الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تاريخ التصفيق

تاريخ التصفيق
21 يوليو 2010 20:31
كمهتم بالثقافة الشفاهية أو الشعبية لم يخطر في بالي من قبل التساؤل عن بداية “أنماط من التصفيق” تنتشر الآن في المجتمع الخليجي. فانا الذي أرجح أن هذه المجتمعات لم تكن تعرف “التصفيق” ـ بالشكل المعتاد الآن ـ لربما بدأت في استقبال هذه الظاهرة مع “الانتداب البريطاني” (لست متأكداً من ذلك)، إذ ان كثيرا مازار مسؤولون عسكريون وسياسيون المنطقة، وأقاموا حفلات استقبال، وأكاد أتخيل أن تلك الحفلات كانت تشهد تصفيقاً، فيرى المحليون القلة من حاضري تلك الحفلات، أن من الواجب مجاراة الضيوف، فصفقوا كما يصفقون. هذا الافتراض يحتاج إلى وثائق كي تدعمه، لكن المدرسة الحديثة ودخول المذياع إلى المنطقة وطّدا بشكل أساسي “سلوك التصفيق” في المجتمع. فلا أتخيل أن أولئك الذين كانوا يستمعون إلى خطب عبدالناصر أو أغاني أم كلثوم في الشارقة أو دبي، لم تلهبهم الحماسة كي يصفقوا كما تصفق تلك الملايين في المذياع الذي يضخِّم الأصوات عادة، حتى يكاد التصفيق ـ عبره ـ أن يقطِّع أوصال ذبذبات الصوت. “منهجة” التصفيق إلا أن المدرسة الحديثة، أو ما تسمى هنا بالنظامية، هي من “منهجت” التصفيق، وحوّلته إلى ممارسة حياتية، فهو من الدروس الرئيسية التي تلقاها التلاميذ الأوائل في هذه المدارس، إذ بدأت التطبيقات العملية عليه في كل مرة كان يُلقي فيها “ناظر” المدرسة خطبته الصباحية، أو حين يزور مسؤول ما تلك المدرسة. بدأ التصفيق ـ إذن ـ لمثل هذه الشخصيات الرئيسية في ذلك المشهد، ولكن ذلك “علَّم” التلاميذ وجعلهم قادرين أو مستعدين للتصفيق لأي أحد كان. لا يعقل أن تصفق لخطيب في المسجد، أو لرجل حكاء في المجلس، أو لزعيم في القصر، أو لشاعر يُلقي قصيدته. كان التعبير عن الإعجاب في مثل هذه الحالات صوتياً: كأنك تقول الله، أو يا سلام، أو صدقت، أو صح لسانك، إلى غير ذلك من تعابير الإعجاب الشعبية. أين كان يوجد التصفيق، كان يوجد في الفنون الشعبية، أو فنون الأداء الحركي، ليس كلها، ففنون الشموح الجبلية لا يصفق فيها، ولا العيّالة، أو الفنون المندرجة في عائلة “العرضة”، كالحربية والويلية وغيرها. وهنالك فنون تستخدم فيها الأكف، خاصة عند النساء، إلا أن أداءات “اجتماعية” كـ”العيّالة” مثلاً، لا ترتكز على التصفيق، التصفيق يكاد يكون أداة إيقاعية هامة في فنون البحر، في أغلب فنون البحر. وفيما يمكن أن نسميه فناً “ثقافياً” مقارنة بتلك الأداءات الشعبية، كفن الصوت، وما تبعه بعد ذلك من تطويرات لأداءات بدوية كالسامري (كأنه في السامري التصفيق قديم، لست متأكداً). ومن تحويل “الشلّة”، وهي رفع الصوت بالقصائد وتقديمها مع العدد فيما يُقال له الآن بالأغنية الشعبية. القصد في الأخير أنّ التصفيق في منطقة الخليج لم يكن يخرج تقريباً من دائرة الأداءات الفنية. ولعلك ستستغرب، مثلي، من المواهب التي ظهرت في العقود الأخيرة في التصفيق، حتى يكاد المصفقون في مجتمعاتنا المعاصرة، ينافسون الباحثين عن الولائم، إذ رأيت بأم عيني وأخواتها، أي بكل العائلة التي تربي عيوني، أشخاصا مختصين في التصفيق ويبحثون عن المناسبات التي يمكن فيها ممارسة هذه الهواية اللذيذة بالنسبة لهم ـ على ما يبدو ـ والمفيدة. وهذه الأسئلة تدافعت على ذهني حينما قرأت خبراً عن صدور كتاب للباحث عماد عبداللطيف (دار العين 2010) بعنوان: “لماذا يصفق المصريون؟” وأول ما شدّني في هذا الخبر، أو القراءة للكتاب ملاحظة الباحث بأن التصفيق عرف في بعض المجتمعات القديمة، فكثير من النقوش المصرية القديمة تُظهر المصريين وهم يصفقون خاصة بمصاحبة الرقص والغناء، وقد كان التصفيق في مصر الفرعونية أداة الإيقاع الأساسية. وكان يصاحب عادة حفلات الرقص. .... وإلى هنا فإن التصفيق، مازال مفردة من مفردات تجلي الروح في الحضرة الموسيقية، وواحدة من أهم ألفاظ المشاركة في هذه “الحضرة”، فالإيقاع على ما أتصوره في تلك الاختراعات الموسيقية، جزء أساسي من تريبة “العرض”، أو العمل، وليس عملاً تزيينياً كما يقدم الآن في الكثير من “الموسيقى الاستهلاكية”. تراتبية المصفقين والمصفقون في جلسة عود، وإلى الآن في منطقة الخليج والجزيرة، لديهم تراتيبتهم، وأساليبهم ودورهم الرئيسي في إحداث لحظة “الغناء”، فهم مساهمون أساسيون في اللحظة، وليسوا تحصيل حاصل، إذ من “صفقة” ما قد تبدأ وتشتعل لحظة الغناء، بل إن بعض عروض الصيادين، وخاصة ما تبقى من الموروث الصوتي للغاصة على اللؤلؤ، تعتمد كلياً على التصفيق، بينما يؤدي الصوت، والآلات الإيقاعية أدواراً هامشية. ثم جمل موسيقية خاصة بأداة “التصفيق” الإيقاعية، ولا أعلم هل اهتم أحد من البحّاثة الموسيقيين بهذا الجانب أو لا؟ لكن هذه الموسيقى التي تمتد في المشرق منذ الفراعنة، ولربما قبلهم - إلى الآن - بالتأكيد لديها من السجلات الشيّقة ما يُغري بالبحث. وأبداً لا يمكن أن تقارن بين ذلك المصفِّق في جلسة العود، وذلك الذي يلهث خلف الندوات والمؤتمرات الرسمية والحفلات كي يصفق. ولكن متى يا ترى بدأ ظهور هذه الشخصية المزيّفة الأخيرة، شخصية المصفق؟ الباحث عماد عبداللطيف، وحسب ذلك الخبر والقراءة يعود بذلك إلى اليونانيين، فلقد كان التصفيق عندهم “وسيلة إظهار استحسان الجمهور وإعجابهم بالعروض المسرحية أو الموسيقية أو الغنائية التي يشاهدونها، بل إن اليونانيين، ربما كانوا (من) أقدم الشعوب التي عرفت مهنة المصفق المأجور، أي الشخص الذي يحصل على مقابل مادي نظير التصفيق المتحمس لمسرحية معينة أو أداء موسيقي ما”. لكن على الأرجح، فإن من طور هذا الامتهان الصفيق هو “نيرون” (37 ـ 68م) طاغية روما الشهير، فلقد “أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من خمسة آلاف فارس وجندي من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية، التي كان يغني فيها وهو يعزف على القيثارة، ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف”. ومنذ “نيرون” وحتى الآن، يستعمل كثير من القادة “المصفقين”، والباحث عبداللطيف يهتم في كتابه “بالكشف عن الدور الذي يقوم به التصفيق في خداع الجماهير والتلاعب بهم وتضليلهم من خلال دراسة ظاهرة ـ المصفقاتية والهتِّيفة” ـ في مصر تحديداً ـ وظاهرة المصفق المأجور والتصفيق القهري والتصفيق المعد سلفاً”. المصفقون المستأجرون وقبل شهور كنت في ندوة بإحدى الجامعات الألمانية القريبة من فرانكفورت، ولاحظت أثناء الندوة أنهم حين يستحسنون حديث أحد المشاركين، أو عند ختامها، يدقون بالكؤوس على الطاولة (أظن ثلاث مرات) كتعبير عن ذلك الاستحسان. ولعلَّ ما لاحظته هنا يدل على أن لدى الشعوب طرق كثيرة، غير التصفيق، للتعبير عن إعجابها بهذا الأمر أو ذاك. طرق معتادة عليها، أو طرق تبتكرها المجتمعات أثناء تعرضها لتجارب العصور. ويطيب لي أن أطالب، خاصة أولئك الذين لا يكفون عن الخروج علينا في كل صباح، مناشدين بالتمسك بالعادات والتقاليد، والكف عن ممارسة العادات الدخيلة، بإحداث حملة وطنية تعمل على “الكف عن التصفيق”، في موقعه الحقيقي، كمفردة موسيقية ـ شعبية، فالتصفيق في المناسبات والاحتفالات والدعوات الرسمية لا يمت “لعاداتنا” تلك ولا “تقاليدنا” بصلة. بل أكثر من ذلك، فالتصفيق، حسب الفهم “النيروني” له، لا يعمل على تدشين ديكتاتوريات صغيرة فينا، وفي مجتمعنا فحسب، وإنما كذلك يعمل وعبر تشجيع مزيد من “المصفقين” المستأجرين على تعميق الأزمات الأخلاقية التي تعانيها مجتمعاتنا أصلاً. المصفق المستأجر خائن، ولعلِّي لا أجد عضواً ينبغي أن يكرم تماماً: كاليد، اليد التي تعمل والتي تفعل والتي تشيد والتي تداعب والتي تلعب والتي تكتب. لقد كرَّم التاريخ الإنساني اليد. ولا يوجد أحد يمتهن تلك اليد المكرّمة كالمصفق المستأجر. إنه وبدلاً من أن يحك يديه ببعضهما كي تشعل ناراً داخلياً كما يحدث للمصفق في جلسة الغناء، يحكهما باستمرار، كي يخون طبيعة الأشياء، ونفسه، والالتقاء السماوي لليدين ببعضهما. فالتصفيق في الأساس مظهر من التقاء تلك اليدين. فمتى يا ترى تلتقي يدينا ببعضهما؟ عند الصلاة، أو عند النوم ربما.... أو عندما تتحول كل يد إلى جناح، وبالتقاء اليدين، تطيرُ حمامة الأغنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©