الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثنائية «الصديق - العدو»

ثنائية «الصديق - العدو»
26 يوليو 2017 20:28
يخترق التمييز بين الصديق والعدو كل تاريخ الفكر السياسي تقريباً، فهو تمييز يمكن الفكر السياسي من الاضطلاع بوظائف متعددة تتدرَّج من الوصف البسيط لحالة قائمة، إلى صياغة المبادئ التي يتعين توخيها طلباً للحذر، فإلى التحليل الاستراتيجي لمجال القوى الفاعلة والمؤثرة، ثم إلى تعريف الحق في الحرب أو التنظير لماهية السياسي. ويبدو أن تمرير التفكير في العلاقات بين الدول على محك ثنائية الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو يقتضي أولاً التخلص من بريق الأيديولوجيا وشعاراتها المضللة التي لا ترمي فقط إلى تزيين الالتزام السياسي داخل حزب أو جماعة، وإنما تطبع التفكير السياسي بضرب من الرومنطيقية فتحول دون الموضوعية والدقة، وقد تكون الحاجة ملحة، اليوم (مثلما كانت عليه دائماً في واقع الأمر لا محالة) إلى استئناف النظر في ثنائية الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو، وذلك نظراً إلى تداخل العلاقات بين الدول والتباسها، دولياً، وإقليمياً بكثير من المناطق حول العالَم، حيث الحليف حليف هنا وعدو هناك، وحيث العدو عدو هاهنا وحليف هنالك.  نظرية الصديق والعدو لا يمكن أن نتناول هذا التوأم «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» دون أن نستحضر، أولاً، الألماني كارل شميدت Carl Schmitt والفرنسي جوليان فريند Julien Freund، ودون أن نستحضر، ثانياً، أعلاماً آخرين أثروا في الفكر السياسي سنحيل إلى بعضهم هنا، فقد فهم هذان المفكران، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن مفهوميْن مثل «النفوذ» و«العدو» ينبغي اعتمادهما ضمن مصطلحيْن متلازميْن «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» أثناء التحليل الموضوعي لمواصفات الفاعلين في العلاقات الدولية. صحيح أن كارل شميدت كان منتسباً إلى النظام النازي وأن جيليان فريند كان طالب فلسفة انخرط مبكراً في المقاومة، إلا أن أعمالهما موسومة بدواخل تلك الحقبة، فتفكير كل منهما في العلاقة صديق/&rlm&rlm&rlm عدو يتأتى من سعيهما إلى استخلاص مقومات تلك الفترة وتجريدها نظرياً، وهذا من شأنه أن يثير بعض الصعوبات بالنسبة إلى من يروم التوسل، اليومَ، بهذا التوأم السياسي ما دام التاريخ غير التاريخ والوضع الجيو- سياسي غير الوضع، بل إن الصعوبة لتتضاعف عندما ننتبه إلى أن التحليل بوساطة مصطلحَي «الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو» يضع هذا التحليل نفسه في وضعية محفوفة بالمخاطر، فالموضوع حساس بما أنه يوفر سنداً مسوغاً للحرب وهو ما يعترض عليه عادة دعاة السلم المنتسبون إلى بعض الأيديولوجيات الحالمة، إذْ بالنسبة إليهم ينزع تاريخ البشرية إلى غائية السلام الأبدي. أما بالنسبة إلى كارل شميدت فإن «التمييز الدقيق للسياسي هو التمييز بين الصديق والعدو». وهذا التكييف يوفر مبدأ له قيمة المعيار وليس قيمة التعريف الحصري أو الشامل، بحيث يغدو تمييزاً تبريرياً للحرب والعدوان، لكن حينما التقى الرجلان لأول مرة في كولمار بفرنسا، في 1959، تأثر جيليان فريند بذلك وكتب «كنت لا أفهم إلى ذلك الوقت أن السياسة كان لها كأساس الصراعُ الذي يقابل بين خصوم حتى اكتشفتُ فكرة «العدو» بكل ثقلها، وهو ما فتح أمامي آفاقاً جديدة حول مفاهيم الحرب والسلم». تُدْرَك، إذن، جدلية الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو، بالنسبة إلى شميدت، على أنها مفهوم مستقل في حدود أنه لا يختلط باعتبارات أخلاقية (خير/&rlm&rlm&rlm شر)، ولا جمالية (جميل/&rlm&rlm&rlm قبيح)، ولكنه يُكون في حد ذاته أمراً معقوداً بالطبيعة على التعارض بين ضديْن. أما بالنسبة إلى جيليان، فإنه ضمن ماهية السياسي تقود المسلمة صديق/&rlm&rlm&rlm عدو السياسة الخارجية للدولة، فهذه المسلَّمة مقترنة بعلاقة الأمر/&rlm&rlm&rlm الطاعة حيث الغالب يفرض الأمر والمغلوب يطيع (وهي مسلَّمة الأمر السياسي الخارجي) وبعلاقة الخاص/&rlm&rlm&rlm العام حيث تفرض السلطة السياسية التمييز بين المجال العام والمجال الخاص (وهي مسلَّمة الأمر السياسي الداخلي). إن كلاً من هاتين المسلَّمتين يشكل، مبدئياً، جدلية غير قابلة للتجاوز: فلا واحد من هذين الحدين يُستوعبُ في الآخر، لكن التباس العلاقة بين طرفيْ توأم الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو من شأنه أن يشوش الصورة داخلياً وخارجياً. ولئن كان هذا التوأم «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» يكتسي دلالة مخصوصة في الفكر السياسي المعاصر، فإنه بوصفه مفهوماً فلسفياً سياسياً، قد صاحب تفكير الفلاسفة في التدبير السياسي للمدينة وأعدائها منذ أفلاطون حيث بالنسبة إليه، التمييز بين الصديق والعدو حالة فعلية عادية، فعلاقات الصراع هي التي تقيم تعارضاً بين المجموعات السياسية أثناء تطورها، فالمجتمعات إنما تتكون في الحروب التي لا تمثل أفقاً نهائياً لها، ولكن مرحلة ضرورية لنموها (الجمهورية، الجزء الثاني). لدى أفلاطون، الطبيعة هي التي توحِّد البشر في إطار «المدينة»، وبين المدن أيضاً، تماماً كما تفرق الشعوب التي من أنواع مختلفة. إن الصداقة، بين مواطني المدينة، تعلو على كل أشكال الفرقة أو الفتنة، في حين أن العداوة تحدد العلاقات بين المدن (الدول). وقد يكون من الوجيه استرجاع المفهوم الأفلاطوني «فتنة» (الجمهورية، الكتاب الخامس) حيث ما هو منطقي هو أن تكون الصداقة في الداخل، والعداوة في الخارج. وبحسب شميدت، فإن هذا التصور يشهد على التعارض بين العدو الخاص &ndashعدو حسب نمط الفتنة الداخلية- وبين العدو العام &ndashعدو حسب نمط الحرب- ولا بد، هاهنا، من استحضار إشارة دريدا Derrida إلى أن أفلاطون قد يكون خلط بين العداوة والغيرية، على أن الأهم من ذلك هو أن تكييف العلاقة مع الآخر على أنها صنوُ العداوة لا يعني بالضرورة الحرب، وإنما يعني توخي الحذر حسب وصايا بيفندورف Samuel Pufendorf، المؤرخ وفيلسوف القانون الألماني (القرن السابع عشر)، ذلك أن شخصاً حذراً يحرص على المحافظة على نفسه ينبغي أن يعامل كل الناس على أنهم أصدقاء، على أن يتذكر دائماً أنهم يمكن أن يصبحوا أعداء، ومن ثم يقيم السلم مع الجميع كما لو أن هذا السلم يمكن أن يتحول قريباً إلى حرب، وعليه فإنه يكون من الجيد، في صميم السلم المستتب، التفكير في كل ما هو ضروري للحرب، وهذا مبدأ عام للسياسة الجيدة، بحسب ما يضبطه هذا الفيلسوف. أما جيليان فريند فيستند إلى الجدلية «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» ليثبت أن الحرب ملازمة للسياسة، بحيث يخلص من ذلك إلى أنه لا يمكن للإنسان أن يتحاشاها. أما في ما يخص العلاقة عام/&rlm&rlm&rlm خاص، فإنه يقر اختلافاً بين الصديق الخاص (داخلي-شخصي) والعدو العام أو السياسي على شرط أن يتنامى التعارض بينهما نحو التمييز صديق/&rlm&rlm&rlm عدو فيغدو سياسياً أكثر لأنه «لا يكون ثمة سياسي إلا حيث يكون ثمة عدو واقعي أو افتراضي»، فالدولة بالنسبة إليه، هي الوحدة السياسية التي نجحت في أن تلفظ العدو الداخلي إلى الخارج، بيد أن استقرارها ليس مكتسباً على الدوام، وعليه، فإن مسلمة «الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو» هي التي تكون شرط حفظ الوحدات السياسية. إن العلاقة الجدلية الخاصة بهذا الزوج هي الصراع حيث يكمن طابعه الأساسي في تعدد الأشكال التي تتراوح بين الديني، والقومي، والحضاري، والاقتصادي، إلخ. وفي الجملة نكون إزاء موقفيْن: أحدهما لا يجعل من التمييز «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» مقياساً نهائياً للسياسي، ولكن مسلمة أساسية من بين مسلمات أخرى (موقف فريند)، في حين تشكل فكرة وحدانية المفهوم «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» ماهية السياسة (موقف شميدت)، وهذه الفكرة الأخيرة من شأنها أن تسهم في قلب الصياغة الشهيرة لمنظر الحرب الألماني كلوزفيتش Clausewitz Carl von «الحرب هي استكمال السياسة بوسائل أخرى»، بحيث إنه إذا كانت الحرب، بالنسبة إلى فيلسوف القانون هذا، تواصل السياسة، فإن السياسة، بالنسبة إلى شميدت، تواصل الحرب ذلك أن الحرب ليست فقط امتداداً للسياسة بل طبيعتها نفسها. الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو في العلاقات الدولية إن سياسة متوازنة للدولة ينبغي أن تحدد العدو، الطرف الأساسي من طرفيْ هذا الزوج، والذي معه يُبرم السلام، فلا حاجة، حسب بعضهم، إلى إبرامه مع الحليف. ذلك أن عدم الاعتراف بوجود العدو يتضمن مجازفة، فعدو غير معترف به يكون دائماً أخطر من عدو معترف به. وما يبدو جديراً بالانتباه هو أن عدم الاعتراف بالعدو يكون عائقاً أمام السلام، وإلا فمع من يُعقد السلام إن لم يكن هناك أعداء؟ فهو (السلام) لا يُقام بذاته من خلال انتماء البشر إلى مذهب سلمي أو إلى آخر، خاصة أن عددهم يستثير، لا محالة، الخصومات التي من شأنها أن تذهب إلى حد العداوة، دون أن نأخذ في الاعتبار أن الوسائل الموصوفة بالسلمية ليست دائماً، وليست بالضرورة، هي الأفضل لحفظ حالة السلم القائمة بعدُ. إذا كان من اللازم ألا نشكك في مكاسب السلم وفي جدوى النضال من أجل المحافظة عليه، فينبغي أيضاً أن نتخلص من بعض الأوهام الساذجة التي تحملها عقول مسالمة حالمة، فأمة منخرطة في لعبة العلاقات الدولية ينبغي عليها، من أجل الاستمرار في البقاء، أن تحدد أعداءها، لأنه لا يمكن ألا يكون لها أعداء. بل هناك دول تبحث عن عدو بطريقة متعمدة. والصعوبة تكمن في أن العدو هو اليوم أكثر تفشياً في التفاصيل (المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وهياكل الدولة) وهو أكثر مكراً، إذ يتقنع بصفات مختلفة، ويتستر على نواياه، لكن لا يعني ذلك أنه لا واقعي أو أنه غير متعين، فشكله يتنامى اطراداً بحيث لا يمكن اختزاله فقط في شكل الدولة، وكما يرى بعضهم فلدى كل فاعل جديد (مؤسسة، منظمة غير حكومية...) تكمن عداوة ممكنة.  قد يكون صحيحاً أن الأنشطة الطبيعية للإنسان تختلف من حيث الماهية، لكنها على أية حال. تتصادم وتتداخل وتتحاور بقوة، فالاقتصادي والسياسي مثلاً مستقلان أحدهما عن الآخر، لكنهما في والوقت نفسه، غير منفصليْن وفي صراع. والحال هذه، ينبغي الانتباه إلى ما يكتسي الخصومات بين الدول من صبغة اقتصادية متنامية تتسم بكونها لا مرئية وتتنقل من مجال إلى آخر فضلاً عن الطابع اللامادي للعدو. ومع ذلك، هذا التحول ليس نهائياً بما أن الجدلية المتناقضة بين ماهيتيْ السياسي والاقتصادي تأخذ شكل صراع دائم وبلا منتصر دائم. ومن جهة أخرى، ينبغي ألا يغرينا القول بأن الحرب تحل نهائياً المشاكل السياسية المطروحة من قبَل العدو، «فحتى الهزيمة التامة للعدو تستمر في طرح مشاكل على المنتصر». على أن الإشكال الذي يواجه نظرية شميدت هو أنه على الصعيد الدولي، يعبر التوأم (حرب - سلم)، بتناقض طرفيْه وبتناوبهما، عن هوية السياسي والصراع بين الدول، ولكن ميثاق الأمم المتحدة يخرج الحرب من دائرة السياسي، وذلك بتعويض التمييز «صديق/&rlm&rlm&rlm عدو» بالتفريق القانوني بين معتدٍ، أو مرتكب فعل إجرامي فيُحمَّل المسؤولية بنسبة ما ليكون مكرَهاً على تسويات معينة، وبين ضحايا ينبغي أن ينعموا بحماية القانون وبتضامن الجميع. لكن حسب شميدت، يبدو هذا الادعاء بتذويب السياسي في القانوني، وحتى في القانون الجزائي، فاقداً للأساس وغير قابل للتطبيق، فضلاً عن كونه، في نظره، قاسياً جداً على المهزومين الذين لن ينعموا بحماية المساواة القانونية، بل ينبغي أن يضاف الإقرار بالذنب إلى الاعتراف بالهزيمة، وهذه حسب رأيه عودة للأخلاق البدائية ضد تقاليد الحضارة الأوربية. إحراجات مفهوم «العدو/&rlm&rlm&rlm الصديق» يبدو أن المطلوب، إذن، هو أن نكون مع شميدت ضد شميدت، معه طالما تناسبت حقائق الواقع مع الموضوع الذي يبسطه. وضده طالما كان نازياً نصيراً للحرب. لكن، ألا يمكن أن نغادر معادلة التناوب هذه؟ ألا يمكن أن نتخلص من هذا التحير بين الصديق والعدو؟ وضمن أية حدود يجوز أن نستخدم مفهوميْ صديق/&rlm&rlm&rlm عدو، وأن نفحص الصلة بينهما، وأن نترسم ملامح شراكتهما في الخطاب السياسي دون أن نأخذ بالضرورة موقفاً مع شميدت أو ضده؟ ثم إن بعضهم يذهب إلى أن التوأم صديق/&rlm&rlm&rlm عدو ليس تعريفاً للسياسي بقدْر ما هو نفي له، فالحرب ضد عدو خارجي قد تعني أيضاً الهيمنة القسرية في الداخل. ومفاد ذلك أن الحرب ضد عدو في الخارج هي بمعنى ما حرب ضد «صديق» في الداخل. ويقيناً أن السياسي، حسب بعضهم، يميز بين «نحن» و«همْ»، وذلك حتى يسوغ المنافسة، لكن المنافسة ليست الصراع. والمنافسة يتم تدبيرها داخلياً بأشكال مختلفة من بينها الشكل الديمقراطي، ويتم تدبيرها خارجياً بالاتفاقات والعلاقات الدبلوماسية. إلا أن المثير للهموم هو «اختفاء» صورة العدو من المشهد السياسي الدولي وإحلال صورة المنافس محلها، فذلك يهدد بفقدان السياسي نفسه، ما دامت هذه الصورة هي شرط إمكان السياسة، وهذا ما يدفع إلى طرح السؤال: هل العدو مناسباتي أم هل هو جوهري؟ وعلى أية حال، فإن ما نلاحظه هو أن الكتابات الفكرية السياسية المعاصرة التي تتناول ثنائية الصديق/&rlm&rlm&rlm العدو كثيراً ما تكتفي بتقديم مواصفات العدو وتسكت عن مواصفات الصديق، فهل يعود ذلك إلى كون الصداقة ما إن تقال حتى تذكرنا بتلك المناجاة المنسوبة إلى أرسطو «يا أصدقائي، ما من صديق»؟ هل معنى ذلك أن الصداقة تكون مغلفة بالصمت، وإلا فإنها ما إن يُتلفظ بها حتى تكشف عن هذه المفارقة التي تشقها، أي التوجه بالنداء إلى أصدقاء، وفي الوقت نفسه، إنكار وجود أي صديق؟! قد يكون هذا الالتباس هو الذي دعا جاك دريدا إلى أن يفرد كتاباً لـ«سياسات الصداقة».. في السلم.. فكّر في الحرب أنّ شخصاً حذراً يحرص على المحافظة على نفسه ينبغي أن يعامل كلّ النّاس على أنّهم أصدقاء، على أن يتذكّر دائماً أنّهم يمكن أن يصبحوا أعداء. ومن ثمّ يقيم السّلم مع الجميع كما لو أنّ هذا السّلم يمكن أن يتحوّل قريباً إلى حرب. وعليه،  يكون من الجيّد، في صميم السّلم المستتبّ، التّفكير في كلّ ما هو ضروريّ  للحرب؛ وهذا مبدأ عامّ للسّياسة الجيّدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©