السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أزهار الخرائب».. غابة من الألغاز المدهشة

«أزهار الخرائب».. غابة من الألغاز المدهشة
31 يوليو 2017 22:59
حسونة المصباحي (باريس) نقرأ رواية «أزهار الخرائب» للفرنسي بارتريك موديانو الحائز جائزة نوبل للآداب لعام 2014 بسرعة وبمتعة تماماً كما لو أنها قصة قصيرة تتميز بالتكثيف والسرد الدقيق الخالي من البلاغة المزيفة، ومن التكرار الثقيل. وقد يتساءل البعض: هل أنّ «أزهار الخرائب» رواية بالمفهوم المتعارف عليه، إلاّ أن باتريك موديانو يبدو غير معني بهذا السؤال. فمنذ البداية هو اختار طريقته في الكتابة الروائية، وبها تمسك، فلا يمكن لأي أحد أن يقنعه بتركها لمصلحة طريقة أو طرق أخرى. ويعدّ باتريك موديانو من أكثر الروائيين الفرنسيين غزارة في الإنتاج. وهو يكتب بلغة سهلة، وبأسلوب ممتع. ويحرص دائماً على استعمال ضمير الأنا في جلّ رواياته، متجنباً الإطالة والتعقيد الذي يتميز به الروائيون الحداثيون، خصوصاً روائيي موجة «الرواية الجديدة» التي برزت في الستينات من القرن الماضي. ونحن نقرأه نشعر أنه يقفز بنا من مكان إلى آخر مثل عصفور قلق، أو مثل فراشة. عن رواياته كتب الفرنسي فيليب لاكوش يقول: «روايات موديانو تتابع. أخوات في الخفّة التراجيديّة، لكنها ليست متشابهة أبداً. تسقط الأوراق غير أن شجرة الإبداع تظلّ دائماً مورقة. ويظل الكاتب ضائعاً في خريف ذكرياته محتفظاً بحياء يحفظنا من الشتاء، الفصل الرهيب حيث الكلمات من دون نسغ تنفجر تحت جليد التكرار». ذلك هو عالم باتريك موديانو. وهو عالم يبدو متشابهاً من رواية إلى أخرى غير أنه لا يتكرر أبداً، تماماً مثل تلك الحديقة التي نرغب دائماً في زيارتها، لكنها تبدو لنا مختلفة عن المرات السابقة! وأنا أقرأ رواية «أزهار الخرائب» تذكرت مطلع قصيدة طرفة بن العبد: لخوْلةَ أطْلال ببرْقَة ثهْمَد تلوح كباقي الوشْم في ظاهر اليد فقد بدا لي ماديانو شبيهاً بشاعر جاهليّ يقف على أطلال أمّحتْ تماماً، ولم يتبقّ منها إلاّ ما تكاد تراه العين. وينقلنا موديانو عبر باريس بسرعة كبيرة من دون أن يتوقف طويلاً عند الوقائع أو عند الأمكنة: «لقد أحسست أن تلك الأمكنة ظلّت على حالها تماماً كما تركتها في الستينات، وأنها أهملت منذ تلك الفترة، أي منذ ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً». وحين يصل إلى البناية رقم 26 في شارع «غويي لوساك»، يتذكر أن زوجين انتحرا في ظروف مجهولة يوم 24 أبريل عام 1933 بعد سهرة غريبة مع مجهولين. ومثل مفتش سريّ يحاول موديانو أن يقتفي آثار الزوجين المنتحرين فيذهب بنا في البداية إلى محلّ ليليّ في «مونبارناس»، ثم إلى مطعم ومرقص في «بارو». ومن هناك ينتقل بنا إلى عالم آخر ليحدثنا عن رجل غريب الأطوار عرفه في أوائل الستينات، وباعه الأعمال الكاملة لـ«بالزاك». غير أن حديثه عن هذا الرجل لا يطول كثيراً. بعدها يتجول بنا في أماكن وشوارع كان قد أحبها في سنوات طفولته وشبابه. ففي شارع «أوديسا» أو «الديبار»، كان يشعر دائماً كما لو أنه يسير تحت الرذاذ في ميناء من موانئ مقاطعة «بروتاني» شمال فرنسا. وفي بولفار «سان ميشال» يتذكر مظاهرات الطلبة في ربيع عام 1968. بعدها يحدثنا عن باريس في زمن الاحتلال النازي، وعن أشخاص اخترقوا حياته من دون أن يخلفوا وراءهم غير الظلال. وهكذا تتداخل الشخصيات والأمكنة عبر قصص قصيرة تفضي كل واحدة منها إلى أخرى في تناسق بديع. ويظل بارتيك موديانو يقفز بنا من حدث إلى آخر، ومن شارع إلى شارع، ومن وجه إلى وجه حتى تغيب الرواية في النهاية داخل غابة من الألغاز المدهشة، وتتحول باريس إلى متاهة شاسعة يضيع فيها الإنسان فلا يجد له طريقاً للخروج. كل شيء غامض مخيف إلى درجة أن قشعريرة ما تنتابنا حال انتهائنا من قراءة الرواية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©