الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوديسا طائر الجنوب

15 يناير 2014 21:50
يحتكم كتاب “دفتر العابر” للشاعر المغربي ياسين عدنان إلى استراتيجية خاصة في الكتابة، قائمة على تدبير ثروة القول الشعري وفق خارطة نسقيّة، محكمة المداخل والمخارج. تومئ العتبات السديمية للدفتر بملمح أوليّ للنص، الذي يبدو تخييلاً ذاتيا لحياة متنقّلة ومتحوّلة وغير ثابتة، في أكثر من مكان. تخييل شعري يوثّق مجازيا لسفر متعدّد بين المدن والقرى، مغرباً ومشرقاً، شمالاً وجنوباً، في شتّى أصقاع العالم. فالسفر هنا مقامات، منطلقها قدر الترحال الذي ورثه الشاعر في صورة غجريّة عن جنوب السلالة: “أنا شاعر من الضفة الجنوبية لبحر الزقاق” ص193. ثم يردفه ولعُ التيه صنو ولع المفازات عند صعاليك الشعر العربي والهَيَمان على غير هدى في جيوب المدن الرّملية بين تخوم ورزازات التي قضى بها الشاعر عقدا كاملا وأمومة مراكش، ولعٌ يتفاقم امتدادا ويستفحل انعطافا مع بزوغ أو اندلاع شهوة السفر الكبير، السفر الخرائطي، كأفق إنساني، كوني، لا نهائي قبل أن يكون أفقا شعريا لتحقق مغامرة القصيدة. وكأنّ الكوجيطو الشعري الذي يستند إليه كتاب “دفتر العابر” هو السفر الدائم المعني بجوْب أو تجْواب الأفاق. وهو سفر لا يمكن أن يكون بالفعل، إلا بحضور ثنائية ملازمة بشكل دامغ، فيما يشبه تعالقا جدليا وخصبا: أي تعالق النبيذ والأنثى. الحانة والقينة. فالدليل السري إلى متاهة المدينة المسافَرِ إليها كامنٌ في بريق الكأس، وكشفُ لغزيّة المكان لا يستقيم إلا بشموس الحسناوات. وكأن المكان لا يعوّل عليه إذا لم يؤنّث، كما يقول عرّاب المتصوفين ابن عربي، والشيخ الأكبر يعني المكانة طبعا، غير أن تحويرنا لـ “يؤنث” في مقولته – الدالة على المرأة وفق تصرفنا الآثم - ضرورة شعرية يمليها الغوص الجوّاني داخل نهر الكتاب. ما من مدينة أو عاصمة أو قرية يطؤها الشاعر إلا ويكون المدخل العمليّ إلى سراديبها المعتمة امرأةٌ نجلاء: نجلاء في حسنها البديع من جهة، وفيما تحيل عليه أو يحيل عليه اسمها بالأحرى. فأسماء الحسناوات هنا ليست اعتباطية، بل هي أسماء مفاتيح، لها علاقة وثيقة بموروث تلك الأمكنة الأدبي والفني أو هي أسماء يرن معدنها على حجر ذاكرة الشاعر الخاصة: فعلياء الألمانية هي عليا أغنية فيروز، وإيفلين البريطانية هي إيفلين قصة جيمس جويس، على سبيل المثال لا الحصر. المرأة هنا هي تاريخ المدينة وثمالتها. فللمدينة اسم رسمي يتداوله العالم، وللمدينة اسم غير رسمي، أشدّ خصوصية، هو اسم حسنائها الذي يصطفيه الشاعر لها استعاريا. جنّة النار سفر ياسين عدنان وإن لم يكن عجائبيا وميتافيزيقيا كما في رسالة الغفران للمعري، والكوميديا الإلهية لدانتي أليغري، فهو ينتمي إلى صنفهما من حيث شكل الملهاة الإنسانية التي تتمركز حول ذاته الرائية والمرئية في آن، ذاته الطاعنة في الخروج التي تحل زائرا طارئا في أمكنة غريبة. فبالتأكيد الملهاة هنا في “دفتر العابر” لا علاقة لها بتخييل الجنة والجحيم وفق النموذج الديني الأخروي، كما عند المعري ودانتي، ولكن الجنة والجحيم يحضران ها هنا كفضاء وأفق غير منسلخين عن جلد الحياة المرئية الملموسة. فأول ما يسترعي الانتباه في النص الشعري الطويل الموسوم بدفتر العابر، هو بدايته المؤسسة على مفارقة لغوية يعلنها مفتتح الكتاب بعناية وليس كما اتفق. في الصفحة (13) نقرأ: ثم رحلنا إلى جنة النار كنت أحمل سماء بأجراس مقرحة على كتفي وأنوء بغيوم من الملح والنعاس جنة النار هي الوجهة المشتهاة التي يفصح عنها أول الكتاب، جنة كامنة في النار! أي نار هذه تستضمر الجنة إذن؟! نار بروميثيوس أي نار الشعر المقدسة؟ أم نار الشمال البارد؟ نار الصبوة الدائمة أم نار الحقيقة المشبوبة المتوارية خلف البحر؟ ما عساها تكون جنة النار التي يمضي في طريقها الشاعر ولا يكاد يصل إليها؟ كأنما الطريق المفتوحة على اللا نهاية هي غاية السفر، وكأنما المحطات التي تفضي إليها الطريق، مجرد مرافئ لاستيقاد جمرة التيه والإيغال في الترحال، ترحال لا يرتضي المقام والاستقرار، بل يروم احتطاب إشراقات عاتية في أمكنة بعينها، إشراقات بمثابة نجوم يقطفها العابر ويخفيها في سماء ذاكرته الخاصة. الإشراقات / النّجوم التي ترسم موجز تاريخ حياة الشاعر المجازية فعلا. فكل ما هو خارج عن كتاب السفر باطل وبدون معنى. جنة النار المفارقة هذه تكمن ملامحها في كل المدن والقرى التي عبرها الشاعر وأنفق فيها من ذهب عمره، وخلّف أثرا جليلا في سجلها البرونزي. إنها غير جحيم رامبو أيضاً، لأن جنة النار هنا استمزاج لمعنيين متناقضين ينفطران عن ثمرة دلالية مركزية تتقعر الكتاب كبذرة منها يندلع ويتناسل ويتشعب ويتفرخ ويندلق ويجنح عشب النص الداغل. فتكرار عبارة “ثم رحلنا إلى جنة النار” ليس اعتباطا، إذ تنوء هذه الجملة الشعرية بخصيصة محورية في النص، بمثابة المفصل الذي يلمع كحد واصل بين الوحدات الشعرية الكبيرة في مساحة الكتاب وهي أربع. الوحدة الشعرية الأولى تمتد من الصفحة 13 حتى الصفحة 37، والوحدة الشعرية الثانية تبدأ من الصفحة 37 حتى الصفحة 43، والوحدة الثالثة تبدأ من الصفحة 43 حتى الصفحة 152، والوحدة الرابعة تسترسل من الصفحة 152 حتى مختتم النص أي الصفحة 203. أربع مفاصل مرتقة بخيط العبارة المشحوذة التي كانت مرشحة لتكون عنوان الكتاب، كما هو ملمع إلى ذلك في إحدى عتبات الدفتر. مع تكرار هذه الجملة المسنونة التي هي مبدأ القول الشعري، مرات أربع، يتغير لحن ترتيلها في المرة الرابعة، إذ تصير مكتوبة ومنطوقة بضمير المتكلم المفرد “أنا”: ثم رحلتُ إلى جنة النار. بينما ترددت في المرات الثلاث السابقة بضمير المتكلم الجمعي: نحن. فكأن الشاعر كان برفقة عصابة، وبمعيّة صحبة من الشعراء، في أطوار الكتاب الثلاثة، ثم صار فريدا، وحيدا وسيّد سفره من بعد في الطور الرابع الذي يشتط به بعيدا نحو الحدود المبهمة القصيّة. وهنا تفرض صورة مارقة ذاتها، فكتاب “دفتر العابر” نص شعري طويل أشبه ما يكون بماراثون (يذكرنا بمطولات أوفيد وفيرجيل وحوليات الشعر العربي وبعض قصائد الصعاليك وجحيم رامبو وريلكه وسان جون بيرس وسليم بركات وأدونيس...الخ )، والشاعر عمليا لن يكون وفق ذلك إلا عداء مسافات طويلة، أو عداء أولمبياد بالأحرى، ويشبه انفراده في الوحدة الشعرية الرابعة، انفلاته عن الكوكبة التي صاحبته في الوحدات الثلاث السالفة. الشاعر ليس عداء وحسب، فهو لا يني يتحوّل إلى طائر جنوبي. هذا التوصيف الجوهري يطلقه الشاعر على نفسه، ويتردد صداه على طول المتن الشعري للدفتر: أرعى على كتفي ريشاً هائلًا وأطير كي أنسى الصديق وظله وأطير كي أتعلم الأسماء لغة القرين وخطوه مشي الملاك على الهواء سأطير كي أنسى السماء طريدتي وبحيرتي الزرقاء جنوح طائر الجنوب وتحليقه من سماء لأخرى، ما هو إلا أسلوب حياة قائم على الانفلات والتحرر من أسن الإقامة وصدأ الثبات. فالإقامة دائرة والسفر خط والثبات يقين وجهل والسفر شك واكتشاف. هكذا يدمن الطائر الجنوبي الترحال قرين الحلم. نقرأ في ص (146): أما لوثة الترحال فتراوح الحلم بلا بوصلة في القلب بلا تعويذة أو دليل وما يني الطائر الجنوبي الذي يرسم بتطوافه الملحمي وتجواله القوطي أوديسا خاصة، هي أوديسا طائر الجنوب. الطائر الذي يتحول إلى عاشق أندلسي، صهوته الأحصنة الفولاذية (القطارات والطائرات)، وغزواته أقصى الجغرافيا، شمال الحلم. سفر محبوك “دفتر العابر” كتاب في السفر العاشق، محبوك من بُراقيّات الشاعر المضيئة، بدءا بفاتحة البين باريس، إسراء من ورزازات إلى بروكسيل وبال وقرطبة ولندن وكوبنهاكن وستوكهولم قريبا من ميونخ ثم معراجا إلى وادي الذهب، كما لو هي استراحة محارب، ثم إسراء ثان إلى أشبيلية ومدريد وألمونيكار وغرناطة، ومعراجا آخر إلى ضاية الرومي لترميم فراغ الداخل، فإسراء من جديد إلى شيكاغو وأوكلاهوما وسياتل ومانشستر وأمستردام ولانابول (في الريفيرا الفرنسية) ونيس وموناكو وسان فرانسيسكو وكاليفورنيا وغرب النمسا ولوديف، ثم باريس كرّة ثانية فقرطبة من جديد وبحيرة الكونستانس وضفة الراين ولوديف أيضاً، ونهر أوهايو ومالمو كرّة أخرى، ثم أم البساتين مراكش: المنطلق والمختتم. كلما اشتد واحتد زمهرير الشمال، حن طائر الجنوب إلى هسيس الرمل ولفح الشمس الدافئة. وكلما أفرط صقيع الغرب في الشبوات، اعتور قلب الفارس الحنين إلى صائفة الشرق وهجير الصحراء. وكلما أمعن الأندلسي في غزوات الشمال، أجهشت الذاكرة ببرق أضاء صورة الجنوب، فتلمع لآلئ كل من المتنبي وابن زيدون وأبي البقاء الرندي وابن خفاجة ولسان الدين ابن الخطيب...الخ ولا ينسى الشاعر أن يتكرّم بتلويحة لائقة إلى أنصاب شعراء وفنانين تؤثث غرب القصيدة، مثل بوكوفسكي وجاك بريل وجاك كيرواك وبوب ديلان... يتنفس كتاب “دفتر العابر” بأكثر من رئة، ويفتح أزرار قميصه لتناصات شعرية متواشجة. أما تصريف خطابه فتتبادل ضمائر ثلاث محورية أدوار عزفه: ضمير المتكلم “نحن”، ضمير المتكلم المفرد “أنا”، وصيغة المخاطب. ينفخ الكتاب أكثر من لغة في طين أسلوبيته، فتلفي لغة الذكر الحكيم ولغة اليومي ولغة التراث ولغة السرد القصصي ولغة المتصوفة ولغة الفن الموسيقي الشعبي والغربي ولغة الموشحات...الخ هذا الزخم اللغوي المتعدد يوازيه ترف المعجم الذي يزخر بأسماء النبات والطير والحيوان. طبعا كان للكلاب حضور لافت في “دفتر العابر” حتى أن الشاعر سيغدق عليهم أربع صفحات كاملة جمع فيها كل أصناف الكلاب: بدءا بالكلاب التي تنبح في الجرائد وانتهاء بتلك التي تتعلَّق بالأهداب (ص:17، 18، 19، 20). لكن المستوقف في مقام الطيور، المقطع البلوري لوصف البومة في غرب النمسا ( ص: 186، 187، 188 )، سيجد نفسه إزاء بلاغة جارحة تكاد تضاهي ما قاله الشاعر عن كل نساء الدفتر، بل ومن فرط غوايتها، تكاد تحلق فعلا من بين تلك السطور في الصفحات الثلاث الموشومة. (أخال قارئ الصفحات الثلاث الموشومة، يتراجع للوراء، متخيلا تحليق البومة من ريف أحد السطور). وقبل منعطف البومة، هناك مشهد السناجب النزقة في حديقة البيت الأبيض (ص: 139 و140) وهناك لحظة الرتيلاء الرفيعة في وادي السليكون، (ص: 171، 172، 173)، وادي العناكب التي تسحب خيوطها على العالم، تحيل عمليا على الشبكة العنكبوتية العالمية للويب، وهنا صنف خارق ومضاعف للسفر الكوني الذي حققته الطفرة الخيالية الفادحة لعلوم الاتصالات الحديثة. وحين يعدد الشاعر ظلال المدن اللصيقة بجسده، في مختتم الكتاب، يجعل “مالمو” تذييلا لاسترجاعه الذهبي، فهل هي محض تلقاء أن يرصفها في آخر النص (ص: 200، 201): في مالمو أتممتُ قصيدة في مقبرة وغفوت قليلا في حديقة الأرواح لا شك أن جسدا لي قديما كان مدفونا هناك عجبا كلما خلوتَ أيها العابر بأرض اكتشفتَ روحا جديدة وعمرا قديما فاكتم أسرارك عن الريح دوِّنها في الأكفان وناولني بأصابع الرجفة القصوى هذا الكتاب نغمة الفناء الذي تصهل به المقبرة في مالمو، شبيهة برماد آخر الاشتعال الذي يطمح إليه جموح الكتاب وتيه الذات المؤرقة، غير أنه فناء ماكر ورماد محتال، يخفيان معا جذوة، ما أن تنفخ فيها الرياح، حتى يتواصل السفر الطروادي من جديد. على طول فراسخ الكتاب، يكسّر الشاعر نسقية النص وخطية التذكار، بالرجوع الغامر والهادر إلى أندلسه: أشبيلية وقرطبة وغرناطة، مما يجعل صورته متأرجحة بين صورة طائر من الجنوب، وطيف عاشق أندلسي أخير. يرصّع الدفتر ختمه المفتوح بمدينة الدروايش، فيما يشبه تطوافا دائريا، ويخاطب نفسه متسائلا عن يمينه (ص 203): أهذا كتابُك؟ أين يمينُك إذن؟ أكتابك؟ أم جذوة السفر خبت في روحك يا جوّاب الآفاق؟ هي إشارة خلاقة إلى سورة “الحاقة” من القرآن: “فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) عكس المصير الشقي لمن أوتي كتابه بشماله: “وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه”. يفلح النص الخرائطي “دفتر العابر” في خلق إيقاع جوانيّ للكتاب، يتأرجح بين التوتر والمداورة والامتداد. فالمدهش في “دفتر العابر”، هي تصاريف الرياح التي تنعلن بشكل خفي كدليل وبوصلة من جهة، وتتحول إلى تصاريف إيقاعية وموسيقية هي نفسها تصاريف الإيقاع والموسيقى لزحف الكلمات السيمفوني من جهة أخرى. “دفتر العابر” كتاب في مباهج السفر، يستند إلى التقاطات العين الحادة وزخم الذاكرة الفواح. مفتول من قنب الاستعارات، مسنون اللغة ذات الاشتغال الرصين والحكيم والأنيق، مجنّح الخيال، معتّق الرؤية، مقعّر الرؤيا، حاذق السخرية، مستكنه الحجب، وضالع في الظفر بالمتعة البلورية الهاربة. “دفتر العابر” لا يمكن أن يكون عابرا في مفكّرة قارئه. دفتر ييمم بوجهه شطر الجمال واللعب واللذة، جمال الآخر الغريب، ولعب الكتابة الشعرية ولذة السفر اللانهائي. “دفتر العابر” إذ يضع في ناصية اعتباره تدوين مواسم السفر إلى الشمال، يخفي نية غائرة ويضمرها، تكشف عن نفسها في ذيل الكتاب. “دفتر العابر”: (أوديسا طائر الجنوب) رسمٌ خرائطيُّ لجسد امرأة واحدة بصيغة التعدّد، امرأة مبهمة وداغلة حدّ المحو، امرأة شعواء ملغومة بالحلم ومفخّخة بالسّراب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©