الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد بنيس يترجم «كتاب النسيان» لـ برنار نويل

15 يناير 2014 21:45
بعد ترجمته لديوان “هسيس الهواء” للشاعر الفرنسي برنار نويل (1998)، يعود الشاعر المغربي محمد بنيس، ليقدم لنا الترجمة العربية لكتاب مُهم لهذا الشاعر وهو “كتاب النسيان” “le livre de l’oubli” الذي صدر في طبعته الفرنسية في 2012، وقد نشر هذا الكتاب، مؤخراً، عن دار النشر “توبقال” في الدار البيضاء بعد اتفاق خاص مع الناشر، في طبعة أنيقة ضمن سلسلة “معالم”. يتناول “كتاب النسيان” موضوعا عالجه الفلاسفة، منذ الأزمنة القديمة، مثلما عالجه علم النفس في العصر الحديث. ولكن برنار نويل يقرأ النسيان في علاقته بالكتابة. وهنا تكمن استثنائية الكتاب. إن النسيان، حسب محمد بنيس في تقديمه لهذا الأثر، بصفته كنقيض للتذكر وبالتالي للذاكرة، علامة على الأدب الحديث، في إبداعيته. وما يفعله النسيان في ممارسة الكتابة هو ما يسعى المؤلف إلى النظر إليه من زوايا مختلفة. وقد اتبع، لأجل ذلك، جمالية كتابة شذرية، لها كثافة الشعر وموسيقية المقطع. إنها “ ملاحظات” (حسب عبارة المؤلف) شرع في كتابتها سنة 1979 ولم تنشر مجموعة إلا في نهاية السنة الماضية. واعتمادها الكثافة في البناء اللغوي والتنوع في حجم الكلمات، أو الانتقال من لغة نثرية إلى مقاطع من أبيات شعرية، يشير بحد ذاته إلى ما يحققه تناول موضوع النسيان من تميز في هذا الكتاب. فهو تأليف موسيقي، تنبثق من خلاله تأملات كاتب في كل من كتابته الشخصية والكتابة الحديثة، ضمن تاريخ الكتابة والتأليف في التقليد الغربي، منذ اليونان حتى العصر الحديث. النسيان.. مسقط رأس الكاتب يقول بنيس: “لقد راعيت في الإخراج احترام إرادة الكاتب في إبراز هذه الخصائص الكتابية باعتماد شكل نابع من طبيعة الكتابة ذاتها، يأخذ بالاعتبار التصورَ العام لفضاء الصفحة وطريقة ترتيب المقاطع، كما لو كان توزيعاً لتأليف موسيقي، مضيفاً أن المؤلف برنار نويل ينظر إلى النسيان كَكتلة، أي مادة. ومع ذلك فإن الطريقة التي ينتهجها في النظر إلى النسيان، من خلال الجسد، تحوّله إلى عُضو حيّ. ونحن نحسّ، أثناء القراءة، بأنْفاسه التي تخترق جلدنا وتتسرّب إلى صمتنا. والتشريحُ، الذي يجعلنا نقف على التكوين العُضْويّ للنّسْيان، يلخّص طريقةَ الكاتب. إنهُ يَعْرض النسيان من حيث شكلُه وطبيعتُه. ومرة تلو المرة، يقرّبنا عبر صُور شعرية من طريقة اشتغاله، أو عندما يصل بينه وبين الذاكرة والكلام والصمت والمتخيل والمعنى والسلطة والزمن والمعارف وفن الاستظهار واختراع الكتابة والمطبعة والمكتبات. هذه طريقة تتجنب منهجَ تلخيص ما كتبه الآخرون عن النسيان أو تحليله بالاستناد إلى تصورات الفلاسفة وعلماء النفس. فهيَ تنقلنا إلى مناطقَ معتمة في الكتابة وفي الحياة والموت لم نتعوّد على اقتحامها، إضافة إلى أنها تتحرّر من مبدأ بداية الكتاب ونهايته. عندها يصبح منَ العبث أن نبحث عن نسق مُغْلق في كتاب لم يصبح كتاباً إلا لأنه يأتي من نسيان مناهج الآخرين وذاكرتهم. هكذا نفهم معنى أن “النّسيان هو مسقط الرأس” بالنسبة للكاتب، إذ لا ميلاد له مع خضوعه لسطوة الذاكرة وهيْمنتها. وبعكس الاعتقاد السائد، لا بد من قول إنه لا شيء يضيع مع النّسيان. فما ننساه يظل موجوداً في مكان مَا من الجسد ثم يعود إلى الظهور في الكتابة لا كما كان ولا إلى ما كان، بل “ككلام لكلّ ما تمّ فُقدانه”، يعودُ من المكان الأبْعد، المجهول. ولعلّ أسرار النسيان العديدة هي ما يجعل المجهول فيه أكبر من المعلوم، ومن ثم يفرضُ علينا التواضعَ في التعامل معه في كليته، كلما عجزْنا عن معرفة كيف نعبّر عنه في كليته. كتابة برنار نويل عن النسيان في زمننا، بهذه القوة الفكرية والمقاربة المفتوحة، تدلّنا على المُمْكن، المُفاجئ والحر، في زمن يُصرّ على تشويه النسيان. وإذا كان المؤلف يختم ملاحظاته بالالتفات إلى ما فرضته الدولة، من قبل، بسلطة مُراقبتها في تنظيم الذاكرة وتوجيهها وفق مصالحها، أو ما تقوم به اليومَ في الغرب من احتلال الفضاء الذهني بقصد “غسل الدماغ”، فإنه لا يتغافل عن دور تشويه النسيان في الحيلولة دون أيِّ تخيلٍ أو إبداعٍ للحاضر والمستقبل. شعرية النسيان للنسيان، حسب بنيس، فاعلية في وجود ثقافة حديثة، أساسها التحررُ من استبداد الذاكرة، بما فيها الماضي، وهيمنتها على إنتاج معنى غيْر مسبُوق. وكل مُطّلع على الثقافة العربية القديمة يدرك ما كان لشعرية النسيان من فعل في اختراع الشعر المحدث، وما أوْلتْه الكتابةُ الصوفية من عناية بالنسيان في بناء خطابها. وبمبدأ النسيان نفسه نشأتْ حركة شعرية عربية حديثة تستكشف المجهول ثم المجهول. وأتمنّى ــ والكلام لبنيس ــ أن تكون ترجمة هذا الكتاب إلى العربية مُفيدةً في الاطلاع على الطريقة النقدية التي يتناول بها أحدُ أهمّ كُتّاب زمننا النّسْيانَ، بما هو سمةُ الحداثة الشعرية التي نشترك فيها مع حركات ثقافية غربية، وأن تكون سنداً في إعادة قراءة حركة التحديث في العالم العربي. وفي كلّ هذا اختيارُ عدم التراجع عن تبنّي ما لا ينْتهي، في كتابة لها حريةُ المتخيل وتعدديةُ المعنى. يستهل المؤلف كتابه بمقاطع قصيرة أشبه بالشذرات تأخذنا إلى مجاهل النسيان منها: “يجعل الصمت من النسيان شريكا له، في نظرة المحتضرين، صعود نسيانهم الشخصي، وفي عيون الأموات نسياننا”. ومنها قوله: “تضع الذاكرة الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي. هكذا تعثر على توازنها، وربما كانت هذه الحالة من التوازن هي الحركة الأولى للمعنى”. يرى برنار نويل أن ما يتراكم في النسيان هو نتاج كل العمليات الذهنية التي تمت في جميع اللغات. وما نسترده منه لا يحتمل علامة الأصل. وهذا ما يعطي للصور حالة المغفل، التي تسمح لها بأن تتكيف مع أي لغة. وهو يعتبر أن الذاكرة لعبت دورا أساسيا في الحضارات المتعددة التي اعتمدت على فن الاستظهار. كان هذا الفن مصحوبا بكتابة ذهنية تتمثل في السكن داخل أمكنة تحدد أجزاء خطاب أو نص. وقد تم تصور الأمكنة وبناؤها وفق نماذج معمارية تظهر بكثافة حتى يترسخ منها الشكل والموضوع. كانوا ينظمون الفضاء الذهني على شاكلة بيت، أو قصر، أو معبد حسب حجم السعة التي كان المستعمل قادرا على تصورها أو استنبطانها. ففي مختلف الأجزاء المبنية على هذا النحو حسب نظام لا يقبل التبديل، كان الشخص ينظم مختلف أجزاء خطابه، مثلا يضع التقديم في المدخل، الاستهلاك في الغرف الموالية، مما كان يسمح على إثر ذلك للمسار الذهني للعمارة أن يعثر على العناصر المتتالية للفكرة والتعبير عنها... وقد كان على اختراع الكتابة تدمير هذا النظام الذي جعلته غير نافع ما دام بإمكانها أن تستظهر كل شيء، لكنها سمحت على الأصح بنقله إلى مستوى الإتقان منذ العصر القديم حتى نهاية العصور الوسطى. واختراع المطبعة هو الذي وضع نهاية لفنون الذاكرة. إن الذاكرة تختزن ما نراه، فيما النسيان يراكم ما لا نراه: أليس لهذا التناقض ما يعادله في الانتقال من لغة تعتمد رسم الإشارة ورمز الفكرة إلى لغة أساسها الحروف الأبجدية؟ إن اللغة هي الرؤية وقد تحولت إلى أصوات؛ والكتابة صوت تحول إلى رؤية دون أن تصبح مجددا بصرية”. وبالنسبة لبرنار نويل فإن النسيان يُمثل للذاكرة ما يمثله اللا مرئي بالنسبة للمرئي: لا عالما آخر بل العالم نفسه الذي يخفي منه ما هو هناك،أمامنا المستوى الأول يفقأ العينين لدرجة أنهما لا تريان أبعد. والثاني أننا ننسى الأشياء والصور. والنسيان، وفق برنار نويل، يتكلم دون علم منه لغة الجنة الضائعة، وهي بالتأكيد لغة الطفولة أيضا. كما يُسجل النسيان بطريقة مقلوبة ما تجهد الكتابة في أن تضعه على وجهه. النسيان مستمر، والكتابة متقطعة وممارستها، نتيجة ذلك، لا منتهية. الذاكرة فضاء يراكم فعله بداخله أمكنة تبعث على التذكير بأشياء، وأحداث، ووجوه. تخترع الكتابة أمكنة، لا من أجل التذكير، بل من أجل أن يبرز هناك ما لم يسبق له قط أن وجد في مكان آخر ولكن يوجد أبدا بطريقة أخرى. النسيان هو تلك الأمكنة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©