السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحياة تتنفس الهواء القديم

الحياة تتنفس الهواء القديم
21 يوليو 2010 20:36
بعد تسع مجموعات قصصية وثلاث عشرة رواية يقدم الروائي والقاص المصري محمد البساطي روايته الجديدة “أسوار” التي تضاف إلى هذا المنجز الروائي الذي يجعله من أغزر كتاب الرواية والقصة المصريين إنتاجا. وعلى الرغم من أن الرواية من حيث الحجم يمكن اعتبارها قصة طويلة إلا أنه حاول فيها أن يرصد بتكثيف شديد حياة أب وابنه ورثا عن بعضهم البعض مهنة العمل في السجن مما يجعلهما يكتشفان ويكشفان من خلال سرد تلك التجربة التي يتولى الابن في الرواية مهمة سردها ما يحدث وراء أسوار السجون من قمع وتغييب لوجود أناس جل ذنبهم أنهم يحملون آراء مخالفة لرأي السلطة وممارساتها. تنتمي الرواية التي تتميز بلغتها البسيطة الأقرب إلى اللغة المتداولة في الحياة اليومية إلى تيار الرواية الواقعي حيث يلعب العنوان الذي يأتي نكرة بصيغة الجمع، ويحمل دلالة مكانية غير محددة دورا هاما في تكثيف صورة العالم الروائي والإيحاء به من خلال ما تحمله كلمة أسوار من دلالات تشي بمعنى الحدود المقيدة للحركة والعبور في المكان، والتي تحجب ما وراءها، حيث تأتي حركة السارد في المكان واختراقه لتلك الأسوار لتضيء جانبا هاما مما تخفيه تلك الأسوار خلفها من عالم شديد القسوة والقمع والهدر للخبرات العلمية المصادرة بسبب مواقفها السياسية التي تفضح تردي الواقع وفساده. رواية المكان يمكن اعتبار رواية “أسوار” هي رواية المكان بدءا من العنوان الذي يؤسس لحضور المكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية، ويتحرك فيه بطل الرواية بين عالمين مختلفين، عالم السجن وخارجه المتمثل في منطقة سكن العالمين في السجن حيث يتميز الأول بمحدوديته وضيقه وفقره وانفتاحه على المكان المفتوح من خلال بواباته المحروسة التي يعبر منها بطل الرواية ومسؤولو السجن كل يوم، فيما يتميز المكان الثاني بالاتساع والفضاء الواسع وهو يطل على عالم السجن المغلق من خلال سطح بيت البطل، ما يجعل الحركة في المكان محكومة بهذا التباين بين طبيعة المكانين ومكان وقوف السارد/ البطل الذي يهتم بوصف المكان وتقديمه. وإذا كانت العلاقة بين المكان والزمان في الرواية هي علاقة جدلية لأن كلا منهما يستدعي حضور الآخر، إلا أن الروائي عمل على عدم تحديد هوية هذا الزمان من خلال غياب الإشارات التاريخية التي يمكن أن تحيل على زمن محدد، وبذلك يتطابق الزمن في هذه الرواية مع عنوان الرواية الذي جاء نكرة غير معرف ويحمل دلالة مكانية عامة لا تحيل على مكان بعينه ينتمي إلى بلد محدد، إلا أن أسماء الشخصيات واللهجة التي يدور بها حوار الرواية تكشف عن البيئة الاجتماعية المصرية التي تنتمي إليها أحداث الرواية وشخصياتها، إضافة إلى وصف المكان الخارجي من قبل بطل الرواية الذي هو السارد لأحداثها ووقائعها. وتفصح واقعية الرواية فنيا عن نفسها من خلال جملة الاستهلال التي تعنى بوصف مكان السجن و منزل بطل الرواية/ السارد الذي يطل على السجن، ويكشف له حركة السجناء ولباسهم الذي يدل على طبيعة قضاياهم وأحكامهم، وبذا تبدأ حركة السارد من المكان المفتوح المطل على المكان المغلق: “السجن غير بعيد عن البيت، أراه بسوره المتعرج عندما أكون فوق السطح أطعم الحمام، وأراقب الحركة في ساحته الواسعة. المساجين بملابسهم الزرقاء هنا وهناك، بحثا عن دفء الشمس. ثلاثة أو أربعة بالملابس الحمراء محكوم عليهم بالإعدام، يتحركون بين الآخرين أشبه برايات الخطر يسحبون خلفهم مقاطف يجمعون بها ما تقذفه زوابع الهواء من أوراق أشجار وجرائد وكراسات مدارس”. تبدأ علاقة بطل الرواية/ السارد مع عالم السجن منذ طفولته عندما كان ابوه الذي يعمل فيه يأخذه معه، وهناك تبدأ علاقة الطفل مع عالم السجن عندما يتواطأ معه أبوه على حمل رسالة من أحد السجناء إلى أهله، مقابل جنيه يأخذه وجنيه آخر عندما يعود بالرد ما يؤدي إلى تحسن وضع العائلة الفقيرة . يقتفي بطل الرواية أثر والده الذي كان يقوم بتربية الحمام على أسطح البيت إلى جانب عمله في السجن وعندما يموت الأب يحل مكانه أيضا في نفس العمل. السارد العليم ولأن بطل الرواية هو الذي يقوم بمهمة السرد في الرواية، فإن مهمة تنظيمها وتقديمها تقع عليه، وبذا تقدم تلك الوقائع والأحداث من خلال وجهة نظره، لاسيما وأنه يتميز بحضوره الكلي في كل مكان وبمعرفته بكل ما يدور وما تشعر به شخصياته أوتفكر فيه، بل أن حركة السارد في المكان هي التي تنظم تلك الوقائع والأحداث في السرد الحكائي الذي يحتل المساحة الأكبر في الرواية مقابل محدودية ظهور الحوار فيها. تركز الرواية على كشف ما يجري داخل أسوار السجن والشعور بالأهمية التي يمنحها للعاملين فيه ما ينعكس نفسيا فيما بعد على تلك الشخصيات عندما تحال على التقاعد وتفقد ذلك الشعور الذي كانت تحس به عبر إصرارها على ارتداء نفس اللباس الذي كانت ترتديه سابقا، والخروج في نفس المواقيت السابقة لخروجها إلى العمل والتجول حول أسوار السجن. وعندما تتفاقم أزمة شعورها بفقدان وضعها السابق تنتهي إلى الخبل والجنون اللذين يدعوان للرثاء. لا يتوقف السارد عند وصف ما يدور من أحداث داخل السجن وخارجه بل يحاول أن يكشف عن علاقة إدارة السجن مع السجناء ومحاولاتهم إظهار كفاءتهم أمام السلطة في استنباط أساليب للقمع ومعرفة ما يفكر فيه المعتقلون كما في اختراع فكرة الجريدة التي يصدرها السجناء دون رقابة من إدارة السجن لكي تعود وتعاقبهم على تلك الأفكار بصورة شرسة كما يفصح عن ذلك الحوار الذي يدور بين بطل الرواية والشخصية الثانية سالم التي تعمل معه داخل السجن. كما يكشف عن العلاقة بين ضباط السجن وما تتسم به تلك العلاقة من انتهازية ومحسوبية تجعل الرائد يستغرب ترفيعه ونقله إلى مكان آخر بدل مكافأته على دوره الذي قام به داخل السجن على خلاف المقدم الذي كان يظن أنه سيحل مكانه . في نهاية الرواية كل شيء يشيخ ويهرم ويموت أو يطاله الخراب من أبراج الحمام على السطح والحمام الذي نفق أغلبه، وحتى العاملين في السجن الذين أحيلوا على التقاعد قبل شهور وماتوا، ومجارير المنازل التي طفحت أمام البلوكات والناس ترى ذلك وتمضي ملتصقة بالجدرات طلبا للأمان في حين يجري تجديد سور السجن الذي كان يتداعى ما يشي بصورة الواقع البائسة، وما انتهى إليه من خراب وضعف وضياع يؤطر مشهده الحزين الذي يقابله مشهد الأسوار التي تنهض أكثر قوة ومتانة ودلالة وكأنها هي حارسة الحياة في هذا المكان الشائخ من العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©