبة من سكان المحمدية لا يقيمون في المدينة ولكنهم يقتصرون على استعمالها كمضجع للنوم. يغادرونها صباحاً، إلى الدار البيضاء أو الرباط، للعمل، ومن عملهم يعودون إليها مساء. 9 لهذا ينطبق على المحمدية وضعية المدينة الضاحية. إنها تختلف عن ضاحية المدن التقليدية وتلتحق أكثر بالمدن الضواحي في العصر الحديث. مضت على إقامتي في المحمدية أكثر من أربعين سنة. كنت اخترت الإقامة فيها لأنها المدينة الهامش. وأنا أرتاح للإقامة في الهامش. مدينة على هامش السلطة والامتياز. أكتب في الهامش وأسكن في الهامش. ثم مع بداية التسعينيات غدت المدينة تهمل بنيتها العمرانية، كما وضعها الفرنسيون في العهد الاستعماري، وتنحرف نحو بنية ناشئة، أخذت شيئاً فشيئاً تظهر وتهيمن. كانت المحمدية، أول عهدي بالإقامة فيها، هامشاً يتوفر فيه ما يسمح لي أن أعيش علاقة حوار متيسّر مع الآخرين. وما كان يترك الحوار ممكناً هو التنوع السكاني، وما يوازيه من فضاءات مفتوحة، في شكل حدائق أو ساحات، جنباً إلى جنب مع بنايات ذات هندسة معمارية تختلف فئاتها الاجتماعية. هنا أمكن لي أن أربط علاقات عفوية ودائمة مع تجار صغار، صيادين، عمال، حرفيين. ثم جاءت مرحلة تكاثر العمارات. وفرت هذه المرحلة حلولاً لبعض مشاكل السكن. لكن ما أصبح يحدق بالمدينة هو النظر إلى المعمار من حيث هو مصدر توسع المقاولات العمرانية دون أي اعتبار لتناسُب الفضاءات وعلاقات الناس فيها: تجمعات سكنية لا حديقة فيها ولا ساحة أو مرافق تلبي الحاجيات التربوية والصحية والثقافية. وفي ركن بارز ركام من بقايا مواد البناء والنفايات. هنا يتضاعف العجز عن تحمل ما تشاهد من تنافر في جمالية العمارة، ومن قبح أصبح سائداً، ومن استغلال مقاولين يفرضون سلطتهم على المدينة وأهلها. وبمجرد الإقبال على الشارع يحاصرك الاكتظاظ في حركة السيارات. حتى الشاطئ، الذي كان الناس يعثرون فيه على متعة السباحة والاستراحة والمشي، أصبح مطوقاً بعمارات. لا أحد من السكان يعرف كيف هجمت جرافات على أحياء، وافترست المناطق، التي كانت في التصاميم مخصصة للحدائق والمدارس والمستوصفات والأندية الثقافية والأسواق. حولت مقاولات البناء الأرض، قبل أن تشرق الشمس، إلى تجمعات سكنية، ذات أفق وحيد هو مضاعفة الأرباح، دون أي احترام للمدينة وسكانها. 10 وحشية سرقت مني المدينة، كما سرقتها من سواي. سرقت تلك المدينة الضاحية، بجميع ما كانت تتميز به من خصائص المدينة القديمة، من حيث تنوع السكان واختلاف طبقاتهم الاجتماعية. في تلك المدينة، كنت أسلك الطرق المفتوحة نحو الطبيعة، من خلال الحديقة الممتدة على الطريقة الأندلسية، وتحت أشجار النخيل التي تقربني من السماء. في موقف كهذا أجدني أنظر، من بعيد، إلى وجوه المدينة، إلى ما تحجبه رؤية امتلاء الفضاءات وفراغها، في العلاقات مع الزمن وبين الناس. وجوه تنظر إلى وجهي. صامتاً، نحْوها أتقدم من جهَة تكاد تظهر من ورَاء جدرانْ. هي الشحوبُ الذي يكسو الأيامَ، أو هي العشب الذي يحترق في مقدمة النهار والليلْ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©