الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيف تحرر علم الجمال الموسيقي من سلطة الإحساس؟

كيف تحرر علم الجمال الموسيقي من سلطة الإحساس؟
21 يوليو 2010 20:39
هل تعبر الموسيقى عن أشياء مرئية أو مشاهد عاطفية؟ وهل تصور الأحاسيس أو تشرحها؟ بل هل الموسيقى والأحاسيس كلمتان مترادفتان؟ وما العلاقة بين الموسيقى والفكر؟ وهل الموسيقى متعة عقلية، يمكن تذوقها ذهنياً؟ يؤكد العالم الموسيقي النمساوي إدوارد هانسليك بأن هناك فرقاً بين التذوق الجمالي للموسيقى وبين التذوق الحسي والجسدي لها. وإذا كانت الأحاسيس تقول الكلمة الأخيرة في عملية الاستقبال الجمالي الموسيقي فهذا لا يعني أن فن الموسيقى هو مجرد عملية تصوير أو نقل أو شرح لأحاسيس بعينها، فالغابة تعطي ظلالاً، ولكن لا يمكن أن نعتبر الظلال غابة!. لقد عمل هانسليك (1825 ـ 1904) في حياته الفنية الطويلة جاهداً لنقد الفكرة الشائعة التي تؤكد على أن مضمون الموسيقى هو تصوير الأحاسيس، ويعتبر كتابه “الجميل في فن النغم” الصادر في عام 1854 حجر الأساس في علم الجمال الموسيقي الحديث، إذ إنه أعطى أسساً نظرية متينة، لم تتقوض ولم تهتز خلال قرن ونصف القرن من الزمن، رافضاً الصورة الرومانسية التي يراها البعض للفنان الموسيقي والتي تتلخص بالشطط في المزاجية والإلهام والوحي!. وقد ترجم هذا الكتاب المرجع إلى العربية لأول مرة الموسيقار السوري د. غزوان الزركلي، وصدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب. الصدام مع فاغنر يذكر اسم الدكتور إدوارد هانسليك مقروناً باسم المؤلف الموسيقي الألماني العبقري ريتشارد فاغنر (1813 ـ 1883) الذي أراد أن يبدع موسيقى درامية ذات أبعاد ملحمية معتمدة على الخيال الجامح والكلمة الشعرية الألمانية، وهدفَ إلى خلق بناء درامي جديد يقوم على جذور أوروبية جرمانية. وقد كان هانسليك ناقداً لاذعاً له، حيث رأى أن على الموسيقى الكلاسيكية الألمانية أن تستند إلى التراث الكلاسيكي، وتنهل من معين الموسيقى الشعبية الألمانية. كما دافع عن الموسيقى الآلية التي لا تدخل في بنائها الكلمة الأدبية، لأنه عندما تدخل الكلمة ـ برأيه ـ يصبح (تأويل) الموسيقى أسهل على التناول، وتصبح الموسيقى أقل تجريداً. ففن الموسيقى من وجهة نظر هانسليك هو علم له قوانينه الخاصة، وصنعة لها أصولها وقواعدها، والموسيقى بذاتها لغة سمعية وليست كلامية، وجوهرها يقع ضمن أطر موسيقية بحتة. ويأتي كتاب هانسليك الهام في مرحلة كان فيها علم الجمال الموسيقي قد وصل إلى ذروة عالية في التفصيل والشرح مع تقدم العلوم الفلسفية في أوروبا، وأيضاً مع وصول الموسيقى الكلاسيكية في عصرها الرومانتيكي إلى درجة عالية في التركيب والتعقيد. حيث بلغت أرفع ما وصل إليه الإنسان في مجال (الصنعة) الموسيقية، وقدمت في أسمى أشكالها فكراً إنسانياً بالغ العمق، ومازال الموسيقيون إلى اليوم يعتبرونها مثلاً أعلى يتطلعون إلى الوصول إليه في أعمالهم الفنية. الخيال مرجع جمالي كانت الفكرة الشائعة في القرن التاسع عشر والمستمدة من عصور سابقة تؤكد على جماليات الأحاسيس، حتى كاد علم الجمال الموسيقي يوازي الحديث عن وصف المشاعر. وتمحورت النظرية الجمالية الموسيقية على أن مضمون الموسيقى هو تصوير الأحاسيس. إلا أن هانسليك رفض هذه الفكرة، ورأى أن الموسيقى لا تحتاج إلى مفاهيم، بل هي تفسر نفسها بنفسها، معتبراً هذا المنهج منهجاً لا فلسفياً، ومنظومته الجمالية تلبس صبغة عاطفية ممطوطة، قد ترضي أصحاب القلوب الرقيقة، إلا أنها من ناحية أخرى لا تعطي الحد الأدنى للفهم. ويؤكد المؤلف أنه ليس هناك قوانين طبيعية أو فنية يمكن أن تثبت الارتباط بين مشاعر معينة وقطع موسيقية محددة، فالإحساس ليس غاية الفن، والموسيقى لا تهدف إلى تحريكه، فلا وجود لغاية عند (الجميل)، لأنه مجرد (شكل)، يمكن استخدامه لأهداف مختلفة عندما يكون له (مضمون)، رغم أنه موجود بذاته فقط ودون هذا المضمون، وإذا كان تذوق الجميل يؤدي إلى إثارة مشاعر لطيفة، فهذه ليست هي (الجميل) ذاته. إن غاية الفن عند هانسليك هي تقديم الجميل فحسب. والحاسة التي تستقبل الجميل ليست هي الإحساس، وإنما الخيال، أي القدرة على التبصر والتفكر، فمن خيال الفنان تنطلق المقطوعة الموسيقية موجهة إلى خيال المستمع. والخيال ليس مجرد نظرة وإطلالة، وإنما تبصر وتفكير يقرن التخيل بالتقييم. وهو لا يشكل منطقة معزولة عن غيرها، فحالما ينفلت من عالم الشعور يبثُّ سيالته إلى عالم العقل وعالم الأحاسيس معاً. وبهذا فإن هانسليك يضع الخيال وليس الإحساس كمرجع جمالي أعلى. مضمون فن النغم بعد أن يبحث المؤلف في الشكل، ينتقل إلى المضمون، وهما المقولتان الرئيستان في علم الجمال. فيرى أن مضمون فن الموسيقى لا يكمن في تصوير الأحاسيس، بل إن طبيعة الجميل في التأليف الموسيقي أنه جميل من نوع موسيقي بحت. فهو غير مرتبط بوجود موضوع آت من خارج الموسيقى. إنه جميل يوجد في الأنغام وفي تركيباتها الفنية، والعلاقات المنطقية لها وفتنة أصواتها، وانسجامها وتباينها، وهربها وقدومها، وتحليقها وبلوغها، وهذا ما يتوارد إلى خيالنا وهذا ما نراه جميلاً. فالعنصر الأصلي للموسيقى هو النغمة المريحة للنفس، وجوهرها هو الإيقاع في معناه الواسع، أي في انسجام حركة المبنى المتناظر، كما في معناه الضيق، أي الحركة المتغيرة والمحكومة بقوانين مضبوطة. والمادة الموسيقية يفترض أن تعبر عن الأفكار الموسيقية. والفكرة الموسيقية المكتملة والظاهرة هي حقاً جميل مستقل، وهي هدف لذاته وليست وسيلة جديدة أو مادة تصلح لتجسيد الأحاسيس والأفكار والمفاهيم. ويضرب هانسليك مثلاً ليوضح فكرته، فيستشهد بفن الأرابيسك، وهو نوع من التزيين المجرد اخترعه العرب، فيقول: نرى في لوحة الأرابيسك خطوطاً ممشوقة هابطة مرة برقة، وصاعدة مرة أخرى إلى العلاء، متلاقية ومتباعدة، تتراسل فيما بينها بأقواس صغيرة وكبيرة، وقد يبدو أنها متخلية عن الانضباط في الخط، إلا أنها دائماً متناسقة الأطراف مستوعبة في مجمل اللوحة أضداداً وحلفاء، إنها جامعة لتفاصيل صغيرة وباقية كلاً كبيراً. وبذلك تتحول اللوحة إلى منبع يضخ فكراً فنياً يجمع الخيال الواسع. وهكذا فإن للموسيقى معنى وهدفاً موسيقيين، وهي لغة نحكيها ونفهمها، ولكن ليس في مقدورنا أن نترجمها إلى لغة أدبية، وإنه لذو دلالة عميقة أن نتحدث عن أفكار في العمل الموسيقي، وأن نميز بيسر ما بين أفكار ضعيفة وبين كلام لا أكثر، ونميز المكتمل ذهنياً بين مجموعات الأنغام، لنسميه جملة موسيقية، ونشعر بدقة بالغة ـ كما في أي جملة منطقية ـ باكتمال المعنى. بين المؤلف والمستمع إذاً، إن الخيال وليس الإحساس ـ عند هانسليك ـ هو جهاز الفعل التأملي الخالص الذي يصدر عنه (الجميل) في الفن، ويأتي إليه إبداعاً وتذوقاً بشكل مباشر. ولهذا دعا إلى تحرير مبدأ الجمال الموسيقي من السلطة التي اغتصبها (الإحساس) لإعادته إلى سلطة الجميل الشرعية. ومع ذلك، فإن الكاتب لا يرمي بالأحاسيس جانباً ولا يهمشها، وإنما يقر بأن التعبير عن المشاعر في واقع الحياة الموسيقية يلعب فعلاً دوراً مهماً وأكثر من واضح. ولذلك فهو لا ينظر إلى العمل الفني في حدود ذاته، وإنما كملتقى وسط فعّال ما بين قوتين حيتين: ما هو قبل وما هو بعد، أي المؤلف الموسيقي والمستمع. ففي روحيهما تسري الفعالية الفنية للخيال، ولا تكون جامدة كعمل فني منته مصبوب في المعدن البارد، وإنما تعيش في علاقة تبادلية مع المشاعر والأحاسيس. والإحساس طبقاً لذلك يأتي قبل وبعد العمل الفني الجاهز: قبل عند المؤلف الموسيقي، وبعد عند المستمع، حين يكتسب الشعور أهمية لا يمكن التغافل عنها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©