الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العمل الفائز.. تموضعات ودلالات

العمل الفائز.. تموضعات ودلالات
6 مايو 2015 22:10
كبرنا في الخسارات أحمد المديني لا يضعني كون «ممر الصفصاف» تطوير لكتابة روائية بدأت في السبعينات أمام سؤال، وإنما إزاء طرح نقدي شمولي، وبالتالي يبقى نسبيّ العلاقات، متفاوتَ الحدود والدلالات. فكتابتي السردية، الأدبية عامة، ارتبطت بحركة التجديد التي انبثقت في خضم السبعينات الماضية في عديد بيئات عربية، من وحي حاجة وطنية، وبتفاعل مع تيارات وموجات تحديث في الثقافة والآداب الغربية، وشملت ميادين مختلفة، وتبنت كلها عناوين وشعارات خفاقة، تحلم بالتغيير على كل الصُّعد. وإذا كانت السياسة هي أداة تغيير شروط عيش الناس وتدبيره، حسب أهدافها، بوساطة الوصول إلى الحكم، فإني اعتبرت أن تعبيري عن نفسي، بصيغة الذات، المشتبه في شرعيتها عندنا من أسف، بوساطة اللغة، عربيتي الأثيرة، لسان أمتي وفطرتي، ومجال تنفسي، انتقلت بها إلى اللعب في مضمار وجدته الأقرب إلى ذوقٍ واستعدادٍ ما لبثا يتكونان ويتبلوران، صُعدا، بتجاوب مع حركة الواقع، ونبض هذه الذات، وفي خضم لا يفهم القول إلا غاضبا، تقوله لغةٌ فوّارة، ومجازٌ محلق في أعلى سماء، بصُور لا تحصيها الأسماء، كم تحتاج من ألوان واستعارات. بعبارة أخرى، ولدتُ، كما نرطن اليوم: «تجريبيا»، أي متمردا على الأشكال، لم أفطن وقتها أن كل أدب هو تجريبي في جوهره، بما أنه ينزع إلى الإبداع، من موقف رفض لنَسَق سابق، ثم ينتقل النضج والوعي بصاحبه تدريجيا إلى موقف معرفة ما يريد وبأي وسيلة، وكيف، ما أسلمني شيئا فشيئا إلى خطة كتابة القصة القصيرة والرواية بطريقة أو أساليب تغلبت فيها الروح والعبارة الشعرية والرؤية التجريدية في البداية (السبعينات) إلى نزوع نحو تشكيل العوالم السردية بمقاربة ومن منظور أكثر (موضوعية) وأميَل إلى التشخيص والحضور المادي للإنسان والأشياء، بينهما قضية، دلالة، كلما كمنت بدت أكثر قوة ومعنى، لا صراخا. فنحن الكتاب العرب كلنا أبناء قضية، مخاض أحلام وأوهام، كبرنا في الكبح والخسارة ولن نكف عن غواية الأحلام، أو أننا عدم. لذلك مصير التجديد، سمِّه ما شئت تحديثا، حداثة، للإنسان والواقع والتعبير، هو المصير الممكن فقط، فاتجهت كتابتي السردية، وقد خضت مع غيري غمار تجربة ثقافية وإبداعية وأكاديمية مختلفة بين المغرب والمشرق العربي، ثم الغرب الأوروبي، تكوينا وتدريسا، وكذا تجربة عيش بطعم مغاير حقا(عبرت عنها في نصوص منفتحة «نصيبي من باريس» (2014) مثلا)؛ وكان قد أصبح ورائي رصيد روايات، اتجهت إلى مراجعة أدوات كتابتي وشحذها في ضوء موهبة صُقِلت، وذائقةٍ نُخِلت، وثقافة نقدية أكاديمية حُكِّكت، وخصوصا فهمٍ لما يمكن للسرد، للرواية أن تتأهل به كجنس أدبي في عالم يبدو أكثر فأكثر حافلا بالتناقضات، ومعتركا للأزمات والمصائر المتضاربة، يبحث فيه الإنسان والجماعات عن خلاص شبه مستحيل، فتتعمق المأساوية، ولا يطفح الحلم ـ الخلاص إلا باللغة، كأن الجمال، ذلك المثال الأزلي والهارب من زمن الأسطورة، ما زال ممكنا. هنا أي منذ السنوات الأخيرة، أصبحت الرواية، بعد أن أخفقنا أو خفت الهمس الشعري بالأحرى فينا، هي سيدة التعبير في أدبنا العربي، نواصل ريادة شيخنا نجيب محفوظ، وجيل تبعه ممن عبدوا لنا الطريق، وندين لهم بكثير، متنقلين بين وجوه وصور وأفهام ومعان، بين دوال ودلالات، إلى أن وصلناـ ربما وصلتُ إلى عتبة الرواية المنشودة لدي، ولا أعرف إن كان نصي يستحقها، وهي تمثل خميرة الواقعي والشعري، وتزوج الآني بالجوهري، ويتفاعل فيها مصير الفرد بالوجود، وتفهم التجديد وتنسجه لا صرعة وإنما مرتكزا وقيمة، وتيمة جمالية ودلالية متآزرة، جغرافيته الأدب مطلقا، من قلب الانتماء إلى مدونة الرواية العربية. وأنا ما كتبت آخر رواية «ممر الصفصاف» مفكرا في جائزة، كما أني أجهل تماما مواصفات ومقاييس الكتابة على هذا الأساس (أي أساس؟!) وإنما لوجه الفن، لأصحح زعما خللا ما، وربما أزين اللوحة بلمسة، بلون، بنكهة، فلا نرضى عنها أهل الدراية في فن الرواية ممن عرضت عليهم وتُعرض، تا الله، إذن، أيّ مجد هذا، وقد عَظُم القصد! وفي صدد «ممر الصفصاف» في سياق تجربة إبداعية وجمالية؛ فالحال، أنه يتعذر حقا على الكاتب أن ينشئ عمله، ويصنفه، ويقومه. هما عمليتان مختلفتان تماما، والتعليق مهمة القراءة والنقد، وما يصدر من المؤلف حاشية تؤخذ على سبيل الاستئناس، وإلا فالنص هو المرجع أولا وأخيرا. ولكني أقول إن هذه الرواية، إذ تندرج في سياق مشروع منتظم، لسردية بدأت تجريبية، منفلتة العقال من القواعد، تمرح فيها اللغة وتشطح الصورة والاستعارة، وتتداخل الأنواع مخترقة بعضها بحثا عن» نوع متميز». ثم في خط البحث هذا انتبهتْ إلى هفواتها، منها تضخم أنَويتها السردية فطفقت تنتقل إلى تذويت موضوعي، في خط البناء والتصوير الناظم لوضع مجتمعي، وفردي، مقهور وموتور. هي سردية سعت إلى تأهيل الرواية باللغة والوسائط الجمالية، كي تعبر عن الالتزام الاجتماعي والهاجس الذاتي ـ الإنساني، بعد أن طفح كيل الجمالي أولا. «ممر الصفصاف» أعدها أخيرا، ومعي، تصور نقدي مصاحب، تعديلا للمسار بنزعة تبئير الشاغل الروائي (الرومانيسك)، تنتظم فيه خواص وفاعلية الرواية الموجبة لجنسها، وتتعداه إذ تتفتح داخله، وتتضاعف، وتمنح تلقيا متعددا، عسى تنتزع بعض فرادة مطلوبة، أي ما يمثل منظور وأسلوب وفكر مؤلفها، من زاوية وضع فرد، وجمع يتفرد، منه تولد وترسم وتتشخص وتتنامى كل المكونات وتتفاعل ذاتا وموضوعا، حقيقة وخيالا، مادة وتخييلا، بل وإنسانا وحيوانا، في قلب بؤرة صراع الإنسان من أجل حق الوجود فقط، فكأن الرواية تغدو الأرض الوحيدة المتاحة لهذا الوجود، ينشد كاتبها بالفن صنع معادلة الممكن والمستحيل! أما عن هذي الجائزة والفوز بها، فلنأخذ الأمر ببساطة. الكاتب، ككل خلق الله يبحث عن الاعتراف بما يعطي، إن كان موهوبا ومتفوقا حقا ومخلصا لعمله، خاصة. واعتراف الوسط هو تقدير لهذه الموهبة، ودليل على سمو نظرته للعطاء الرمزي، وهما غذاء روحي للكاتب، وقد تلبي حاجة مادية ملحة. فمرحى بالجائزة في مكانها، ولمن يستحقها. وهذه الجائزة بالذات، إذ تنسجم مع هذه الاعتبارات، تملك مصداقيتها الأدبية كأقوى جائزة تثمن الرواية في العالم العربي، وهو المعوَّل عليه، خاصة وقد أصبحت هذه الكتابة نهبا لكل عابر أو عابرة سبيل؛ إنها الجائزة، ولكم أتمنى أن تكون معي في الميعاد. روايتي الأولى شكري المبخوت لم يعد خافيا على أحد أنّ «الطلياني» هي روايتي الأولى! لذلك فالتحدّي بالنسبة إليّ هو كيف ستكون الرواية الثانية بعد نجاح الأولى سواء بما وجدته من حظوة لدى جلّ القرّاء أو بوصولها إلى القائمة القصيرة للبوكر. ومن حسن الحظّ أن البوكر لا تكافئ إلاّ النصوص بقطع النظر عن طول تجربة الروائيّ أو قصرها. وكثيرا ما أُسْأل باستغراب كيف أمكن لنصّ بكر أن يصل إلى هذه المرحلة الأخيرة من البوكر؟ وهو سؤال يثير كذلك استغرابي لأنّ الكتابة الروائيّة في تقديري ليست تدريبات بحيث كلّما كتبنا أكثر نجحنا في صياغة رواية لها حظوظ أكبر للنجاح. فلم أكن يوما حريصا على أن أدخل عالم الرواية بل فرض هذا النص ّ نفسه عليّ فانصعت إليه وكتيته. وأصدقك القول إنّه لو كان غير جدير بالنشر لما نشرته أبدا. أيضا، فلكلّ كتاب أجل ومسار وقدر. وقدر «الطلياني» إلى حدّ الآن أعتبره جميلا وهذا لممّا يبهجني. والحقّ أنّني لم أكتب وفي ذهني «اصطياد جائزة» وإنّما جاء الترشيح لمختلف الجوائز بسبب ثقة الناشر في الرواية. وشخصيّا أعتبر أنّه قد غامر بها مغامرة محسوبة لأنّه خبير بالفنّ الروائيّ وقارئ جيّد مطلع على المشهد الروائيّ العربيّ. وأعتقد أنّ الفوز بجائزة أمر مهمّ لانتشار الكتاب. وقد حصلت «الطلياني» فعلا على جائزة معرض تونس الدولي للكتاب فاعتبرتُ ذلك اعترافا أدبيّا من النقاد التونسيّين، على الأقلّ الذين شاركوا في لجنة الجائزة، بهذا العمل. أمّا إذا قدّر للطلياني أن يحصل على البوكر فهذا سيفتح بابا واسعا أمام روايتي بحسب ما نعرفه عن هذه الجائزة من إشعاع في عالم النشر والترجمة إلى اللغات الأخرى خصوصا الإنجليزيّة. وصدقا أتمنّى مثل زملائي الذي وصلوا إلى القائمة القصيرة أن تكون الجائزة الكبرى من نصيب «الطلياني». الكتابة هي الهاجس جنى فواز الحسن يخوِّلنا الاغتراب عن المكان، أحياناً، أن نرى أنفسنا بطريقة مختلفة. هناك فرق كبير بين معايشة مكانٍ ما والنظر إليه من خارجه أو حتّى رسمه صورة في المخيّلة لإشباع فضولٍ تجاهه كما فعل مجد بالنسبة لفلسطين. هناك أماكن أخرى غير نيويورك طبعاً كان من الممكن لبطلي العمل أن يلتقيا فيها، لكن سوف تكون الرواية مختلفة عندها. الذاكرة لا تمضي إلى مكانٍ مختلف أيّ أنّها لا تتحوّل وأنا أحسب أنّها تتجلى في البعد. كما الرغبة مرتبطة بما هو بعيد وكما المكان مرتبط بالمسافة، الذاكرة مرتبطة بالزمن وأعتقد أنّنا نحافظ عليها لأنّ زمننا على هذه الأرض محدود وبالتالي نخلّد ماضينا عبر استرجاعه وإن لم يكن ماضٍ سعيد لكنّه جزء منّا. وأعتقد أنّ اللاعب الأساسي ليس المكان وحده بل الزمن. ونعم نحن محكومون بذاكرة اجتماعية جمعية وأيضاً بشذرات فردية والزمن يخوّل الفرد أن يحوّل الذاكرة إلى موضع تحليل. أنا لست ضد مفهوم الجماعة بالمطلق ولكن تؤرقني هذه العلاقة بين الـ»أنا» والـ «نحن» وهذه الأنا قبل أن تكون جمعية هي إنسان أيّ فرد كان بإمكانه أن يكون مختلفاً كلياً لو ولد في ظروف مختلفة. الجماعات بطقوسها أحياناً وبعاداتها تشكّل هويّة قد تكون محببة وجزءا من الإنسان ومصدراً لراحته لكن المشكلة تقع حين تطبق الجماعة على أبنائها وتقيّدهم لكي لا يروا أبعد من حدودها، فيخسرون القدرة على صياغة علاقات سوية مع الآخر من الجماعة المختلفة. أن تقيّد نفسك بمعتقدات ومسلمات جمعية قابلة في الواقع للتشكيك وليس مبادئ إنسانية يضع حاجزاً بينك وبين الحياة بينما الحاجات البشرية الروحية والجسدية والعاطفية والمادية تتشابه إلى حدٍّ بعيد. الوعي وحده هو ما يمكن أن يساعدنا لبناء مجتمعات متنوعة وهذا ما لا يحدث في عالمنا الآن. لذا لا يهم أين نلتقي، ما يهم هو أن يحدث اللقاء. هذا الاغتراب أو اللقاء في الاغتراب بين مكوّنين مختلفين كان محفّزاً للعودة بالنسبة لهيلدا وربما بشكل أو بآخر لمجد الذي أعاد تواصله مع قريبه في المخيّم. لذا لم تكن نيويورك أو الغربة المخلّص في الرواية، كانت محطّة. في السياق ذاته، لو أن الذاكرة انتهت، لكانت الإجابة أسهل بكثير. لكن هل يمكن للفرد أن يستيقظ هكذا فجأة ويعيش من دون رواسب تكوينه والعوامل التي ساهمت في تشكيله؟. سأتحدّث عن لبنان هنا أو بالأحرى عمّا أطلق عليه أحد الصحافيين مسمّى «الشعوب اللّبنانية». نحن نعيش يومياً أزمة الهوية حين نسمع المقرّبين منّا يقولون عن الآخر «هم» وعندما يقول عنّا الآخر «هم» أيضاً. كيف يستطيع الفرد اللبناني أن يعيش ويحيا خارج جماعة في ظلّ انقسامات حادّة تجلّت في الحرب واستمرّت بترتيبات أخرى ولا تزال تنهش كياننا ليس الفردي فحسب بل الوطني أيضاً. ماذا يحدث حين نقرّر أن نفصل أنفسنا عن الجماعة وأن نمارس النقد الذاتي غير النبذ أو حتى التهميش. نعيش الألم يومياً حين نرفض الانقسام ومن عاشوا الحرب من دون أن يقوموا بها ويمارسوا تشوّهاتها عاشوه أيضاً. تخيّل أن يصبح الوطن بيروت «شرقية» وبيروت «غربية» وأن يصبح إطلاق النار على جارك مباحاً تحت أيّ عنوان أو ضمن أيّ تكتل. هذا طبعاً أمر مؤلم لأننّا محكومون بالعيش معاً. الجماعة تخطت هنا الممارسات المحببة والعادات الحميمة والعائلية لتصبح عنصراً مدمّراً. ألا يحق لنا أن نسأل عن الفرد في ظلّ كل هذا؟ وفي صدد الترشيح للجائزة وحتّى الفوز بها مثلاً فهذا أمر مرتبط بلحظات آنية وله إيجابيات مرتبطة بتسليط الضوء على العمل. وهذه اللحظات تحثّ على الفرح طبعاً وتشعر المرء بالتقدير وقد تشكّل له منبراً للتواصل مع القرّاء وتؤمّن تفاعلاً ثقافياً في ظل الحركة الثقافية الخجولة في عالمنا العربي المثقل بالسياسة والحروب. بعيداً عن الجوائز، نحن نعيش حيواتنا العادية بتفاصيلها الصغيرة وهي التي ترافقنا في ساعاتنا وأيّامنا. الفوز أو الترشيح بالتالي هو مكافأة. هل أتوقّع الفوز أو أرغب به؟ اخترت ألّا أفكّر بالأمر كثيراً لأنّ التمني والتوقّعات لا تزيد من فرصه. الهاجس الفعلي هو الكتابة، أظنّ أنّ أرقها يكفي لكي تكون وجهة التفكير الحقيقية. فسحة بين موتين عاطف أبوسيف لأقل أولا، إن الرغبة الكامنة في أي كاتب حقيقي هي أن يكون امتداداً لنهر الأدب العظيم الذي لا يتوقف في زمان ما ولا في مكان آخر. بالنسبة لي، أنا مثل كل أبناء جيلي وجدنا في الرواية الفلسطينية الجميلة التي كتبها آباء الفن الروائي الفلسطيني من غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا شغفاً يلبي الكثير من توقنا للبحث عن ذواتنا، خاصة في ظل قسوة الواقع الذي عشناه ونعيشه. من جانب آخر ثمة رغبة حقيقية في دفع هذا الفن الجميل للأمام. الكاتب الفلسطيني يقع أسيرا لرغبته في الإخلاص للألم الذي ورثه والذي خبرته شخوصه في الحياة وفي الرواية وبين التزامه بتقديم فن روائي قادر على محاكاة الشرط الإنساني خارج سياق حدود الجغرافيا. وإذا كان الأمر كذلك فإن السرد بكل ما يشير إليه أو يستخدمه من لغة وتقنيات وإحالات معرفية وزمكانية يجب أن يبحث عن تقديم عالمه خارج أسوار هذا العالم. أظن، وربما في ذلك بعض التوق، أن الحياة التي نعيشها والعالم الذي تختبره شخوص رواياتي، والذي هو امتداد وجزء من هذا النهر المتدفق للسرد الفلسطيني الذي وجد بداياته في مطالع القرن الماضي، يستطيع أن يكون خبرة إنسانية بامتياز. بالطبع المخيم الفلسطيني، بوصفه شارة القصة الفلسطينية ومنارة الدلالة عليها، هو حكاية مختلفة، ربما لا تمتلك الثقافات الأخرى ولا حتى العربية خارج سياقاها الفلسطيني شبهاً له. ليس لأنه مكان فريد وخير مستدام في وعي القارئ غير الفلسطيني – إذ أن كلمة مخيم تشير إلى مجموعة من الخيام التي تنصب مؤقتاً وليس إلى بيوت من الأسمنت لم يكن يقصد وقت بنائها أن تدوم عقوداً؛ بل لأنه مكان تجد فيه تناقضات الحياة بكل تجلياتها، كما تجد البحث النهم عن الحرية والحب في ظل سياج رديء من الموت والكراهية. إنه إحالة لوقائع أكثر كونية ينبع من قلب خصوصيته البحتة. ثم إنني اعتقد أنني قد أميل إلى أن السرد برمته وتاريخيته يتأرجح بين صراع الفرد والجماعة. في الحالة الفلسطينية ثمة طغيان للجماعة والهم الكبير على حياة الفرد. وبالتالي، ثمة انزياح وصراع بين السرد الجماعي والسرد الفردي. في مجمل أعمالي الروائية السابقة ل»حياة معلقة» كنت مفتوناً كثيراً بمقدرة الفرد على التخلص من شباك الألم الجماعي، ومقدرته على التملص من البوح الأوركسترالي، وكنت أرى صراع الفرد في المجتمع – دون أن ينسلخ عنه- جزءاً من صراعه مع ذاته. في «حياة معلقة» أردت أن أعود للمجتمع ليس بوصفه كل متجانس ولكن بوصفه مجموع أفراد. لذلك حفلت الرواية بالعديد من الشخصيات التي رأيت أنها تعكس حالة المزاج العام بتنوعه. فحياة سكان المخيم هي فسحة بين موتين؛ موت نعيم وموت الحاج خليل. هي تبدأ بموت فردي وتنتهي بموت فردي وما بينهما سرد لحياة الجماعي. كأن الحياة هكذا ليست إلا تنوعا وتمازجا بين حياتنا كأفراد وحياة المجتمع الذي نعيش فيه. أما عن وصول الرواية إلى القائمة القصيرة لهذه الروية، فأنا سعيد بذلك، لأن الراوية فلحت في الإفلات من مصير شخصياتها، فلم تظل معلقة كما حيوياتهم. وثمة إشارتان قد يقترحهما هذا الترشح. الأولى هي التفاتة للأدب الفلسطيني الشاب الذي هو امتداد للأدب الفلسطيني الرائع الذي تربينا عليه، وبكلمة بنظرة ثاقبة على فنيات الرواية المعاصرة، والثانية هي اقتراح بالالتفات للأدب الجميل الذي يكتب عن غزة. فغزة ليست مدينة حرب وموت ودمار، فإلى جانب كل ذلك فهي مدينة تحب الحياة وتسعى إليها. مدينة فيها ما في المدن الأخرى من تناقضات وتجاذبات وصراعات وبشر يحبون ويكرهون، كما فيها البطل الثوري الرائع والمنهزم والانتهازي، وفيها الأحلام وفيها الإحباطات. وعليه فيها الكثير من الكتاب الرائعين سواء في من يكتب منهم الشعر أو من يكتب القصة ويستحقون أن يتخطوا حاجز ضيق المكان. يبقى الفوز بالجائزة. إنه أمنية كل كاتب بالطبع، لكنه أيضاً لا يشكل قلقاً قاتلاً. فالأساس أن الجائزة نجحت في لفت الانتباه للرواية وبالتالي انتصرت لها. تكفي صورة ليشتعل الحنين لينا هويان الحسن أؤمن أن فن الرواية هو فن «صناعة الحكاية» فالرواية هي دائما غير منتمية إلى نظام فكري معين، غير منضبطة، تجريبية، علينا أن نكتب كل ما يمكن أن يتسبب بالثغرات اللازمة في جدار التاريخ المتصلب، وِجِدَت الوثائق لتكون هدفا أدبيا وليس لتظل مطية الغبار، الوثائق المنسية مع لعبة الخيال حالة تظل بمثابة إغراء أبدي لفن الرواية. حاضرنا المرير والمترع بويلات نجترها بسبب تقديسنا للماضي بكل ما فيه بأحقاده وخفاياه إلى حد أننا غدونا نرث الكره كجينة موجودة في الشيفرة الوراثية العربية. كل ذلك أسباب وجيهة لتسمح الرواية بتوسيع هائل لحدود الثيمة، بحيث يتم إسقاط الحواجز التي تشكل عوائق لتشكيل الرواية. حمولة كبيرة حملتها من الذاكرة والتاريخ والأسطورة بحكم انتمائي القبلي لعشائر بادية الشام السورية، حيث ثمة ذاكرة صحراوية حظيت بها بسبب علاقتي الوثيقة بمسقط رأسي رغم أني عشت معظم حياتي في دمشق قبل أن أنتقل حاليا إلى بيروت بسبب الظروف السائدة في سوريا. لهذا أخذت عدة نصوص كتبتها، طابعا خاصا ينسجم مع حقيقة أني كرست قلمي لتدوين الذاكرة الشفاهية للبدو.. ألم يقل ألبير كامو ذات يوم: «إن تفكير أي إنسان هو قبل كل شيء حنينه». انتزعت نفسي من حنيني الصحراوي وكتبت عن عالم لطالما ما أغواني عشت في كنفه لمدة طويلة من الزمن هو المجتمع الشامي. لهذا كرست روايتي الأخيرتين لمدينة دمشق، رواية «نازك خانم»، وراويتي الأخيرة «ألماس ونساء» الصادرة مؤخرا عن دار الآداب، فدمشق مدينة جذابة ومغوية تمتلك تاريخا من الأسرار والخفايا المغرية بإفشائها كل تلك القصص الغامضة التي تجترحها النساء في ظل جدران الحرملك. قد يعتقد الكثيرون أن الحرملك نظام انقضى عهده، بينما العين الروائية تلتقط تفشي الحرملك بطرق جديدة أحيانا مباشرة وواضحة وأحيانا مواربة. منذ البدايات الأولى للتاريخ كان الأدب الوسيلة المفضلة لتدوين التاريخ، كالإلياذة والأوديسة وجلجامش، زمن الملاحم لم يكن إلا تاريخا مكتوبا بلغة الشعر الروائي، أيضا دعونا لا ننسى سيرة بني هلال، أوالزير سالم أو الظاهر بيبرس.. الأمثلة كثيرة على ذلك. ثم أني أجعل أبطالي، أي الشخصيات الخيالية في المقام الأول بينما الشخصيات التاريخية تنحصر في المقام الثالث حتى لا أتقيد بحقائق التاريخ. الرواية تنفر من فكرة كتابة التاريخ بحذافيره، هذا شأن خاص بالمؤرخين، بينما الرواية لا تجعل التاريخ نصب عينها، قبل فكرة الرواية. في روايتي «ألماس ونساء» قدمت رؤية كوزمبوليتية تقوم على فكرة التسامح بين شعوب العالم وحوار الأديان. أنامل التاريخ لم تكف يوماً عن تسوية ملامح الجغرافيا، لا براءة للتاريخ إزاء الجغرافيا، لعل ما حاولته في هذا الشأن كان محاولة مندمجة بالمتن الروائي لتوضيح بعض المعالم الجغرافية التي عبث بها التاريخ، ففي كل أعمالي البدوية تحضر «ديرة الشمبل» و»قصر ابن وردان» و»الاندرين» كأمكنة لا تنفك تعاود الحضور في نصوصي الصحراوية. فالمكان يوطّن الحنين، ويغذيه، ويرويه، تكفيني صورة بالأبيض والأسود لقصر لأثر كي يتشعل حنيني لأمكنتي المفضلة. أخيرا، تبقى الجائزة مهمة في تكريس الاسم، وتسليط الضوء على نصوص أخرى كتبها الكاتب قد تكون أحيانا أكثر أهمية من النص الذي يحظى بالجائزة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©