الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محاكمة إرث العبودية

محاكمة إرث العبودية
14 مايو 2013 10:26
يعود المخرج الإشكالي والمثير للجدل كوينتين تارانتينو مجددا لاقتحام منطقته السينمائية المفضلة من خلال فيلمه الجديد «جانغو طليقا» Django Unchained، المثير والإشكالي بدوره وبنكهة لاسعة هذه المرة، من حيث محاكمته لفترة قاتمة من إرث العبودية البغيضة في التاريخ الأميركي، الأمر الذي دفعه لتقديم جرعة مضاعفة من احتفالية العنف والخيال الدموي والسخرية الداكنة والفوضى المُروّضة التي لا تخلو من ابتكارات بصرية وموسيقية تمزج بين الإرث التقليدي للسينما والمحاولات التجريبية المعاصرة، وبين النسق الكلاسيكي والأوبرالي والاقتراحات البصرية لسينما ما بعد الحداثة، استثمارا لرصيد شخصي حافل بالمشاهدات والشغف بالموسيقا والأفلام والتصدي لكتابة السيناريو والدخول فعليا في عالم الإخراج من خلال تقديم فيلمه الأول في العام 1992 بعنوان «مخزن الكلاب»، حيث أفصح تارانتينو من خلال هذا الفيلم عن موهبة مبكرة وحقيقية ومتفردة، توجها في العام 1994 بفيلم «رواية الجيب» الذي حاز وقتها على جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان، وأصبح هذا الفيلم تحديدا أمثولة ونموذجا لأفلام العنف المستندة على وعي وانتباه وتشريح لدوافع هذا العنف ومسبباته، وتوصيف لجذره الشيطاني الغائر في مجتمع شرس وقابل لإنتاج وحوش بشرية مصابة بشروخ نفسية في العمق، وجاهزة للقتل والتخريب في أقرب فرصة سانحة. يستفيد فيلم «جانغو طليقا» من تقاليد أفلام (الإسباجيتي ويسترن) التي أشاعها المخرجون الإيطاليون في أميركا، خلال ستينات القرن الماضي، ومن أشهرهم المخرج سيرجيو ليوني صاحب الأفلام الذائعة الصيت والتي شاركه فيها الممثل والمخرج القدير كلينت إيستوود ونذكر منها: «من أجل حفنة دولارات»، و»الطيب والشرس والقبيح»، و»حدث ذات مرة في الغرب»، حيث يعتمد هذا النوع المستقل من الأفلام على أسلوب القطع الحاد، والزوم المتحرك، واللقطات المقربة، وتحويل الممثل إلى عنصر أساسي ومحوري مقارنة بالعناصر التكميلية الأخرى في نسيج الفيلم. يختار فيلم «جانغو طليقا» العام 1858 كتوقيت زمني مناسب لسرد حكايته وفي فترة شهدت أوج وازدهار تجارة الرقيق في أميركا، وتماما قبل سنتين من اندلاع الحرب الأهلية الأميركية، وقبل خمس سنوات من ظهور وثيقة تحرير العبيد، ورغم هذه الإشارة الزمنية الواضحة، إلا أن الأحداث والشخصيات التي سوف نشاهدها خلال ساعتين ونصف هي مدة الفيلم، لن تتحول إلى أحداث وشخصيات أسيرة لزمن إنوجادها، ولن تكون قابعة في إطار توثيقي وتاريخي صرف، لأن أسلوب تارانتينو الإخراجي يعتمد بشكل أساسي على كسر حدة الواقعية والتراتبية السردية، واللجوء إلى المشاهد الصادمة والصارخة والتي لن تخلو بدورها من تهكم وبذخ واسترسال في نقل التفاصيل المشهدية والتعامل مع الشخصية ككتلة من المتناقضات السلوكية والنفسية، المعبرة عن التشويش الجمالي والشعرية المحطمة في الفيلم ككل. يبدأ المشهد التأسيسي في الفيلم على لقطة لمجموعة من العبيد المقيدين وهم يتبعون تاجري رقيق في إحدى ليالي الشتاء القارصة، ويفاجأ التاجران بطبيب أسنان متقاعد يدعى الدكتور كينج شولتز- يقوم بدوره الممثل النمساوي (كريستوف والتز) صاحب أوسكار أفضل ممثل دور ثان عن أدائه لهذا الدور- وهو يقود عربته بعد أن تحول إلى صائد جوائز يطارد المجرمين المطلوبين ليقدمهم إلى المحكمة لقاء مكافآت مجزية، يسأل الطبيب المتقاعد عمن يعرف شيئا عن الأخوة بريتل المطلوبين للعدالة، وعندما يكتشف أن العبد (جانغو)- يقوم بدوره الممثل جيمي فوكس- يملك معلومات عن الأخوة المطلوبين يطلب من تاجري الرقيق بيعه وعندما يرفضان يقوم بتصفيتهما وتحرير العبيد الآخرين، ومن هنا تنشأ علاقة نفعية بين جانغو وصائد الجوائز، بحيث يتحولان إلى شريكين يتقاسمان مكأفآت هيئة القضاة، مع وعد من الطبيب كنج بمساعدة جانغو في العثور على زوجته التي أخذت منه عنوة في إحدى مستعمرات العبيد واقتيدت إلى مكان مجهول. ومن خلال رحلة بحث مضنية يتخللها الكثير من الصدامات الدموية، والتهكمات التي تلاحق الزنجي (جانغو) الذي يمتطي صهوة جواده كشخص حرّ، وفي حقبة مثقلة بأهوائها العنصرية المقيتة التي تحقّر السود وتعتبرهم مجرد كائنات ثانوية ودونية وخاضعة كليا لسيادة الأميركي الأبيض. وبعد عدة محاولات يعثر الطبيب على معلومات يمكن من خلالها الوصول إلى المكان الذي تعمل فيه زوجة (جانغو) المعروفة بإسم (برومهيلدا) التي عملت لفترة مع عائلة ألمانية مهاجرة وأتقنت من خلال عملها مع العائلة اللغة الألمانية وحازت أيضا إسما لامعا يشير إلى إحدى الأساطير الألمانية المعروفة، والمتعلقة بأميرة تدعى برومهيلدا تهرب إلى جبل عال ومحاط بالنيران وبوحش خرافي قبل أن ينقذها حبيبها من سجنها العالي والموحش، هذه الخرافة سوف ينقلها الطبيب كنج ذو الأصول الألمانية إلى رفيقه جانغو كي يتحول بدوره إلى الفارس المنقذ لزوجته المضطهدة والمستعبدة في إحدى مزارع كاندي لاند في الميسيسيبي والتي يملكها شخص متعجرف وسادي ومختل اجتماعيا يدعى ( كالفن كاندي)- يقوم بدوره الممثل المعروف ليوناردو دي كابريو- وعندما يصل الطبيب وجانغو إلى هذا الشخص المتغرطس يقومان بالتنكر في شخصيتي تاجرين يبحثان عن مصارع اسود قوي ومتميز في مسابقات المصارعة الشهيرة بإسم (الماندينجو) حيث تنتهي المصارعة وحسب الشروط القاسية بموت المصارع المهزوم. ولكي يصلا إلى المزرعة المقصودة التي تعمل بها برومهيلدا يقوم الطبيب ومعه جانغو بعرض مبلغ مغر على كالفن للحصول على المصارع، وهذا المبلغ الذي يسيل له لعاب المزارع الجشع سيكون مناسبا ومغريا لدعوتهما على العشاء وعثورهما على الزوجة المفقودة، ولكن الأحداث تجري باتجاه معاكس عندما يكتشف رئيس الخدم-يقوم بدوره الممثل صامويل إل جاكسون- وجود علاقة ما بين برومهيلدا وجانغو، وأن عرض الضيفين المغري ما هو إلا خدعة مرتبة للهرب بالزوجة بعد شرائها بمبلغ زهيد وعدم العودة مجددا لدفع المبلغ المخصص لشراء المصارع الأسود، وابتداء من هذه الانعطافة السردية الخطرة يذهب المخرج تاراتنينو إلى الحقل الدموي الذي يعشقه، حيث نرى الحوار الهذياني للمسدسات والبنادق وهي تصبغ الشاشة بالدماء القانية للضحايا بين الطرفين، ويتحول جانغو إلى آلة قتل مبرمجة لا تتوقف سوى في نهاية الفيلم عندما يقضي على جميع أعدائه ويستعيد زوجته مخلصا إياها من قبضة المستعبدين البيض في إشارة ضمنية لخلاص شامل سيتحقق بعد مرور سنوات قليلة على انطواء هذه الصفحة المظلمة في أرشيف التاريخ الأميركي. استطاع تاراتتينو من خلال هذا الفيلم الحائز على جائزة أفضل سيناريو أصلي في حفلة جوائز الأوسكار لهذا العام، أن يقدم ملحمة بصرية تقرأ معاناة السود في حقبة العبودية من وجهة نظر مغايرة ومستقلة تماما عن الأفلام التي قدمت وقائع مزيفة أو مصاغة في قالب عاطفي وانطباعي عن تلك الحقبة، ويبدو أن تاراتنينو أراد أن يقدم ما لم يره في تلك الأفلام من وحشية استعمارية متوارثة لدى الإنسان الأبيض المتخم بوهم وهوس الاستعلاء والتفوق العرقي على الشعوب الأخرى التي يراها من وجهة نظر عمياء ومبتورة بأنها شعوب متخلفة وبدائية خلقت للخضوع المطلق ولخدمة هذا العرق النقي وهذا الجنس المتميز اجتماعيا وفكريا وإداريا، وهي هواجس أنانية ومريضة تجسدت تقريبا في كافة الشخصيات التي مثلت العرق الأبيض في الفيلم، وخصوصا الشخصية التي أداها بمزاج عال الممثل ليوناردو دي كابريو والتي جسد فيها شخصية الثري الأبيض المشوش داخليا والمتصنع الذي يريد إثبات النظرية العنصرية التي ترى أن السود يحملون في دواخلهم جينات الذل والخنوع والانصياع لأسيادهم البيض. استطاع تاراتنينو أيضا أن يحافظ على الإيقاع المتوتر للفيلم رغم طوله وساعدته الحوارات التي تنزع أحيانا نحو الثرثرة المقصودة والمتناغمة مع تناقضات الموقف وانقسامه بين ضفتي الملهاة والمأساة في تفعيل عنصر الإرتجال الذي يتجاوز في كثير من الأحيان مسارات السيناريو المسبقة، ليدخل في منطقة يعشقها تاراتتينو وتتيح له فرصة ذهبية في إضفاء لمسة من الدهشة الصادمة التي يتحول فيها الشخوص الصارمون إلى ما يشبه الشخصيات الكارتونية خصوصا عندما يكون هناك نقد مبطن ولاذع لسلوك هذه الشخصيات عندما تنجرف في خديعة مركبة، وتستعير وهما هو أكبر من حقيقة الحالة ومن فداحدتها أيضا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©