السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيقاع الأعصاب

إيقاع الأعصاب
11 مايو 2011 20:14
فجأة أخرجُ من بوابة الخوف كمن ينزلق من رحم أمّه لتنفتح أمامي من جديد بوابة القلق القلقُ لازمني طوال حياتي، وكأنه مرافقي الوحيد في هذا العالم الموحش، ولكن قلقي الآن غير قلقي المعتاد. أنا الآن أقلقُ من القدرة التي أعيها للظلام على سحق الضوء، ومن القدرة التي عايشتها للغُبار على احتلال نواحي العيون، ومن القدرة التي جرّبتها لتلك الجيوش التي لا أول لها ولا آخر، والتي تجمعها الكوابيس كي تهزم المياه الجارية في الأحلام. والسماء - كما يتبين لي اليوم - بمستطاعها مشاركة الأرض فرحتها، متى ما تواضعت، ودخلت في نسيج الشوارع، وتركت غيومها تجلسُ بحريةٍ على كراسي المقاهي، ورعودها تؤذن في المساجد، وبروقها تعيد صياغة المرايا، وصواعقها تنزلُ على الظلمات، فتنفجر شلالات الضوء من تحت حذاء العابد المهترئ، ويشرقُ في الفضاء الحالك كلام يمشي على إيقاع الأعصاب. النارُ لربما حين يُتاح لها المجال، أو حتى حين لا يُتاح، ستنمو في الخشب، متى ما كانت الغابة مليئة به، والبحر - وأنا أعرفه جيداً أو أدَّعي ذلك - ليس في زيارة معتادة إلى السواحل التي يزورها كل يوم، كل لحظة، كل آن... إنه مقيم في الزيارة، وله عين كبيرة تنظرُ إلى ما يحدث فيه، أو حوله. ولعلِّي من منطلق تلك المعرفة التي أدَّعيها بالبحر - لا أشك بأنه ذات يومٍ سيقوم من جلسته المعتادة، رافضاً كل تلك الأحوال التي لم تفهمه، ولم تستوعبه، ولم تجعل له أي شأن، وهو البحر الكبير الكبير في كل شيء. والجمعة الكبرى لصلاة الماء... كعبته وروحه الإلهية يأتي الماء إليه، ويذهبُ، إذا ما لزم، إلى الماء بحثاً عنه، في الرؤوس الشاغرة، أم في الحفر، مع الأمطار التي تركض حافية على الاسفلت، أو تلك التي تغرق في الصحراء، أو تلك التي ترقصُ على سطح البحر الأمطار أيضاً لديها موقف مما يحدثُ مما يحدث لي ومما يحدث لها ومما يحدث للبحر... قناعة الموت لطالما أرادت الصحراء الإقامة في الجزر مع الطيور، ولكن الآبار تأخذها دوماً إلى تلك الروابي التي يتسلل منها الغزاة، وقد حملوا الرمل على رؤوسهم والسيوق الصدئة في عيونهم، وقلوبهم التي لا تشبع حملوها على الحمير الجائعة... حملوا التاريخ في جيوبهم يوزعونه على القبائل الوحيدة مدركين أن كل هذا الفراغ لا يملؤه إلا صوت الدم، وجرّة دفنت منذ الأزل تحت غافة ولن يتأخر أحد عن الاستيقاظ المبكر في مخيم الموت ذاك، فالأخبار كما الأمطار تبدو شحيحة عند الصحراء، وليس هنالك من حلٍ إلا التقدم للأمام، نحو المجهول الذي نعرف، أو نحو المعروف الذي نجهل متمسكين أكثر بذلك الخنجر الذي خلفه علينا جدنا الأول، والبعرة التي خلفتها علينا عنزتنا الأولى، والحمامة الأولى التي ناحت قرب قلوبنا، وتركت شوكة في عيوننا المفتوحة على العراء. ومن نسأل بعد ذلك عن أرواحنا وقد ضاعت سدى في هذا الخلاء. هل نسأل السماء المرّة أم الموجة، تلك الموجة الحلوة والتائهة. الموجة لا تلتفت، والسماء لا تجيب، ونحن عصرنا أجسادنا كي يشرب الرمل العطشان رحيق الحياة. أناشيدنا موشومة على أفواهنا، وآذاننا مفتوحة كحلزونات نافقة. ولن يحضر أحد تحت جلودنا إلا ووجد القيح وقد تحول إلى نفط، أو يجد الدم وقد تحوّل إلى حجر... العواصف المهترئة في مرايانا، تدب كالنمل الأشقر في أحلامنا الممنوعة، والأبواب التي اخترعتها الريح أغلقناها في وجه الأمل، ذلك الوحش الكبير الذي سرق أوردة أرواحنا، وتركنا واقفين على الشرفات بانتظار نجمة اللذة. لقد جهشنا بالفراق وجهش بنا، وذاقت أقدامنا حصى اللعنة. ذاقت أفكارنا كسور المستحيل، ومن أول نظرة لقاها علينا المستقبل ونحن نبكي من الخوف، فلربما ذهبنا إلى هناك والتهمنا رحم المجهول، ولربما بقينا هنا قرب هذا البئر الفاترة، وجاءت علينا الذئاب، مع كل ذئب ساحرة، مع كل ساحرة آنية تشرب الدم. دمنا الذي لم يقدم لنا شيئاً سوى هذه الحرب مع الكلام وظلِّنا الذي يتبعنا كما لو أنه من أطفال الشمس الضائعين. الشمس كذلك لن تكف عن الغضب منا، ولن تكف الجدران عن النظر إلينا كأجساد مهزومة، لن تكف الهزيمة نفسها عن شتمنا وطردنا من زريبتها القذرة، ورمينا في الزبالة المقدسة، حيث يسعى البراز للظهور، والفاسد للانتشار، واليابس للزراعة من جديد. النهار كذلك يختفي عندما نلمسه، والليل. يجلسُ الليل في أفكارنا يقلب جمر الحياة فلا يجد إلا فحم العواطف الفاشلة يجلس الليل مع عواطفنا الفاشلة فلا يسمع إلا بكاء النوافذ، وتشدق الإبل بالحنين، والأمواج التي نفقت في الخزانة. لايسمعُ الليل لأرواحنا حِساً ولا مغزى، لا يسمعُ خطوات حياتنا وهي تنزل إلى هذه الدرجة السفلى من الجحيم، لا يسمع نبرات قلوبنا وهي تحكُّ خشب الفقدان. السفن والقوافل تجاهلتنا، وحين جاء الغزاة شربوا معنا القهوة، وأكلوا من صحن التمر ومروا... حين جئنا للغزاة شربنا معهم القهوة، وأكلنا من صحن التمر وعدنا. وليس الكرم والبطولة والشرف إلا أسماء أطلقناها نحن وأجدادنا على نياقنا التي تتحمل العطش، ورملنا الذي يتحمل الشمس، وجبالنا المشهورة بالجوع. ليست الحياة بالنسبة لنا موجودة هنا. الحياة بلاشك مخبأة في مكان آخر، ولن نبحث عنها إذ لم يصل أحد إليها من قبل، ولن تبحث عنّا، إذ من اين ستعرف أننا ميتون هنا تحت كل هذا الوهم. وعل كلٍّ نحن في الأخير راضون عن أنفسنا التي لم نعرفها، وعن رؤوسنا التي تتجول فيها العواصف الصغيرة كالعسف، وعن أجسادنا المهملة كإبرة ضاعت في الرمل، وعن أرواحنا التي أغلقت ككهوف لم يدخلها أحد قط. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©