الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد الله راجع.. جراح الإبداع المتصلة

عبد الله راجع.. جراح الإبداع المتصلة
15 يناير 2014 21:46
يُعتبر الشاعر والناقد المغربي الراحل عبد الله راجع (1948-1990) من مُؤسّسي الشعر المغربي الحديث ورواده. وصاحب تجربة رائدة في الثقافة المغربية احتفت بها وزارة الثقافة المغربية عبر إصدار أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء ضخمة تضم دواوينه الشعرية: “الهجرة إلى المدن السفلى”، و “سلاما وليشربوا البحار”، و “أياد كانت تسرق القمر”، و “وردة المتاريس”، و”أصوات بلون الخطا”، وكذا أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب وعنوانها “القصيدة المغربية المعاصرة.. بنية الشهادة والاستشهاد”. كما أقامت احتفالية شارك فيها مجموعة من الشعراء والنقاد المغاربة. قدم الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف في هذه الاحتفالية مُداخلة قيمة، سبقتها كلمة تحدث فيها عن أهمية إصدار الأعمال الكاملة للشاعر عبد الله راجع، مُعتبرا أن ما أقدمت عليه وزارة الثقافة بإصدارها الأعمال الكاملة لهذا الشاعر “حدث شعري بامتياز، يأتي بعد تجاهل هذا الشاعر لأزيد من عقدين من الزمن”...هنا عرض لأهم ما جاء في ورقة صلاح بوسريف. يقول بوسريف إن عبد الله راجع كان من بين أهم شعراء السبعينيات في القرن الماضي، فهو امتاز بتجربةٍ شعرية خاصة، قياساً بتجارب بعض شُعَراء جيله، ممن كان المشرق العربي أَسَرَهُم، أو ذهبوا إلى المشرق، باعتباره مشروعاً شعرياً قابلاً للتعميم، أو هو ما يمكنه أن يُضْفِي على كتاباتهم، ما كانوا يحتاجونَه من اعتراف شِعْرِيّ. مضيفا أن ماضي الشعر العربي، هو ما أخذ راجع، أو شَغَلَه، وهذا ما بدا واضحاً منذ ديوانه الأول، “الهجرة إلى المدن السُّفْلَى”. وهو تجربة فَارِقَةً، ليس في تَمَيُّز راجع كشاعر، حافَظَ على مَسَافَتِه اللاَّزِمَة مع تجارب غيره من شُعراء جيله، بل، وفي طبيعة الرؤية الفكرية والجمالية التي كانت لحظةً حاسِمَةً في فَضْحِ ما كان يَصْدُرُ عنه هذا الشَّاعِر من مواقف، ومن انشغالاتٍ شِعْرية جمالية، كان النص الشِّعْرِيُّ فيها، هو نوع من الاحتفال بالإيقاع، في مفهومه الواسع، رغم حِرْصِ راجع على الوزن كشرط شعري ضروري، في ما كان يَكْتُبُه، وكان احتفالاً باللغة في سياقاتها الشِّعرية، التي سَتَتَوَسَّعُ لاسْتِضافَة هذا الماضى الشِّعري، دون امْتِصاصِ القديم لمِاَ هو حديث، أو مُعاصِر في تجربة الشَّاعِر اللغوية، أو في علاقة الشَّاعِر باللغة. ويشير إلى أن ديوان عبد الله راجع الأول “الهجرة إلى المدن السفلى”، لا يمكن اعتباره “كتابة مُنغلقة على سياقها الوطني المحلي لأن هذا الشاعر حرص في هذا الديوان على استحضار هذا البعد في تجربته، باعتباره إطاراً لتجربة إنسانية شاملة، وعامة، لا يمكن الفَصْلُ فيها بين جُرْح وجُرْح، فالجِراح هي نفسُها، والمعاناة، هي نفس المعاناة، سواء جاءت من ماضي مُتَصَوِّفٍ عربي قديم، مثل بِشْر الحافي، أو مِنْ حاضرِ شاعرٍ غَرْبيٍّ حديث، مثل لوركا، فثمة ما يجمع بين الشخصين، هو هذه الشُّحْنَة الرمزية التي تشي بها تجربة الرَّجُلَيْنِ، دون مُراعاةٍ لِعامِلَيْ الزمان والمكان. الرؤية المأساوية إن المتأمِّل في تجربة عبد الله راجع في دواوينه الثلاثة الصادرة في حياته، أو في دِيوَانَيْه الأخيرين، الصادرين ضمن أعماله الشِّعرية، سيضع يَدَهُ على طبيعة الرؤية المأساوية، أو التراجيدية التي كان يصدر عنها الشَّاعِر، في علاقته بالواقع، وفي ما كان يحمله من مشروع شِعْرِيّ، بَقِيَ فيه راجع مُخْلِصاً لمواقفه، ولم يتنازل عن البُعد الوطني المحلي، أو هذا النَّفَس المغربي في كتابته. سواء في لغته، التي كانت، في تركيبها تميل إلى اللسان العام، في صياغة بعض التعبيرات، أو بناء الصور التي كانت تخرج من هذا البُعد ذاته، أو تصدر في عمقها، عن بعد رمزي، هو البُعد البروميثيوسي، تحديداً، على حد تعبير بوسريف. رغم انخراط راجع، في ما سُمِّيَ بالتجربة الكاليغرافية، في ديوانه الثاني “سلاماً وليشربوا البحار”، رفْقَةَ شُعراء مغاربة آخرين، فهو في خِضَمّ هذه الأشكال الخطية الهندسية التي قد يصعب فَكُّها بِيُسْر، في ديوانه، بشكل خاص، كان، في تجربته الفكرية يصدر عن نفس الرؤية، وبَقِيَتْ شعرية النص، هي نفسها، تَسْتَدْعِي الواقع المغربي، وتستدعي اللِّسان في تركيبه العام، وتعيش على إيقاع هذا الزمن، في بُعده الإنساني الشامل، وليس بتغييبه، لصالح أفكار، لا علاقة لها بالزمن المغربي، أو بهذا السياق المأساوي التراجيدي، الذي سيتكشَّف بوضوح، حتى، في لحظات مرض الشَّاعِر، الذي اسْتَحْضر فيه “بيروت”، كما استحضر فيه “الشكدالي”، أسطورة الشاعر الشخصية، أو مرآته التي رأى فيها نفسه، بما يكفي من الوضوح والشَّفَافَية، وفي شخصية “عمر بنجلون”، التي كان راجع أكثر استحضاراً لها في كتاباته، بما فيها كتاباته الأخيرة، ما يعني، أن عمر، عند راجع، لم يكن فقط زعيماً سياسياً، اغْتِيلَ نتيجة مواقفه، بل إنه صار، عنده، معادلاً أسطورياً لبروميثيوس، أو لـ«الشهادة والاستشهاد»، بتعبير راجع نفسه. هذه الأيقونات التي ظلت تُصاحب راجع، في حياته، وحتى في ما كان تَبَقَّى له من حياة، لم تكن عابرة في رؤية الشَّاعِر، فهي كانت نواة هذه الرؤية التراجيدية التي كان راجع يصدر عنها، أو كانت هي مصدر موقفه الفكري، الاحْتِجَاجِيّ الغاضب، المُفْعَم بحُرْقَةٍ ظلَّت كامِنةً في نفسه، بما سيعبِّر عنه في رسالته الجامعية “القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد”، بالرؤية البروميثية. في هذه الرؤية، بالذات، عَثَر راجع على صداقاته الحقيقية، وسَيَكْتَشِف أن ما كان يحمله من «هَمٍّ»، كما كان يُعَبِّر، دائماً، هو هَمٌّ جماعي، مُشْتَرَك، يتقاسَمُه الشَّاعِر مع أسلافه، ممن لم يَخُن مواقِفَهُم، أو رسالتَهم، وكان مُلِحّاً أن يكونوا حاضرين في حياته، دون تنازلات، أو مساومات وتجاهُل. من عَرَفَ راجع، في حياته الخاصة، سَيُدْرِك مدى عُمْق إحساسه الإنساني، ورهافة نفسه التي كانت تَشِفُّ عن نفسها، دون تحفُّظ، أو بما يمكن اعتبارُه سذاجةً إنسانٍ، لم يكن يرغب في تغيير طباعه، أو حَمْل نفسه على تَحَمُّل تبعات الخسارات التي سَيَسْتَشْعِرُها، في ما بعد، حين أدرك أن صداقة دَمِه الشخصي، كانت هي الملاذ الذي أفْضَى به ليعيش أَلَمَ صداقات قديمة، لم تَفِ بشرطها الإنساني، وحتى الشِّعري المُفْتَرَضَيْن. بين ما هو إنساني، وما هو شِعْرِيّ، تأرجَحَتْ حياة راجع، وبين ما هو إنساني، وما هو شِعْرِيّ، تَشَكَّلت رؤيته البروميثية المأساوية، التي كان فيها الشَّاعِر، هو «عُرْوَةَ» زمانه، بما سَيُمَثِّلُه عروة، في الوجدان الثقافي العربي، من وعي جماعي، وحِسٍّ “اشتراكي”، يؤمن بالاقتسام، ومُساعَدَة الآخرين من يقرأ هذه الأعمال الشعرية دفعة واحدة ، بقدر ما ستبدو له النصوص مُتَفرِّقَةً، خصوصاً في دواوينه الثلاثة الأخيرة، بقدر ما ستبدو له تجربة الشَّاعِر واحدةً، خرجت من نفس النَّسِيج، رغم ما يبدو فيها من شَتَاتٍ، كان فيه راجع، لا يَفْتَأ يعود لنفسه، ولمِاَ كان يَعْتَمِل في روحه من جراح، قبل أن يَعْتَريه ذلك الجُرح الشخصي، الذي سيكون وجهاً آخر، من أوجه هذه الرؤية المأساوية، التي سيكون الموت، أو الرحيل المبكر، هو مشهدها الأخير، أو الصورة التي سَتَكْشِفُ عن “النَّسْر” الكامِن في جسم الشَّاعِر، يأكلُه من داخِله، أو يَنْخُرُه، مثلما تَسْتَبِيحُ النَّار الشَّجَر.صَدَرَتْ هذه الأعمال، بعد موت الشَّاعِر، بأكثر من عقدين من الزَّمَن. أجيال جديدة، انخرطت في تجربة الكتابة الشِّعرية، وحَدَثتْ، انقلابات، في كثير من المفاهيم الشِّعرية، التي كانت، في زمن راجع، بين ما كان يؤطِّر مفهوم الحداثة، والتَّحديث الشِّعْرِيَيْن. ثمة مِنْ جيل راجع مَنْ وَاصَل الكتابة، بنوع من الصيرورة، استجابة لطبيعة ما عَرَفَهُ الشِّعر، في العالم، من انزياحاتٍ، ومن خُروج عن المعايير التي كانت “قوانين” و “ثوابت”، في المعرفة الشِّعرية، كما أن المرجعيات الكلاسيكية للشِّعر التي كان يمتح منها راجع، في الشِّعر العربي القديم، وفي الشِّعر الغربي، لم تعد حاضرة بنفس القوة أو بنفس التأثير، ولا بنفس صيغ “التَّناصِّ”، بما فيها المرجعيات الصُّوفية، لُغَةً، وأعلاماً. وثمَّة من جيل راجع، مَنْ انْقَطَع عن الكتابة، ليس بمعنى الاختفاء، أو التَّوَقُّف عن النشر، بل بانحسار كتاباتهم، في نمط شعري، ظلَّ أسير المعايير القديمة، التي بقيت القصيدة هي مرجعيتُها، شكلاً، ودلالةً. أو كما يقول راجع، فقد “تخَلَّف أصحابُها عن مسايرة تطور الحساسية الشِّعرية” و “استمرار الفهم الكلاسيكي للكتابة الشِّعرية” عندهُم، كما سيكشف، هذا الفهم “عن قُصور إبداعي رهيب”. مشروع مغلق “قصيدة النثر”، التي كان راجع “رفض” أن يُدْرِجَها في دراسته، نظراً لطبيعة رؤيته المنهجية، واستراتيجية رسالته، أصبحت حاضرة، بقوة، أو هي، الأكثر انتشاراً، ليس في الشعر المغربي، فقط، بل في الشِّعر العربي الراهن. وثمة ذهاب نحو “الكتابة”، أو “حداثة الكتابة”، التي ذهبت بمفهوم الصفحة، إلى ما هو أوسع من “بلاغة المكان”، التي هي مشروع انشراح مغلق، لم يستمر، حتى عند أصحاب المشروع نفسه، باستثناء الشاعر أحمد بلبداوي، الذي بَقِيَتْ يَدُه وحدها تخوض غمار الخط، بدل المطبعة، التي كان “بيان الكتابة” أدانها، واعتبرها خارج نطاق ما ذهب إليه من مفاهيم. في هذا السياق العام، وفي ظل هذه المُتغيِّرات، يعود راجع لِمُصافَحَة أجيال من الشُّعراء الشبان، ممن كانوا قرأوا له تفاريق من شعره، ولم يقرأوا أعماله كاملةً، كما يعود ليقترح علينا، جميعاً، نصوصاً، كان كتبها، في فترات أَلَمِهِ العَسِير والحارِق، وفق ما تشي به تواريخ النصوص، ووفق ما تقوله النصوص ذاتُها، وتُعَبِّر عنه. كان الشاعر الراحل عبدالله راجع في هذين الديوانين، غير المنشورين من قبل “وردة المتاريس” و”أصوات بلون الخُطا”، يُقاوم “الغياب”، بالكتابة. أو يكتب في اليوم الواحد ما كان يكتبه في أعوام، كما يقول في “قصيدة” له. أصبح الموت، في هذين الديوانين، واقعاً، وحقيقة، وأصبح موعداً غير معلوم، لكنه كان هاجسَ راجع، ووجَعَه الذي ضاعف من إحساسه بالعزلة، خصوصاً حين كان في إحدى مصحات باريس. إن هذا الإقبال على الكتابة، بهذه الوتيرة عند الراحل عبد الله راجع، التي تبدو في نصوص الديوانين، هو ما سيجعل من بعض هذه النصوص، تَفْتَقِر للنَّفَس الشِّعري، أو لتلك الخصوصية التي مَيَّزت تجربة راجع، ومَيَّزَت بعض نصوص الديوانين، بما فيها من نَفَسٍ “ملحميّ”، ليس بالمعنى المفهومي للملحمة، أو بخواصِّها البنائية، التي اعْتَبَرَها أرسطو خارجةً من التراجيديا أو المأساة، بل بهذا الاستحضار الكثيف، والمُتقاطع للأصوات والرُّموز، و لِما تُمَثِّله من تداعيات في نَفْسِ الشَّاعِر، وفي رؤيته. ولم يكن عبدالله راجع، بحسب بوسريف، بعيدا عن الأسئلة الثقافية الكبرى، التي كانت هي ما شرعت الحداثة الشِّعرية، بشكل خاص، في إثارتها، مع مجلتي “شعر” و”مواقف”، بما مثَّلَتاه من مراجعة للماضي، ومن رغبة في الخروج من انحسار الشِّعر في الأشكال التقليدية القديمة. عبد الله راجع شاعر في الكتابة، تَرَكَنا ورحَلَ قبل الأوان. رغم كل التَّجاهُل والنسيان، ها هو ذا يعود إلينا، بنصوص لم نقرأها من قبلُ، وبنصوص أخرى قرأها، بعضُنا، بنوع من الابْتِسار، وفق ما توفَّر منها، لديه، وبدراسته المهمة، في الشِّعر المغربي، وتكمن أهميتُها في ريادتها المنهجية، بما فيها من صرامة وانفتاح، وبما توصَّلت إليه من نتائج، في فهمها لخلفيات النصوص الشعرية المعاصرة؛ الجمالية والفكرية. وهذه في ذاتها لحظة احتفال، واحْتِفاء، بشاعر بَقِيَ له مكان في وعينا الشِّعري، وفي وعينا النقدي والثقافي، وأيضاً، في ما تعنيه الصداقة من معانٍ بعيدة، لا يمكن استثمارُها في ترويج المفهوم، دون ما يحمله من قِيَم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©