الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تاريخ العرب يتكرر بالخطايا نفسها

تاريخ العرب يتكرر بالخطايا نفسها
21 يوليو 2010 20:38
منذ أن أصدر أحمد شفيق باشا “حوليات مصر السياسية” في العشرينات من القرن الماضي، لم تتم طباعتها مرة أخرى، وصارت نادرة مثل المخطوطات، حتى النسخ المحدودة والمحفوظة بدار الكتب المصرية باتت مهددة بالتلف من كثرة الاستعارة حيث يرجع إليها الباحثون والدارسون، فهي اليوم أقرب إلى المصدر التاريخي، ومنذ سنوات والهمس يدور في أروقة الناشرين حول اعتزام بعضهم إعادة طباعتها حتى قامت إحدى المكتبات بتصويرها ودفعها إلى السوق. وظهر منها الجزء الأول، وهو يتناول حال مصر من عصر محمد علي وحتى عام 1920، أي إلى تاريخ قيام ثورة 1919 وانتهاء المرحلة الأولى منها. الجزء الذي بين أيدينا يكشف عقلية التعامل مع تاريخ مصر الحديث آنذاك أي وقت كتابة هذا العمل، إذ اعتبر فريق أن تاريخ مصر يبدأ بتولي محمد علي حكم مصر في مايو 1805. وكان المؤلف من هذا الفريق ولا غرابة في ذلك فالرجل عاش وعمل في كنف الأسرة العلوية إذ بدأ حياته، كما أوضح في كتاب آخر ـ “مذكراتي في نصف قرن” ـ في القصر الخديوي، عمل مع محمد توفيق، منذ أن كان ولياً للعهد في زمن والده الخديو إسماعيل. توفيق هو الذي ابتعثه إلى باريس لدراسة العلوم السياسية، وظل في الديوان الخديوي حتى عام 1914 أي مع خلع الخديو عباس حلمي وكان أحد الذين تم إبعادهم معه، ولذا نقل من رئاسة الديوان الخديوي إلى الأوقاف، مدير عموم لها، وظل قريباً من القصر حتى وفاته عام 1940. يبدأ شفيق باشا تاريخ مصر من محمد علي، ويخصص له أقل من ست صفحات، ويقفز منه مباشرة إلى عصر إسماعيل باشا، ويتجاهل ما بينهما، يقول: “وقد ضربنا صفحاً عن ذكر تاريخ إبراهيم وعباس الأول وسعيد لأنه لم يحدث في أيامهم ما يستحق الذكر”. وظلت هذه النظرة تحكم المؤرخين حتى عقدين من الزمن، على الرغم من أن عهد عباس شهد بداية دخول السكك الحديدية إلى مصر ومع سعيد تم امتياز حفر قناة السويس للشركة الفرنسية ومهندسها ديليسبس وبدأ تصعيد المجندين المصريين إلى درجة الضباط وصدرت اللائحة السنية بتمليك المصريين الأراضي الزراعية، لأول مرة منذ عهد الفراعنة، وغير ذلك كثير، وعلى الرغم من أن المؤرخ ينتمي إلى أسرة محمد علي فإنه يهاجم بضراوة فترة حكم إسماعيل وشخص إسماعيل ذاته، ويهاجم بضراوة أكثر مشروع قناة السويس “إنشاء هذه القناة من حيث هو مشروع تجاري اقتصادي لم يكن من المشروعات التي تعود على مصر بالفائدة التي عادت على سواها من الشركة الأخرى وحسب. بل تعداه إلى أنه أدى مباشرة لتغيير مسار التجارة التي كانت تخترقها مارة بالإسكندرية والسويس، فأضاع عليها فائدة مالية كبيرة كما كان سبباً لطمع إنجلترا فيها”. حال مصر ويصف حال مصر في عهد إسماعيل بالقول “كانت شؤون مصر تزداد فساداً على فساد من جراء اندفاع إسماعيل في تيار الإسراف والاستدانة من الخارج وطمع الملايين الذين كانوا يقرضونه المال بفوائد تبلغ حد الربا الفاحش”، ويقول أيضاً “لقد عاشت مصر ضائقة مالية نتجت عن تبذير إسماعيل في إنفاق الأموال على الكماليات أولاً. حيث اتخذ من بلاط نابليون الثالث ملك فرنسا مثالا يحتذى به. وأراد أن يضارع نابليون في كل شيء وهو من طبعه ميال إلى التبذير”. وفي حديثه عن إسماعيل لا يغفل إيجابياته أو ما يطلق هو عليه “الإصلاحات الداخلية في البلاد” والتي ظل يقوم بها حتى عام 1875 أي قبل خلعه بأربع سنوات، وتتمثل هذه الإصلاحات في حفر 112 ترعة طولها نحو 8400 ميل وزيادة السكك الحديدية من 175 إلى 1185 ميلاً ومد شبكة التلغراف بنحو 500 ميل وبناء نحو 430 جسراً وإنشاء 14 معملاً للسكر فضلاً عن تحديث القاهرة وعدد من المدن المصرية مثل الإسكندرية. ويستعرض المؤرخ تفاصيل احتلال بريطانيا لمصر، ثم يتوقف عند مسألة مجهولة لدى الكثيرين ولا يتم التركيز عليها، وهي أن الإنجليز حين دخلوا مصر عام 1882 تذرعوا بحماية عرش محمد توفيق من أحمد عرابي، وبعد أن استقر العرش كان عليهم أن يخرجوا من مصر ثم تذرعوا بحفظ الأمن وإصلاح أحوال مصر، وفي عام 1884 كانت هناك مطالبة لهم بالجلاء وحدثت مفاوضات فعلية حول الجلاء بين الباب العالي وإنجلترا وأسفرت عن اتفاق “دريموند وولف” والذي نص على أن يخرج الإنجليز من مصر خلال ثلاث سنوات وجاء في الاتفاق أن يكون للإنجليز حق العودة بجنودهم إذا حدث أي اضطراب في مصر يوجب ذلك، والعودة تكون مخولة لهم وحدهم. وقع على الاتفاق مندوبو الدولتين ورفع إلى السلطان العثماني لاعتماده وبدء التنفيذ، وأوشك السلطان على التوقيع لكن فرنسا سعت لديه ليوقف توقيعه بدعوى أن بريطانيا يجب أن تخرج بلا قيد أو شرط ولذا لم يوقع وساندت روسيا فرنسا في هذا الموقف، وكانت النتيجة أن بقي الاحتلال البريطاني لمصر. ويجب أن يذكر أن اتفاق الجلاء سنة 1954 كان به نص مشابه. شخصيات وسياسات التركيز الأكبر للكاتب في هذا الجزء على ثورة 1919 وما جرى فيها، وعلى الرغم من أنه ابن الديوان الخديوي لكنه شديد الإعجاب بحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول، وما جرى من أحداث الثورة التي يرصد الكثير من تفاصيلها الدقيقة، وعلى طول الكتاب سوف نجده منحازاً إلى استقلال مصر ومن يعمل في هذا الاتجاه، لذا يتحدث بإجلال عن الزعيم الشاب مصطفى كامل وما قام به حتى لو اختلف مع بعض خطواته ويبدي إعجابه بالزعيم محمد فريد، وحديثه كذلك عن الشيخ علي يوسف والحزب الذي أسسه “الإصلاح على المبادئ الدستورية” ولا يحتفل بالشخصيات السياسية التي انحازت إلى الأجانب أو رآها هو كذلك مثل نوبار باشا ويتجاهل بطرس باشا غالي ويتحدث بتقدير شديد عن أحمد عرابي ورفاقه ويلتمس لهم الأعذار فيما قاموا به، حيث سيطرة العنصر التركي على الجيش المصري، من دون العنصر المصري. ويرصد كذلك تحولات شخص مثل الخديو توفيق من إنسان منحاز إلى الإصلاح متعاطف مع عرابي ورفاقه في البداية ثم ينادي عرابي بخلعه عن العرش فيحتمي بالإنجليز. ويحدد شفيق باشا منهجه في التعامل مع التاريخ وقد استقاه من نصيحة أستاذه الفرنسي “مسيو البير سوريل” أستاذ التاريخ السياسي بمدرسة العلوم السياسية بباريس “إذا تقدم أحدكم لوضع تاريخ فليجعل همه الأول التجرد عن كل تحزب أو تعصب. وألا يكون له ضلع مع فئة من دون أخرى. وأن يتحرى الصدق في الرواية ويتمحص الحقيقة في الحوادث. ولا يلهيه التفصيل عن الإجمال”. هذا الكتاب مهم اليوم ليس فقط ككتاب في التاريخ، بل هو كتاب في الحاضر كذلك باعتبار أن القوى الكبرى لا تزال تحاول فرض سطوتها على البلاد الضعيفة والتدخل في شؤونها بمختلف الذرائع. قد تختلف الأسماء والمسميات اليوم عنها في القرن التاسع عشر ولكن الأفكار كما هي، والمبدأ المسيطر هو القوة والقوة وحدها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©