الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإلهاء.. قصة كُتبت فصولها بعلامات اللغة

الإلهاء.. قصة كُتبت فصولها بعلامات اللغة
11 مايو 2011 20:09
من ضرورات الصحوة الثقافية الجديدة أن نعلم بأن علم الخطاب دائر اليوم على قاعدتين: تفكيك الخطاب الذي هو وجه من وجوه تحليله، ولكنه يتميز بإرادة الكشف عن المضمَّنات التي تقولها بنية الكلام ضرباً مخصوصاً من القول دون أن يكون المستخرج فيها ملزما لصاحب القول إلزاماً إجرائياً، وإنتاج الخطاب وهو الوجه العملي من المعرفة، وعلم إنتاج الخطاب ما هو إلا واجهة أخرى من إحكام قواعد التواصل اللغوي مع سابق الإضمار بإبلاغ المقاصد التي يراد لها الحظ الأقصى من النفاذ، فهو لذلك فعل لغوي تستساغ تسميته بصناعة الخطاب. في كلّ صناعة امتزاج موفق بين العلم والفن، ولا تكون الصناعة صناعة إلا بالتقاء متزن بين ثبوت الموهبة ومهارة الاكتساب؛ كل ذلك يوصلنا إلى المنطلق الموالي وهو البعد التداولي في موضوع اللّغة، سواء من حيث هو حقيقة قائمة بنفسها أو من حيث هو مرتكز جوهري في النظرية التي تتسمّى به فيما يعرف بالمدرسة التداولية. وقد لا يكون عجيبا أن نذهب إلى أن الخطاب السياسي هو أقوى الخطابات تمثيلاً للمعطى التداولي، أما صورة انجلائه فتتحقق في أن الكلام يؤخذ بالضرورة في سياقه الأدائي وفي حيثيّاته التواصلية، وكذلك بالقرائن الدالة على افتراضاته التقديرية مما يفتح منافذ تأويله طبقا لإسقاط المقاصد على النص المنطوق به. ولا يمكن مع ما سبق أن نغفل عن ضرورة استحضار المنطلق المتوِّج لكل ما سبق وهو الاستطلاع على البعد الجديد للعلم اللّغوي في بعده الإدراكي. إن المصادرة التي نجازف بها تقوم – في ظنّنا – مقام الحقيقة الحاضرة في الواقع المتعيّن والغائبة عن الوعي الآسر، أما نصها فهو أن بلاغة جديدة تنشأ مع العقل السياسي، وأن هذه البلاغة ما طفقت تزدهر وتزهو مع انفجار السياسة الكونية الجديدة بكل طوارئها، إننا بحضرة خطاب جديد يحمل أمارات دالة على بلاغة مستحدثة، وما من مستقرئ لبعض تجلياتها المتواترة إلا ويَحْدس بأنّ لها نواميسها الذاتية، بل قوانينها المحايثة، وذلك ما يحفز على إنجاز حفر أركيولوجي تحت أعمدة الخطاب السياسي ويحتم أيضا يقظة جديدة بما يلف عالمنا الذهني من معايير متقلبة. الانخراط الدلالي المشترك السياسة لغة واللغة سياسة لأن اللفظ عند استخدامك إياه فيها يتحول من مجرد دال يحيل على مدلول إلى موقف، ومن ورائه اختيارٌ كامل مرتسم على شاشة الأحداث، وقد يكون في استعمال الكلمة أو العبارة ما يتجاوز حدود الواقعة التي تروم الإفصاح عنها ويصبح حاملا لأعباء التاريخ مختزلا صراعاته الطويلة في انتقاء كلمة واحدة من بين كلمات عديدة أخرى كان يمكن أن تأتي بدلها. إن التأمل المتأني في خصائص الخطاب السياسي بما آل إليه في ضوء سطوة الإعلام وفي ضوء التغير الجوهري الطارئ على آليات التواصل يوقفنا على قانون بالغ الخفاء، شديد التمكن، هو ما سنصطلح عليه بقانون الانخراط الدلالي المشترك، ونعني به أن كل كلمة يختارها المتحدث في سلسلة كلامه تمثل التزاماً بدلالتها التصريحية وبدلالتها الإيحائية، وهذا يؤدي إلى الالتزام الدلالي الواعي باختيار ما نختاره من الألفاظ، والالتزام الواعي بالإعراض عما لا نختاره. وهذا القانون يرجع إلى ما يسمّى في علم تحليل الخطاب بمبدإ التمَوْضع، ويعني أن المتكلم ما إن يتفوه بكلامه حتى يكون قد اتخذ موقعه داخل كل جزء من أجزاء كلامه، وهكذا ينكشف أن من خصائص اللغة أنها تصنع الدلالة أحيانا بما لا تقوله أكثر مما تصنعها بما تقوله، وينكشف أيضا أن الحياد المطلق متعذر على المتكلم في استخدامه اللغة. إن اختيارنا لفظاً من اللغة دون آخر يقحمنا إقحاما في مضامينه كلها، وفي متضمَّناته وتبعاته أيضا، وإن استعمالنا كلمات اللغة يحمّلنا مسؤولية مزدوجة : مسؤولية اختيارها ومسؤولية عدم اختيار غيرها. ومن أوضح الشواهد الدالة على كل ذلك استخدام الناس لعبارة “العالم العربي” فهذه العبارة إذ تردُ على ألسنة الكثيرين كأنهم يتداولونها بضرب من الفطرة القاصرة أو السجيّة الغافلة، هم ينطقون بها على براءة مظنونة، وبحكم ذلك نصادفها بتواتر كبير في عناوين الندوات والمؤتمرات والمقالات والكتب، ولكننا عند التمعن ندرك أن عبارة “العالم العربي” مصطلح له تاريخ، أطلقه المستشرقون، واستوت العبارة على دلالة إيحائية واضحة وهي أن “العالم العربي” مفهوم مخالف لمفهوم العالم الحر، والعالم المتقدم، وربما أيضا العالم الغربي، فهو شقيق في الدلالة والإيحاء لمفهوم العالم الثالث الذي ذاع في أوج القطبيّة الثنائيّة، وتم تكريسه للدلالة على العالم المتخلف قبل أن يتم استحداث مصطلح العالم النامي كبديل فيه كياسة مخاتلة. فباختزالٍ شديد بوسعنا أن نعتبر أن عبارة العالم العربي من المصطلحات التي من المفروض أن يطلقها الآخرون علينا، لا أن نطلقها نحن على أنفسنا، وهذا الحكم يظل صالحا ووجيها حتى ولو أزحنا كل الشبهات الماكرة، وكل التضمينات التي تجول بخاطر الآخرين. إننا هنا نلج بوعي جديد عتبة منظومة المعاني التي تحكم الوجود الجماعي، وتحكم كذلك قوانين الصراع؛ إن مصطلح العالم العربي بمجرد استخدامنا إياه في كلامنا يحمّلنا مسؤولية اختياره، ويحمّلنا أيضا مسؤولية عدم اختيار بديل من بدائله المحتمَلة، ويكفي أن نتذكر العناوين التي راجت من قبيل “العالم العربي والعولمة” أو “الإصلاح في العالم العربي” أو “العالم العربي بين الحاضر والمستقبل” لإدراك قانون الانخراط الدلالي المزدوج بين الطاقة التصريحية للألفاظ وطاقتها التضمينية يكفينا – على سبيل الشاهد التمثيلي – أن نختبر البدائل الافتراضية المحتملة؛ ولننظرْ إلى صيغة بديلة أولى وهي أن نستعمل عبارة الوطن العربي بدل العالم العربي، وهذا البديل سيجعل لكلامنا مضمونا إيحائيا – لمن يعي الفوارق الدلالية ويتبصّر بآليات تركيب الخطاب – مفادُه أن العرب جميعا ذوو انتماء جماعي واحد، وأنه من المفروض أن يكونوا في وطن واحد، وأن التاريخ هو الذي حوّل دولتهم إلى دويلات، وداخلَ هذا التصور ينبغي أن نسميَ تلك الدويلات أقطاراً لا أوطاناً. وقد ينبني القول على بديل آخر فنقول “الأمة العربية” فيكون اللفظ الذي نختاره موحيا بفارق دلالي آخر هو اعتبارنا أن العرب ذوو انتماء قومي واحد، توحّدهم عناصر التاريخ واللغة والعقيدة. وقد يجنح المتكلم إلى صيغة أخرى ويقول “العرب بين الحاضر والمستقبل” أو “العرب والعولمة” فيكون قد قطع الطريق على أي تأويل تحزبيّ إيديولوجيّ، ولكنه سيقع في إشكال جديد وهو أنه بقوله “العرب” كأنما قد خرج هو من دائرة الانتماء، ويكون قد تبنى صيغة من المفروض أن يطلقها الآخرون عنا، لا أن نطلقها نحن على أنفسنا. عندئذ قد يلجأ إلى صيغة أخرى فيقول على سبيل المثال “نحن والعولمة” وعندئذ سيصطدم بعقبة دقيقة تتمثل أولا في انغماسه الكليّ في الالتزام بالذات الجماعية، وانخراطه التام في أشراط الانتماء، وهو ما قد يحول بينه وبين صياغة خطاب موضوعي عقلاني، وتتمثل ثانيا في أنه سيقصي الآخر إقصاء آليا بحيث يتعذر عليه أن يدعوَ – للمشاركة في الحوار الفكري – أعلاماً من غير العرب قد يكونون على درجة عالية من النزاهة والإنصاف. براءة اللغة.. وهمٌ ما يجب أن نخلص إليه مبدئيا هو أن براءة اللغة والحيادية المطلقة في اصطفاء الألفاظ وهمٌ كامل، وأن الموضوعية الفكرية مسألة نسبيّة كثيرا ما يتهاوى صرحها بمجرد عبورها جسرَ اللغة حتى لتقول إن التعامل السياسي مع اللغة – كالتعامل اللغوي مع السياسة – طريق محفوفة بالأفخاخ، وأعظم فخ فيها هو مستنقع التسمية الذي لا مناص لنا من اجتيازه. لقد أفرزت حرب الكلمات بحكم سطوة الإعلام نوعا جديدا من الأدلجة فنشأ ما يجوز لنا أن نقول عنه إنه إيديولوجيا التسمية. والذي أسلفنا قد يبدو للناظر المتعجل بذخاً فكرياً، وقد يتراءى ترفاً يصنعه التأويل الذهني وهو متحصن في برجه العاجي، وليس شيء من ذلك الظن بوجيه ولا رشيق، والدليل هو أن جهات عديدة في مختلف أرجاء العالم تتطوع بتقديم الدعم لعقد المؤتمرات الفكرية، ولكل منها قراءتها للأسماء قبل انخراطها في المسميات، وبناء عليه لن تجد مؤسسة واحدة منها تدعمك إذا بنيت مشروع مؤتمرك الفكري على مصطلح الوطن العربي، أو الأمة العربية، أو العرب، أو نحن، وإنما تدعمك فقط إذا قلت “العالم العربي والعولمة” أو “العالم العربي بين الحاضر والمستقبل”، فالمسألة ليست لا بذخا فكريا، ولا ترفا ثقافيا، ولا تفصّحا لغويا. وإنها سلاح الكلمات في المعركة اللغوية التي هي عماد الحرب النفسية. إن اللغة علامات ولكنها علامات تدل إذا حضرت وتدل إذا غابت، وربما أوهمت أنها تقول وتعرف أن المتلقي سيستدرجه إيهامها، ولكنها تحتفظ بما به تنكر أنها أوهمت. وفي كل الأحوال نحن الذين نصطنع البراءة باللغة، ونحن الذين نتوسل بها لنقيم جسورا من التواصل بيننا وبين الوجود الخارجي، ونحن الذين نحوّلها إلى أداة تصنع المكر وتمعن في الكيد وتؤثث محفل الإغاظة. إن مبدأ التموضع قد كشف جملة من القضايا كلها تندرج ضمن ميثاق الوعي الثقافي الجديد: الأولى هي أن الكلام يحمّل صاحبه مسؤولية محددة حين يفوه به، والثانية أن هامش الموضوعية في استعمال الإنسان للغة هامش محدودٌ جدا ويكاد ينعدم أحيانا، والثالثة أن اللغة – بفعل هذا الاستكشاف – لا يمكن أن تظل على براءتها الموهومة، والرابعة أن الناس يتفاوتون في مدى وعيهم بهذا البعد الآخر من أبعاد اللغة، والخامسة أن استغلال المتكلم لهذا البعد عند تأكده من غفلة الآخرين عنه هو الذي يحوّل اللغة إلى سلاح فتاك على ساحة المناورة بالكلام. كل المسألة قائمة على مبدأ الانخراط في الدلالة كما أسلفنا، وبالتالي على مبدأ المسؤولية عند التداول اللغوي، سواء من لدن المتكلم الباث أو من لدن السامع المتلقي. ولكن الفحص المتعمّق يوقف اللغوي الحامل للهاجس السياسي والمبتغي ضبط آليات تفكيك الخطاب على سمة متناهية في الدقة، وتتمثل في مستويين اثنين تتوزع إليهما قضية الانخراط الدلالي، الأول حين يختار المتكلم بين ألفاظ اللغة بمحض إرادته لفظاً يعبّر به عن مقصده فيكون اختياره كاشفا لموقفه الذاتي على حدّ ما تبين لنا من المثال الذي ضربناه آنفا، ومثل ذلك يحصل أيضا في سياق الخطاب السياسي، ويقع هذا المستوى في مسافة ما بين الدال والمدلول عند التداول اللغوي. أما المستوى الثاني فيقع في مسافة ما بين الاسم والمسمّى، ولا نعني بهما ثنائية الأعلام وألقابهم، وإنما نعني بهما ما يحصل عندما يعمد الخطاب السياسي إلى تسمية الأشياء والظواهر والوقائع، كإطلاق الأسماء على الاتفاقيّات، أو على المعاهدات، أو على قمم الرؤساء، أو على النزاعات والمعارك والحملات العسكرية... بلا تردد نقول جازمين: إن استخدام أي دال لغوي – في مجال الخطاب السياسي – هو انخراط في صدقية مدلوله؛ وهذا حكم محسوم بصرف النظر عن مدى وعي المتكلم بذلك أو عدم وعيه، وينتج عن هذا القانون المطرد أن الوعي يؤكد القصد بينما يؤكد عدم الوعي الانجرار، ومن ذلك كله يستوي قانون الاستدراج، ومفاده أن الانخراط الدلالي يعني تزكية صدقية المدلول، وهذه التزكية تتناسب تناسبا طرديا مع عدم الوعي. فكلما كان الناس غافلين عن مسؤولياتهم في استعمال الألفاظ سَهُل على المناورين استخدامُ اللغة لغزو عالمهم النفسي وابتزاز إرادتهم، ثمّ إعادة تشكيل عقولهم. إن الأحداث التاريخية الكبرى تفقد اللغة كثيراً من طاقاتها لأنها تقلص من هوامش الحركة لديها، ولا غرابة أنها تسلبها بعضا من إرادتها المعهودة فتحوّل متونها إلى ضفاف من الحواشي، فمع انطلاق التاريخ السياسي الجديد انحشرت اللغة الإنسانية في أزقة الاختيار الأليم؛ إذ لم يعد لابن آدم - وهو يستخدم الكلام - ما كان له من فضاء تجهيز المقاصد: إن فاه اللسان تحددت المسؤولية. فحين كانت تحدث الواقعة على أرض فلسطين، أو أرض العراق، أو جبال الشيشان، تتحول اللغة آليا إلى معسكر من معسكرات المواجهة، فكثيرا ما يحصل أن العملية تستهدف جنوداً ولا تستهدف المدنيين على الإطلاق، فإذا باللغة على محك الامتحان: كيف تقول الأشياء؟ كيف تسمّي أطراف الحدث؟ بأي لفظ تصف الموصوف؟ إذا تحدث المتحدث عمن فعلوا الفعل فسماهم بالمقاومين كان في اللفظ الذي يستعمله ما يدل على أنهم أناس يتحركون على أرضهم، وأن أرضهم تلك قد اغتصبها الغازون، وأن ما يأتونه إن هو إلا دفاع عن النفس مشروع. فإن تركنا لفظ المقاومين ونعتنا ما يفعلونه بأنه عملية انتحاريّة، اتخذنا عندئذ موقعا آخر في دائرة الانخراط الدلالي، وهو أنهم مجرمون تحولوا بفعل اليأس إلى دعاة للهدم، يبدأون بإعدام أنفسهم، وهذا هو المصطلح الذي يتماهى إلى حد كبير مع اللفظ الذي يشيع في اللغات الأجنبية من باب الدخيل ذي الجذور اللغوية القصيّة وهو لفظ الكاميكاز، وتلك التسمية كانت محمّلة بشحنة فائضة من العزة والشرف لأن العملية تجسم الفداء المطلق. والفرق واضح بينه وبين لفظ الانتحار، فلفظ الانتحار يدير الدلالة على إنهاء الذات لوجودها ولفظ الكاميكاز يعطيها بعدا آخر يتجاوزها لأنه يمعن في التضحية والفداء. وهنا تتجلى لنا أهمية الانتباه إلى قانون الانخراط الدلالي وفجيعة التغافل عنه. فمن المعلوم يقينا أن الإرث المعنوي في الثقافة العربية الإسلامية لا يتقبل فكرة الانتحار، والسند في ذلك أخلاقي وروحي، ويكفي أن حكم من قتل نفسه كحكم من قتل غيره. هنا يفد علينا البديل الثالث ضمن بدائل التسمية: الاستشهادي، عندئذ نكون قد غيرنا موقعنا داخل سياج الدلالة، فاللفظ مبتكر حديثاً، واللغة المعاصرة تختصر الجملة بأكملها “إني أطلب الشهادة” بصيغة من صيغ الفعل الاشتقاقية، تلك التي تدل على طلب الشيء، فقيل ‘استشهاديّ” على معنى : (طالب الشهادة). وتحدد الفارق بين الدلالتين : قبل لحظة الموت يُطلق اسم الاستشهادي وبعدها اسم الشهيد. أفلا نرى كيف يقحمنا اللفظ الذي نختار في صميم الالتزامات السياسية من خلال هذا القانون الذي نروم صياغته وتجليته، ألا وهو قانون الانخراط الدلالي؟ ويكفي أن نستعصر مما سلف حقيقتين: ? إن الواقع السياسي الجديد سلب من الإنسان حرية التعامل مع اللغة؛ إذ لم يبق له فيها هامش إذا “تموْقع” داخلَه ضمِن لنفسه الحيادَ حيال الحدث وتحلى خطابه بالموضوعية التامة. ? إن غزارة الإعلام والتسابق إلى الخبر وصفقات الارتباط بوكالات الأنباء العملاقة، كل ذلك قد خلق وضعا على غاية من التعقيد في مسؤولية النقل والترجمة وفي أمانة التطابق الدلالي مع ما يشوب ذلك من ارتباك أقصى يفضح تمزق الذات بين تبني الخطاب الوافد وإعادة صياغته وفقا لأخلاقيات الانتماء. ولا يكاد يمر يوم على الراصد للأخبار من خلال الفضائيات العربية جميعها دون أن ينجرح وعيه اللغوي انجراحا قاسيا، ولا نعني – هنا – انجراح الاختيارات المضمنة، وإنما نعني فقط ما تفضحه اللغة من غفلة كاملة عن آليات التضمين وأدوات التوضيب بحيث ينكشف أن الإعلام العربي ضحية الغفلة أكثر مما هو ضحية الاختيارات والرؤى. إن قانون الانخراط الدلالي كان جزءا من “لعبة اللغة” ولكنه تحت وطأة السياسة أصبح هو “كلّ اللغة”. فيما مضى كان اللفظ إذا صيغ في لغته ولم تكن للغات الأخرى خانات تقابله وتماهيه تم استقباله على هيأته من باب الدخيل اللغوي الذي هو ناموس ثقافي مطلق، وعلى هذا الأس المبدئي لم يجد الآخرون حرجا في أن يستقبلوا لفظة (الانتفاضة) تماما كما سبق أن حصل مع لفظة (كاميكاز) أو لفظة (بيرسترويكا) التي أقام عليها غورباتشوف نظريته السياسية. ليست معادلاتنا التي أسلفناها في حاجة إلى الاستدلال المستفيض، ولكنها ستجد صدقيتها الكاملة حين نعلم أن اختلاط المسؤولية اللغوية بالمسؤولية السياسية هو الجنين الحديث الذي تخلقت نطفته في رحم الأحداث المزلزلة لكل ثوابت الفكر الإنساني، فما عاد الأمر تخمينا ظنيا يسبح في رؤى الاستشراف، ولا هو جموح من التأمل النظري المفصوم عن التاريخ، إنه بأيسر الكلمات امتزاج مطلق بحيث يقع التداول اللغوي تحت طائلة التحقيق الجنائي. حرب المصطلحات في الذاكرة العربية جرح من جراحات الحرب اللغوية المفتوحة على الدوام، ففي 25 فبراير 1994 حصلت مذبحة الحرم الإبراهيمي. يومها علق بيل كلينتون – وهو على سدة البيت الأبيض – على الحادثة فقال : “إن باروخ جولدشتاين مجنون” ثم حث “الجانب الفلسطيني” على استئناف مفاوضاته مع إسرائيل، وها نحن أمام مشهد من مشاهد حرب المعاني، إنه تصنيع الخطاب بتسخير آليات الاستدراج وجعل اللغة مطية لصياغة صورة مفارقة للوجود تؤدي فيها وظيفة الإيعاز والمخاتلة أكثر مما تؤدي وظيفة الإبلاغ. إن مرتكب المجزرة ذاك هو طبيب، شهد الإعلام بأنه يمارس عمله بكل مداركه العقلية، فحكمُ كلينتون عليه بالجنون يتيح له بأن يظهر بصورة المنصف دون أن يكون قد التزم بشيء، هي لعبة المراوحة بين الحقيقة والمجاز، فالفاعل ليس مجنونا على الحقيقة وإن كان التصريح يوهم بأنه مجنون على الحقيقة، والفاعل مجنون على المجاز لأن فعلته مرفوضة، ولكن ارتكابه إياها لا يُدينه لأنه انخرط في سلك المجانين ساعة إنجازها، وهكذا تترتب رسالة كلينتون ضمن استراتيجية صناعة الخطاب كما يلي: الفعلة عمل فردي، والجيش الإسرائيلي بريء، والحكومة الإسرائيلية بريئة، وهكذا تغيب فكرة الإرهاب، وفكرة العنصرية، وفكرة التطرف، ويغيب معنى الإجرام، وبناء على ذلك تحتجب ضرورة التنديد، ويضيع مبدأ المحاسبة والعقاب، أما الغائب الأكبر فهو الاعتذار لدى أهالي الضحايا ولدى من يمثلهم. عندما حصلت أعظم مظلمة في التاريخ عام 1948 بإحلال أشتات - لا يمتلكون وطنا ولا يتوفرون على الأشراط الأولى لمفهوم الشعب - محل شعب في وطنه ثم وقع تهجيره بعد استلاب أرضه أطلق العرب على ذاك الخطب الجليل عبارة “النكبة”. ولما اندلعت الحرب من جديد عام 1967 انبرى الجميع تلقائيا يتحدّثون عن النكبة من جديد، وحيث إن الاسم قد تم تكريسه لِمَا حصل عام 1948 – والناس في التداول اللغوي يحكمهم قانون الاقتصاد الأدائي فيتحاشون الاشتراك دفعا للالتباس – فقد برز على السطح لفظ الهزيمة، ثم تيقظ الحس الكليم فراح الخطاب الرسمي يدفع بالإعلام إلى استخدام لفظ النكسة بدلَ النكبة وبدل الهزيمة، وسرعان ما أصبح اللفظ عنوانا على السياسة الرسمية التي تصر على تبرئة نفسها تسويغا للبقاء، ولكن الاستعمال كرسه حتى على لسان أشرس المعترضين بمن فيهم ناظم الهوامش على دفاتر النكسة. إن الضمير العام يشتغل بموجَب الحدس اللغوي الغامض، لذلك يتعين تفكيك دلالة الألفاظ إلى مركباتها الجنينية الأولى، إن النكبة في قاموس العرب الأوائل تعني حصول الرزية في الأمر العزيز في وقت غير متوقع حصولُها فيه على الإطلاق، وجلال النكبة أن الرزية قطعيّة باتة لا أمل معها في عودة ما نُكبنا فيه، لذلك كانت العرب تقول – في الفصاحة النقية الأثيلة – نُكِبَ الأبُ في ابنه بينما تقول فقدَ الابن أباه. وعلى نفس النسق تقوم دلالة مفردة الهزيمة، فهي تطلق عندما يخسر الإنسان الحرب بالكلية، لذلك شاعت عبارة تدفع شبح الخسارة القطعية الباتة وهي قول القائل : خسرنا معركة ولم نخسر الحرب؛ فالنكبة والهزيمة مفردتان تتجذران في أبدية الحدث؛ ولهذه الأسباب حصلت ردة الفعل بتأهيل مفردة النكسة، ففي دلالتها الأولى أن حالة الانتكاس حالة عرضية طارئة كما لو أنها صورة من صور الفرّ سيعقبها مشهد الكرّ. ذخيرة إسمها الكلمات الحقيقة أن الكلمات ذخيرة حية على مسرح الصراع، بل اللغة ذاتها ساحة من ساحات العمليات في فضاء المعركة. ولئن ساد غياب الوعي – في مجالنا العربي – بكل ملابسات هذه الحرب الخاصة، التي تحاك فصولها بالألفاظ، وتنمق لوحاتها بزيوت مكر الخطاب، فإن بعض أشعة النور تخترق العتمة حينا بعد حين: انكبت ثلة من الراصدين الباحثين – بإشراف اتحاد الصحفيين العرب – على استقراء لغة الإعلام، من خلال الإذاعة الإسرائيلية التي تبث باللغة العربية، واستمر البحث اللغوي الميداني طيلة عامي 2000 – 2001 وأثمر كتابا تولى إعداده صلاح حافظ وحمل عنوانا كاشفا (حرب المصطلحات)، وقدم له الكاتب الصحفي إبراهيم نافع فاشتمل على مراجعة نقدية شاملة للكلمات بما يدل على أنها عُدة حربية قائمة بنفسها، وأبان الاختلال المكشوف بين استراتيجية القبض على آليات الذهن والإدراك من خلال تداول الألفاظ من جهة وغباء الانسياق إلى استعمال الكلمات دون وعي بتضميناتها الدلالية والنفسية من جهة أخرى. وبين عشرات العبارات التي يتداولها الخطاب العربي – إعلاميا أو سياسياً – نقف على مَصْيدة اللغة وأفخاخها، وليس غريباً أن يفاجأ القارئ العربي بأن مجرد استخدامه لعبارة (قوات الأمن الإسرائيلية) أو عبارة (التوغل) هو غباء سياسي مهين. وطفق الوعي يتفشى، وانبرت بعض المهج الواعية تتولى تطهير الذاكرة بواسطة غسل الكلمات كالذي فعلته مجلة سطور (ع 28 سبتمبر 2003)، حيث ترسم الجداول الثنائية: المصطلحات المغشوشة التي تندس بين الألسنة بترويج مضمر، والبدائل التي من الظنون أن يتوخاها الإعلام العربي، ومن بين ما يتكشف للقارئ أن عبارة (حرب الأيام الستة)، ما هي إلا (تسويق إسرائيلي لتسمية حرب 1967 على أساس تشبيهها بفعل النبي يوشع عليه السلام عندما شن حرب الستة أيام على أعدائه، وظل يحاربهم إلى أن حل مساء الجمعة، فطلب من اللّه أن يؤخر غروب شمس ذلك اليوم حتى يجهز على أعدائه، قبل أن يبدأ يوم السبت. فتلك المصطلحات صناعة يهودية لتبرير الحروب التي خاضوها لسلب أرض فلسطين وإضفاء القدسية عليها بموجب المرجعية التوراتية كما تمثلوها). إيحاءات إن القضية أكثر تعقدا مما قد يتبادر، وهي بالغة التشعب والمعاضلة. وبوسع الخاطر أن يبحر في شقائق الأسماء ليجوس عبر نوافذها فيرى تواليَ المشاهد كما في شريط وثائقيّ، وكلها يحكي جدل انخراط العرب في دائرة الالتزام بمضمنات المعنى، وهكذا تتدرج الألفاظ من أرفعها التزاما بكل الإيحاءات الملازمة لدلالتها على الأسماء إلى أقربها ارتباطا بالشائع من الأعراف القائمة: الكيان الصهيوني/ الدولة الصهيونية/ الدولة العبرية/ الكيان الإسرائيلي/ إسرائيل. وفي أشد لحظات البطش التي مارسها شارون على المقاومة الفلسطينية كنت تسمع أصواتا عربية تعلن احتجاجها على (الإدارة الإسرائيلية الحالية)؟ من العسير جدا – بحكم قوانين الدلالة اللغوية وتحركها الجدلي على محور الزمن – أن ننعت العربي الآن بالغباء أو حتى بالغفلة إذا استعمل لفظ (كنيست) ولم يستعمل (المجلس النيابي للكيان الصهيوني) أو قال (المستوطنات الإسرائيلية) ولم يقل (المستعمرات الصهيونية) إن القضية هنا لا تتصل بالاستعمال اللغوي، ولكنها تتعلق بالوعي الإيحائي المندرج ضمن خانات التداول، نحن هنا حيال آليات إنتاج المعنى أكثر مما نحن حيال المعنى ذاته. إن الإلهاء قصة كُتبت فصولها بعلامات اللغة، وصُوّرت مشاهدها على مسرح الفضاء الطلق بين الفكر والسياسة : فالفكر يبحث عن الحقيقة ولكن الحقيقة في السياسة حقائق. والفكر يحترم الأخلاق وإن لم يأتمر بأوامر الأخلاق، ولكن السياسة تأمر الأخلاق بأوامرها. والفكر يستعين باللغة حتى يبث الأفكار، ولكن السياسة تكرّس اللغة لاسترقاق الأفكار. وبين أقواس قزح على شاشة الإلهاء درجات من الطيف عددها بحسب عدد الألفاظ والعبارات والجمل والخطابات: لا لأنها تستعصي على الضبط والتبويب، ولكن لأنها تتأبى على الفرز، لأن العرب تواقون باللغة إلى الاستثناء، والعرب – ليقينهم بأنهم هم أهل الفصاحة والبيان – فاتهم أن السياسة في زمننا تطبخ في ورشات صناعة الخطاب قبل أن تبسط على موائد التهام القرارات. إنه لن يحذق السياسة من لم يتقن لعبة اللغة، ولا ننفك نردد ونكرر أنّه لن يُغنيَ العربَ مال ولا مجد ولا عدد ما لم يتمرسوا بآليات الخطاب في زمن صناعة الخطاب، ولن ننيَ في الإلحاح بأن للوعي الثقافي الجديد باباً متعيّناً، ألا وهي إعادة اكتشاف علاقتنا باللغة. * ألقيت المحاضرة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في الاسبوع الأخير من ابريل الماضي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©