الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زايد.. المعلّم الأول

زايد.. المعلّم الأول
7 مايو 2015 00:06
كم يصعب على القلم أن يكتب رجلاً لا يقبل الاختصار.. وكم تقف الكلمات عاجزة أمام وهج سيرته العطرة.. فزايد لم يكن شخصاً عادياً بالنسبة للإمارات كلها، فكيف بي وقد تربيت على هديه، وجالسته، وتعلمت من حكمته الوافرة، ولمست بأم عيني سعة روحه ورحابة قلبه.. كان زايد قلباً ينبض بحب الناس.. يحلم بهم، بسعادتهم، برفاهيتهم، بتقدمهم.. كان هاجسه الأول أن يوفر لهم حياة جميلة، كريمة، وأن ينهض بالبلاد والعباد.. كان رجل دولة من طراز يصعب أن يتكرر.. وكان في الوقت نفسه أباً حانياً لكل واحدٍ منا.. كان حالماً كبيراً.. ولأن الأحلام تبقى أحلاماً من دون إرادة لتحقيقها.. كان حلم زايد مقروناً بالإرادة، والعمل المستمر، ولأنه زايد تحوّل الحلم على يديه حقيقة. منذ ذلك اليوم الحزين، يوم رحيل قائد المسيرة، في الثاني من نوفمبر عام 2004 حتى اليوم وأنا أتلقى الدعوات من مختلف الأجهزة الإعلامية لأتحدث عن الأب الروحي ورفيق الطريق ومرشد الخطى المغفور له بإذنه تعالى الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وللمرة الأولى أستجيب لدعوة جريدة «الاتحاد»، وأبدأ في تسجيل بعض الذكريات مع وعن القائد العظيم الذي كان لي شرف مرافقته كواحد من أبنائه وجنوده الأوفياء.. وكان إحجامي عن الحديث عنه طوال السنين الماضية منطلقاً من عدم قدرتي على الاقتناع أو التصديق أن زايد رحل أو غاب عن هذا الوطن الذي يدين له بكل تلك النهضة التي قامت في ربوعه. اليوم وافقت على الحديث عنه لا كقائد غاب أو قضى ولكن كقائد ما زالت روحه ترفرف فوق الإمارات، تبتسم للنخيل الشامخ الذي غرسه بيديه وللنهضة الشاملة التي أرسى قواعدها وأقام أسسها وللإنجازات التي يحققها أبناء هذا الوطن وعلى رأسها البناء الثقافي والعلمي. من أين أبدأ؟.. سؤال حيّرني كثيراً.. هل أبدأ من تاريخ العمل مع القائد، في الثالث عشر من أغسطس عام 1969، حيث صدر عنه مرسوم بتعييني مسؤولاً عن دائرة البترول في أبوظبي، أم أبدأ من اليوم الأول الذي تفتحت فيه عيناي على الحياة لأجده وأراه وأسعد برعايته الأبوية. ولأنّ هذه مجرد صفحة في جريدة، فلن تتسع بكل تأكيد لسرد تاريخي أو ذكرياتي مع رجل يحتاج الحديث عنه إلى مجلدات لا إلى صفحات قليلة. وعلى الرغم من أنه في زمن زايد لم يكن هناك تسجيل رسمي للمواليد وتاريخ الميلاد إلا أن جميع الأبحاث والدراسات اتفقت على أن الميلاد المبارك لذلك الرجل العظيم كان في عام 1918. وهذا يعني أنه كان في الثامنة والعشرين من عمره عندما وُلدتُ في أبوظبي في الخامس عشر من مايو 1946. ولكن ذكريات الطفولة التي لم تمسحها السنون والأيام، ما زالت تحضره أمام ناظري، في صورة الفارس العربي الأسطوري المتميز بقامته الفارهة وشجاعته الفائقة وبسمة وجهه الواثقة. لم يكن عمري يزيد على الأربعة أعوام عندما كنت أخرج من دارنا في العين إلى الطريق التي كان يمر بها قبل غروب الشمس.. فما يكاد يراني، حتى يقبل بحصانه إليّ ثم يلتقطني من فوق الرمال ويردفني خلفه، ويطلق العنان للحصان حتى يصل إلى داره.. فألقى من الجميع الحفاوة والاهتمام والتكريم.. وفي المساء كان يضعني إلى جانبه في المجلس الذي يجتمع فيه رجال القبائل وزوار نائب الحاكم في المنطقة الشرقية، وبعض الشعراء لأصغي إلى أصحاب الحاجة وأشاهد كيف كان زايد يحل مشاكل الجميع، على الرغم من قلة الإمكانات وضعف الموارد. مدرستي الأولى كان زايد هو المدرسة الأولى التي دخلتها طفلاً وتعلمت فيها ما لم أتعلمه بعدها في مختلف المدارس والجامعات التي درست فيها. وفي واحدة من قصائدي تحمل عنوان: «جامعة زايد» نظمتها في 28 أغسطس 1999 أقول: ساءَلني من يعشقُ المطالعة عن معهد عَلَّمني أو جامعة أجبت: إن العلم ليس معهداً بل إنه الحياة وهي واسعة جامعةُ الحياةِ كانت منهلاً منه ارتويتُ بالعلومِ النافعة وإنها لمَجلِسٌ لزايدٍ الروحُ فيها قبل أذني سامعة هذي هي الجامعةُ التي لها أفضالُها على النجومِ الساطعة درست في معاهدٍ كثيرةٍ وجامعاتٍ ذاتٍ صيتٍ ذائعة فلم أجِدْ أروعَ مَن مجلسهِ مدرسةً أو معهداً أو جامعة منه عَرفتُ ما يفيدُ موطني وما يصونُ زرعَهُ وزارعَه وما يشيدُ مجده وعِزّهُ عمرانَهُ، جُسورَهُ، شوارعَه نهضتَهُ، وثبَتَهُ إلى العلَى دعائمَ اقتصادِهِ، مصانِعَهَ وقبل هذا كله شبابُهُ فإنهم سيوف عزٍ قاطعة جامعةُ الزعيم كانتِ قاعةً تجمعُهُم فيها الدروسُ شائِعَة علَّمَهُمْ زايدُ أنّ أَرضَهُمْ ظامئةٌ لِجُهدهم وجائعة وأن كلَّ أمنياتِ شعبِنا بِلا شبابٍ يفتديها ضائعَة كان زايد مدركاً لأهمية العلم في معركة البناء التي بدأها حتى قبل أن يتدفق خير النفط عام 1962، وقبل أن يتقلد مسؤولية قيادة سفينة الوطن في بحر هادر الأمواج تعصف فوقه الرياح وتتهدد الأعاصير بحّارته الأوفياء. وكان يسعى لافتتاح المدارس وقد نجح في مسعاه عام 1959 في إقامة أول مدرسة في العين هي المدرسة النهيانية.. ولكنني كنت قد وصلت مع والدتي إلى قطر بتشجيع منه، وتوجيه استمر منذ سنوات الطفولة الأولى.. كان يريدني أن أتعلم.. وحيث إن المجال كان مغلقاً أمام أبناء الوطن في ذلك الزمن الصعب، سمعته عدة مرات يردد على مسمعي: = اطلب العلم ولو في الصين، واطلب العلم من المهد إلى اللحد.. حتى بعد الرحيل إلى قطر لم تنقطع صلتي بالقائد، حيث كنت أرد للوطن وللعين بالتحديد كل صيف، وكل عطلة مدرسية، لألتقي به وأصغي إلى توجيهاته وإرشاداته، وأنهل من عطفه وحنانه، وكان في كل مرة أودعه فيها عائداً إلى قطر، يقول لي بصوته الحاني وعاطفته الجياشة: = أوصيك بالجد والمثابرة.. ومن طلب العلى سهر الليالي.. وطنك بحاجة إليك يا مانع.. عد إليه مسلحاً بالعلم والمعرفة.. ليس هناك من سلاح لشباب الوطن أفضل من سلاح العلم. كان «رحمه الله» ظامئاً إلى العلم متلهفاً إلى سماع أهله والتعلم منهم، مقرباً إليه كل من لديه ولو شيئاً يسيراً من العلوم الدينية واللغوية أو الثقافة العامة. وكان العم عبدالله بن أحمد العتيبة، من أكثر الناس ملازمة له في المجالس العامة سواء في العين أو في أبوظبي.. يلقي على مسامعه قصائد عنترة والمتنبي، ويحكي بعض طرائف وقصص شعرائنا القدامى. كذلك كان يجالسه شعراء وأساتذة أمثال: عبد الرحمن المبارك وعبدالله السيد الهاشمي وغيرهم.. حيث كان كل من لديه شيء من العلم يدلي بدلوه في ذلك المجلس الذي كان أشبه بالمدرسة أو الجامعة. رعاية وتشجيع لاحظ الشيخ زايد «رحمه الله» ميلي إلى الشعر منذ الطفولة، فشجعني على حفظه وجعلني ألقيه أمام من يحضرون إلى مجلسه وتنبأ لي بأن أصبح شاعراً.. وكان لذلك التشجيع أثره الكبير في توجهي إلى الشعر وفيما بعد تبادل المشاكيات الشعرية النبطية. لم يكن رحمه الله قد تخرج في أي جامعة أو مدرسة ولكنه كان بجدارة جامعة قائمة بذاتها، بها درست واكتسبت المعارف التي لم تستطع كل جامعات العالم التي درست فيها أن تعطيني إياها. وعندما أنهيت الدراسة الثانوية في قطر، وابتعثت إلى إنجلترا لدراسة الاقتصاد في برايتون، كان رحمه الله حريصاً على متابعتي والسؤال عن المستوى الذي وصلت إليه وتشجيعي على النجاح والتزود بالعلم الذي تحتاج إليه بلادي. وعندما تسلم قيادة سفينة الوطن في السادس من أغسطس عام 1966 كنت أول المهنئين له، وقد فازت قصيدتي التي نظمتها في أغسطس من عام 1967 بمناسبة ذكرى عيد الجلوس الأول بالجائزة الأولى وقيمتها مائة دينار بحريني، وكان ذلك المبلغ يعتبر ثروة في ذلك الوقت. وقد ألقيتها أمام سموه عندما كنت في عطلة الصيف في أبوظبي قادماً من جامعتي في بغداد، حيث كنت أدرس الاقتصاد والعلوم السياسية وتخرجت فيها عام 1969 العام الذي بدأت فيه العمل مع المرحوم الشيخ زايد كرئيس لدائرة البترول. وفي تلك القصيدة التي حملت عنوان: «عيد الجلوس الأول» أقول: سَالَتْ بِأَرْضِ أَبوظبيِ أَنْهَارُ وَعَلَى رُباهَا شَعَّتِ الأَنْوارُ وَتَفَجَّرَ البِترولُ تَحْتَ رِمَالِهَا وَتكَاثَرَتْ في أَرْضِها الآبَارُ وَأَتى الرَّخاءُ إَلى البِلادِ فَشَعْبُهَا مُسْتَبْشِرٌ بَقُدومِهِ وَالجَارُ عِيدُ الجُلُوسِ زَهَتْ بهِ الأقْطارُ وَإلى الأَميرِ وُفودُهَا قَدْ سَارُوا هذي أبوظَبْيٍ تُبارِكُ عِيدَكُمْ يَا زايد وَيُبارِكُ الأَحْرَارُ عَامٌ مَضَى مِنْ حُكْمِكُمْ وَجَميعُنا مُتفائِلون وَفي القُلوب فَخَارُ أَنْشَأْتَ جِسْراً وَالبُيوتُ بَنَيْتَهَا وَازْدانَ كُورنِيشٌ وَقَامَ مَطَارُ وَحَّدْتَنا في ظِلِّ خَيْر مَسيرَةٍ مَا طابَ دُونَكَ للعَلاءِ مَسَارُ أَنْتَ الأَميرُ لنَا وَغَيْرُكَ مَالَهُ مِنَّا وَلاءُ أَيُّهَا المَغْوَارُ كالشَّمْسِ أَنْتَ إذَا طَلَعْتَ فَإِنَّما باقي الكَواكِبِ مَنْ سَناكَ تُنارُ أَنْتَ السَّحَابَةُ لا تَشِحُّ بَغَيْثِهَا فَالغَيْثُ مَنْهَا هَاطِلٌ مَدْرَارُ كُلُّ الأَمَاني في يَدَيْكَ أَمانةٌ وَغداً تُفَتحُ في الرُّبَى الأَزْهَارُ يا زايدٌ سَرْ للأَمَامِ بقُوَّةٍ وَابْنَ البَلادَ فَكُلُّنَا إَصْرَارُ واسْبِقْ بِنا باقي الشعوب لِنَهْضَةٍ تاقَتْ لَها الأَسْماعُ والأَبْصارُ هذي السفينةُ أنْتُمو رُبَّانُها والشعبُ تَحْتَ لِوائِكِ البَحَّارُ الله بارَكَ عَهْدَكُمْ وَرَعَاكُموا يا مَنْ لَهُ تَتَوَجَّهُ الأَنْظارُ صِرْتُمْ فَخاراً للعُروبَةِ كُلِّها وَالعُرْبُ حَوْلَكَ كُلُّهُمْ أَنْصارُ يا زايدَ الإِعمارِ أَنْتَ حَبيبُنا وَلَكُمْ بِحُبٍّ تُنْظَمُ الأشْعَارُ في كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ تَمْشي خُطْوةً في دَرْبِ مَجْدٍ كُلُّهُ أَخْطارُ لكِنَّنا بِكَ يا أَميرُ سَنَرْتَقي وَعَنِ النُّهُوضِ سَتُنْشَرُ الأَخْبَارُ بناء الإنسان منذ اليوم الأول لتسلمي المسؤولية قال لي رحمه الله: اسمع يا مانع.. لقد أتاح الله لك القدرة على أن تصل إلى هذا المستوى العلمي الذي لم يسبقك إليه أحد، وهذا ما يجعلني أطمئن إلى أن إدارة ثروتنا البترولية ستكون بيد فاعلة ومؤثرة وناجحة لأنها يد العلم والإيمان والوطنية.. أريدك أن تحاول وفي زمن قصير جداً أن تساهم في تخريج أكبر عدد ممكن من مواطني هذا الوطن من الجامعات وفي التخصصات التي يحتاج إليها البلد.. وخاصة البترول والصناعة والاقتصاد بشكل عام.. إن الإنسان هو عماد الثروة، وإن العلم والثقافة هما سلاح هذا الإنسان في معركة البناء الشامل التي نخوضها.. أريد أن أرى المواطن على رأس المسؤولية الإدارية فلا تقوم حضارة إلا على أكتاف المواطنين. وكانت هذه الرسالة الأولى التي سجلها المرحوم الشيخ زايد في عقلي وقلبي، وبوحي تلك الرسالة تم لنا الانتصار في معركة توطين الصناعة البترولية. كان رحمه الله حريصاً جداً على استضافة العلماء والمفكرين والشعراء من جميع أنحاء الوطن العربي والعالم وكانت مجالسه تعج بهؤلاء المثقفين الذين يثير معهم قضايا تهم حركة النهضة المتصاعدة في الإمارات. وكنت لا أخفي اندهاشي من مدى معرفته بحياة وشعر بعض الذين كانوا ولا يزالون فرسان الكلمة ونجوم الفكر، مثل المتنبي، وأبو فراس الحمداني وأبو العلاء المعري وغيرهم.. بل إنه كان يحفظ الكثير من شعر المتنبي ويستشهد به. كان رحمه الله شاعراً وديوانه الذي تركه لنا يشهد له بذلك ورغم أنه كان لا ينظم الشعر الفصيح إلا أنه كان يتذوقه ويدرك قوته وضعفه في آن واحد. وكنت أقدم له دائماً النسخة الأولى من أي ديوان فصيح أصدره فيقرأها ويقدم لي ملاحظاته إن وجد فيها ما يثير النقاش، أو إعجابه. ولن أنسى يوم استمع إلى قصيدتي «ماذا تبقى في يدي» والتي تأثر بها كثيراً وقرر بعدها إرسال المساعدات إلى العراق.. الذي كان يعيش محاصراً وكان ذلك مشجعاً لي على نظم قصيدتي التي طالبت فيها برفع الحصار عن العراق.. يطول الحديث عن ذكرياتي مع المرحوم زايد «طيب الله ثراه» وأسكنه فسيح جناته.. وكما قلت فإنه يحتاج إلى صفحات لا تعد ولا تحصى ولكنني أرجو أن أكون في هذه العجالة قد أديت شيئاً من الواجب تجاه والد وقائد وفارس، كان هدية من الله لشعب آمن بالله وأحب من قاده إلى الحضارة والتقدم والازدهار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©