الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأصولية الأميركية.. منيعة ومتجذرة

الأصولية الأميركية.. منيعة ومتجذرة
14 سبتمبر 2016 19:27
إميل أمين بعد مرور عقد ونصف من الزمان على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا تزال الأصولية في الولايات المتحدة الأميركية فاعلة، وإن خبا صوتها أحياناً، وعلا في أحايين أخرى، وربما يدرك المتابع لمسيرة الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية أن هناك مرشحاً جمهورياً «دونالد ترامب» لا يزال يراهن على أصوات المتعصبين والإقصائيين من الأميركيين، سواء كانوا يتوجهون بأصوليتهم نحو مواطنيهم من أميركا اللاتينية أو من دول العالم العربي والإسلامي على نحو خاص، والمثير أن الرجل الذي بدأت قصة ترشحه للرئاسة الأميركية «كوميديا سوداء»، بات يحقق نجاحات واسعة، رغم قلة خبرته، وضعف حجته، في مواجهة المرشحة الديمقراطية المتمرسة في العملية السياسية داخلياً وخارجياً «هيلاري كلينتون». يعن لنا أن نتساءل في هذه الذكرى، تساؤلاً عقلانياً عميقاً، وبعيداً عن البكائيات التقليدية: لماذا تحظى الأصولية في الولايات المتحدة الأميركية بمثل هذه القوة، وتلك المنعة؟ الشاهد أن «برنارد لويس» قد سبق بنحو ثلاثة عقود «صموئيل هنتنغتون» في طرحة عن «صدام الحضارات»، ويمكن القول إن الأخير التقط طرح «الصدام الأصولي» من الأول، أي هنتنغتون من لويس، فبطريرك الاستشراق «لويس» هو صاحب التأصيل التاريخي لفكرة العداء الحتمي للتراث والميراث اليهودي- المسيحي، وهو بذلك يعني العداء من قبل العالم الإسلامي تحديداً وتخصصياً، دون مواراة أو مدارة. أحد العقول الأوروبية التى ناقشت في هدوء وموضوعية إشكالية الأصولية الأميركية، ولم يتم الالتفات إليها بما يقتضي الأمر من اهتمام في العالمين العربي والإسلامي، «جيكو موللر فاهر نهولتز» الباحث الألماني واللاهوتي والكاتب المستقبلي... لكن ما الذي يجعل أطروحات الرجل الفكرية غير مجروحة؟ يعود ذلك إلى خلفيته الأكاديمية والعملية في ذات الوقت، فقد عمل مستشاراً لحركة وحدة الكنائس العالمية، ومديراً للأكاديمية البروتستانية في الكنيسة اللوثرية، ودرس في جامعتين في كوستاريكا، ودعا أوروبا وأمريكا الوسطى وأمريكا الشمالية وطناً له في مختلف مراحل حياته. يمتلك «جيكو موللر» منظور مراقب خارجي يرى من خلاله الولايات المتحدة الأميركية بعين المودة، فهو غير ناقم عليها أو ناقد لها، وهذا ما يجعله مؤهلاً على نحو فريد لتقديم صور تمثل رأي شعوب العالم بأميركا، وكيف يمكن للعامل الديني الراهن في السياسة الأميركية أن يبدو كغلالة تخفي وراء قشرة من التقوى جوهر المشاعر الأنانية الوطنية، وهو يقدم عادة توليفة فريدة جامعة لوجهات النظر التاريخية واللاهوتية والسياسية والثقافية- النفسية، ويعرض رأياً دقيقاً ومتفكراً بل ومتبصراً للحالة الأميركية المعقدة. على أنه قبل التعرض لتوصيف «جيكو موللر» لأسباب نفوذ الأصولية الأميركية فإنه من الواجب تذكير القارئ بأن الأصولية اليمينية من المسيحيين الأميركيين، لا سيما التيارات البروتستانتية باختلاف مسمياتها، لم يكن لها أي تأثير محسوس على الأحزاب السياسية، لكن بعد نهوض ما عرف بالأغلبية الأخلاقية في منتصف سبعينيات القرن المنصرم بقيادة القس «جيري فالويل»، الذي غادر عالمنا في مايو 2005، أصبحت قوة سياسية، واستطاعت تعزيز قاعدتها في العديد من الطوائف والمجتمعات والمنظمات المحلية، خصوصاً داخل الحزب الجمهوري، الأمر الذي تجلى في الفترة ما بين (1981-1989) أي زمن رئاسة رونالد ريغان ذاك الذي أقنعه فالويل وليندساي هالسيل، بحتمية معركة نهاية العالم (هر مجدون) مع الاتحاد السوفييتي، وتالياً كان الاستعلاء الأسوأ للأصولية الأميركية، رابضاً خلف الباب نهار الحادي عشر من سبتمبر 2001، وزمن النبوءات المكذوبة للرائي «جورج بوش» وعصبة اليمين الأصولي التي اختطفت البلاد لثماني سنوات. صدق تنبؤات هنتنغتون يوجه اللاهوتي الألماني «جيكو موللر» نقداً لاذعاً، يكاد يكون هداماً للربط بين الحادي عشر من سبتمبر، وبين تنبوءات هنتنغتون وجذور الغضب الإسلامي عند برنارد لويس، فقد بدا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد أثبتت للعوام، من الأميركيين خاصة، أولئك الذين لا دالة لهم على الثقافة المعمقة أو البحث المجرد في الجذور، صدق تنبوءات هنتنغتون، وأصبح لويس نفسه على ما يبدو مرشداً روحياً للمحافظين الجدد في واشنطن، الذين تمثل هدفهم في تحويل العراق إلى أمة أخرى تتبع النموذج التركي. يأخذ «جيكو موللر» على العديد من المفكرين والإعلاميين الأميركيين فهمهم الساذج لنظرية الصدام، لا سيما مع بروز الإرهاب الدولي المدفوع، بحسب البعض، ببواعث دينية، وبعيداً عن أية مصداقية حقيقية لمثل هذا النقاش الفكري. نجد أن هذا الفهم اليسير والمسطح والذي لا يكلف صاحبه جهداً، كان أرضية خصبة يمكن أن يؤسس عليها الزعماء السياسيون ريجان وبوش في الماضي، ودونالد ترامب في الحاضر استراتيجياتهم التصادمية. غير أن أولئك الذين تحملوا عناء قراءة عمل هنتنغتون سرعان ما سيعرفون أن ترتيبه لحضارات العالم – خطوط التصدع واتجاهات العداء المحتمل بينها – مفرط في العمومية والسطحية إلى حد يمنعه من تقديم الخطة البليغة والمفيدة التي زعم تقديمها. هل الحداثة والإغراق في التنوير الأجوف والمسطح والعصرانية الشكلية المفرغة من أي قيم أخلاقية أو روحية، وباختصار: هل العولمة في طبعتها الأميركية هي المرد الرئيسي للتنامي المتصاعد للأصولية الأميركية، قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعده؟ لا يمكن أن نحير جواباً، أو أن نناقش طروحات «جيكو موللر» قبل أن نشير إلى مسألة جوهرية في فهم الأصوليين الأميركيين، فالأزمة وجذورها عندهم لا تتركز في العلمانية بوجه عام، ولكن «علمانية الصفوة» بنوع خاص، فالصفوة العلمانية تتمثل في الإعلام والحكومة والمؤسسات التعليمية، وواضعي البرامج أكثر من تمثلها في العامة، وهو ما يعني أن الصفوة التي تقرر السياسة وأبجدياتها، وتضع القوانين وترسم آلياتها، وتفتقر إلى قيم الأغلبية، في مواجهة تقديم الخدمات للأوليغاركية في البلاد، وعليه يرى الأصوليون أن هؤلاء الصفوة قاموا بوضع المعايير والسياسات لوقت طويل، وقد آن أوان إعادة قيم الأغلبية الأخلاقية. لم يكن الحادي عشر من سبتمبر إذن مسؤولاً بشكل مطلق عن انفجار ينابيع الغمر الأصولي الرهيب، بل كان السعي الأميركي عند الطغمات التي همشتها الرأسمالية، وسحقتها وول ستريت، ومحقتها محطات التلفزة الموجهة، هو السبب الرئيسي منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم. لقد كانت «القيم التقليدية» للولايات المتحدة، هي الصيحة التي تحشد جماعات الضغط الأصولية في عموم الولايات الأميركية، فهم يدافعون عن الأسرة التقليدية والدين التقليدي والوطنية القوية بمفهومها التقليدي. يؤكد هذه الرؤية البروفيسوران الأميركيان الشهيران (مايكل كوريت وجوليا ميتشل كوربت) في مؤلفهما العتيد (الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأميركية)، وعندهما أنه وقبل الحادي عشر من سبتمبر، كان الأصوليون الأميركيون يدافعون عن الطريقة التطهرية بالنسبة للأخلاق التي تؤكد على الاستقامة الأخلاقية الشخصية، ويحشدهم دعمهم للقيم التقليدية في الأسرة التي تفككت بسبب ليبرالية قوانين الطلاق ودخول المرأة ميدان العمل، وانتشار الفن الإباحي، والحقوق المتزايدة للشواذ من الجنسين وحقوق الإجهاض. قبل الحادي عشر من سبتمبر كانت قضايا ذات أعماق دينية تصدح في ساحات الجدل الفكري، وجميعها لها طبيعة تراثية سلفية أصولية مسيحية في حقيقة الأمر، مثل إعادة الصلوات إلى المدارس العامة وليس المدارس الخاصة الدينية، وبرامج الكفالة التي تسمح لأولياء الأمور باختيار مدارس الأبناء، وحرية عمل المدارس المسيحية بأقل تدخل من جانب الحكومة. وأصوليو أميركا المحدثون لا يختلفون عن (البيوريتانيون القدامى) كثيراً، ويودون أن تكون قيم المسيحية التقليدية أساساً للقانون المعمول به. جزء غالب من داعمي (دونالد ترامب) اليوم من الأميركيين في واقع الحال هم على درجة أو أخرى من درجات الأصولية المشار إليها؟ الحقيقة التي لا تدارى أبداً، هي أن ناخبي ترامب هم من قلب الأصولية الأميركية، وهؤلاء لا يقف الحادي عشر من سبتمبر وراء تشجيعهم لترامب، بل الغضب من الصفوة السياسية الأميركية غير الأمينة أو الصادقة في تعاطيها مع مصالح طغمات الشعب، عطفاً على رفضهم للحالة الأخلاقية التي وصلت إليها البلاد، فبعد أن كانت واشنطن تمثل (مدينة فوق كل جبل) أضحى ظلها مكروهاً حول العالم، وفقدت استثنائيتها التقليدية، وخفتت نماذج الحريات وحقوق الإنسان. أصوليو أميركا اليوم لم تعد تحركهم أطروحات لويس أو هنتنغتون عن مسلمي العالم، ولهذا يدعمون ترامب، بل في واقع الحال، تدفعهم رغباتهم الانقلابية على حالة الاختطاف الأيديولوجية والعسكرية التي تعيشها البلاد، لا سيما في ظل انفراد المجمع الصناعي العسكري الأميركي بإبعاد المشهد، وفي ظل دعوات إمبراطورية للهيمنة على مقدرات العالم، تمثلت في نهاية تسعينيات القرن الأميركي عبر وثيقة الـ (PNAC) الشهيرة، وتجلت منذ العام 2010 في (استراتيجية الاستدارة نحو آسيا) أي حصار الصين وروسيا، لذا فإن ناخبي ترامب من الأصوليين الجدد يؤيدون دعواته للانعزالية والتمترس بين محيطين من جهة، والاهتمام بأحوال البلاد والعباد الاقتصادية من جهة أخرى. تكافؤ الأضداد لا يحاجج أحد اليوم في صدقية القول إن مكانة أميركا بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم المعروضة كاملة في روعة وتآلف ووفرة المصارف، ومراكز الأبحاث، ومراكز التسوق، فضلاً عن الملاجئ الحصينة التي تخبئ الصواريخ النووية، تجابه وتواجه أميركا أخرى غير مرئية، أميركا الجانب المظلم العنيف المرئي كذلك في بلداتها الصغيرة المتهالكة، وفي العنصرية القاتلة ضد السود وما تخبئ وراءها من تأصيل وتجديد للكراهية بين الأميركيين البيض، والأميركيين من أصول أفريقية تاريخية، أميركا المهددة اليوم من جراء النزعات الانفصالية عن إطار الاتحاد الفيدرالي الذي يجمع ولاياتها، كما الحال مع ولاية تكساس، التي ينادي كثيرون بانفصالها عن البلاد، أميركا المكتظة سجونها بأكبر عدد من السجناء حول العالم. حتى الساعة تبقى الولايات المتحدة الأميركية زعيمة الأمم الغنية المتقدمة، لكن المفارقة التي تفرخ الأصوليين، وبعيداً عن الحادي عشر من سبتمبر، أنها تبقى كذلك دولة من دول العالم الثالث، في تضاد تقليدي أميركي، يعرف بـ (تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة)، فهي كبيرة ومجهولة وواسعة إلى حد يشمل أشد المجموعات غرابة والمواقف شذوذاً، كل شيء فيها يبدو ممكناً ومسموحاً. سمها ما شئت، انغماس في الذات، أو مادية، أو حب العنف، لكن يبدو أن الخطوط الكفافية للحرية وحدود الانفتاح قد بهتت. وفي سياقات التدهور هذه لا يضحى مفاجئاً أن يرى الأصوليون الأميركيون أعداءهم متربصين عند كل ركن وخلف كل منعطف، ويعدوا (رسالتهم) أنها تكمن في محاربتهم أينما وجدوهم. أما استحضارهم لما يسمى بقيم العائلة الأميركية التقليدية ومحاولة إعادة الأمة إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي كما يزعمون، فللتغطية والتعمية ليس أكثر. بكلمات أخرى أصولية الولايات المتحدة الأميركية اليوم ليست أصولية دينية، بل ثقافية، إنها ثقافة حرب يقودها أعداء ألداء من المتطرفين الأصوليين وأصحاب الذهنيات المتقلبة، والضغوط الكبيرة على الطبيعة الديمقراطية للمجتمع الأميركي، ففي حين أن الأصوليين يتبنون وجهات نظر استبدادية، كما نرى في مثال ترامب، بل حتى ثيوقراطية انطلاقاً من مقولة جورج برناردشو التاريخية (عند العاصفة يلجأ الإنسان إلى أقرب مرفأ)، والدين هو ذلك المرفأ، لكن أصحاب المواقف المتقلبة لا يأبهون لذلك البتة، كما يؤكد موللر في عمله المتميز (الصراع على الله في أميركا). لا ينتظر لتيار الأصولية الأميركية أن يخبو وأن ترمد نيرانه المشتعلة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية والمحصورة بين مرشحين فاقدي المصداقية، أحدهما من البرجوازية العليا التي تتلاعب بمصائر وأقدار فقراء البلاد وطبقتها البروليتارية المطحونة، والثانية تمثل تعجرف «الليبراليين» وصفوة العلمانيين، بل وصلف النخب في «الولايات الزرقاء»، ولهذا ينتظر قريباً أن نرى إسقاطاً أصولياً أميركياً جديداً، من جراء حالة الكبت الآنية. لقد فقد الحادي عشر من سبتمبر حجته عند عموم الأميركيين، وباتت أصولية الحرب على الإرهاب، وإن غازلت البعض بين الفينة والأخرى، غير ذات جدوى، أميركا منقسمة في روحها بين علمانية جافة وأصولية ظلامية، ولهذا فإن علامات الاستفهام حول ذلك البلد الإمبراطوري عديدة والأجوبة واضحة في ظل إثارة الغبار بين الجانبين في الحال، كما ينتظر أن يكون في الاستقبال. أسباب خفية يصدق جيكو موللر عندما يقودنا بفكره إلى يقين بأن هناك أسبابا خفية تدفع الأصولية الأميركية للبقاء واشتداد عودها بعيداً عن «غزوتي نيويورك وواشنطن»، وعنده أن الولايات المتحدة الأميركية ليست فقط الرابح الأكبر من الحداثة، بل هي الخاسر الأكبر كذلك، فعلى الرغم من مرابحها من آخر موجات العولمة، إلا أنها تواجه أيضاً التعقيدات المهددة التي تستدعيها هذه الحالة المضطربة، ومن الواضح أن مزايا ومثالب الحداثة المعولمة متشابكة ومتناسجة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©