الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شمل.. أساطير ترتجف تحت سياط النسيان

شمل.. أساطير ترتجف تحت سياط النسيان
15 يناير 2014 21:45
كشجرة عطشى، كمالك الحزين يطير جهة السر المكين، كأحفورة تسمرت خلف الأسئلة مرتدية جلباب المراحل المتوارية تحت الطين وزجاجات مشاريب عتيقة، مثل وهج انطفأ تحت رماد الخذلان، مثل عاد وثمود وارم ذات العماد، لم يبق سوى الأوتاد ورائحة عظام الميتين ومساجد من صلوا وابتهلوا، تبدو كأنها الأساطير المرتجفة تحت سياط النسيان.. شمل التي أغرقت النخل بالصمت، حتى تعجرفت ونشفت، وانحرفت، راكعة باتجاه الأرض، والطير الذي كان يغني عن ساق بأشواق المدنفين، بات يصفق خالي الوفاض، فلا عين ترى ولا أذن تسمع.. شمل، الواقعة في الزاوية القصية تحسو من ظلام الليل، ما فاض من ملوحة الضباب، وتخوض في حشد العزلة الموحشة، أسئلة الفقدان، فالأحبة رموا أقلام النبش عن الحياة، وراحوا يغردون في مراحل ما بعد الفراغ، ويرتلون آمالهم، على صحائف من قرطاس بال، ومهترئ، ويحدقون في تضاريس ما عادت تنجب نخلاً ولا سهلاً ولا طللاً، ولا جللاً ولا جلجلاً.. يحدقون في محيط البلبلة، معتنقين فكرة نحتضن كل شيء ولا نملك غير الفراغ، والفراغ الوسيع يلتهم الابتسامة كما تشبع جشعاً حين قضم من جسد النخل نتفة.. نتفة، حتى بدت شمل عارية كأنها أشواق امرأة مكلومة، كأنها زجاجة مثلومة، كأنها اللاشيء يسوط أشد العذاب. شمل، مثل أنشودة رائعة، تلهجها شفة قبيحة، وتمارس في اللاوعي أحلام اليقظة وبلا جدوى، تنام شمل على خاصرة الأمل لعل وعسى تستيقظ النخلة وتنفض عن ملابسها الداخلية، غبار ما تلبد من سقوم، وتكرع مرة أخرى، من عِذاب ما تدلو به الدلاء المؤمنة بأن في الماء بذرة الصلب والترائب، وما جاش في القلب من رعشة الذروة القصوى، ومادت عنه الأجساد المحتدمة. شمل.. الواقع والمتخيل شمل، فوق الأرض تحت السماء وما بين الرمش والرمش، تفرض صورا ومشاهد، شمل مسلسل تاريخي لم تفصح عنه شفاة الذين ناموا قبل صلاة الفجر وكانت الصحوة متأخرة وبعد أن شاخ النهار، وسلم خيوطه لسواد الليل كما يحيك هذا المعتم قماشه، الاسترخاء حتى إشعار آخر، حتى آخر الدهر، وحتى تفكر امرأة ما أنها نسيت (وقايتها القديمة) عند حوض النخل، وقد يكون الآن قد محته الأرض، فاستمال مع الرمل، بقايا أثر، واستمال الأثر، حفرة في الذاكرة المثقوبة، واستمالت الحفرة، بركاناً للأسئلة المتداعية، كجذوع النخل، كبعض الأقطار. شمل، كناقة عرجاء، خبت بعد تيه، كفكرة ناخت عند كثيب كئيب وفسحة الطريق، تمط بوزا وترفع شعار الطريق مغلق، والوقت أزف ولم يعد بالإمكان أن يقف «البيدار» في عراء النخل، ويغني «القيظ ما طول زمانه - شهرين والغالي مشوبه». حيث «الحابول» شاخت خيوطه والكرب تهرأ، وانعطفت المرأة التي كانت تبحث عن الرطب الجني باتجاه ما تساقط من وهم، في أسواق المراحل المبتورة. شمل.. مثل ذاك العريش المتداعي، كمشاعر من رحلوا، مثل تلك الأوتاد شهود زور، ينطقون الحقيقة مواربة ومن خلف جدار الصمت من تحت شرشف الوجل، من فوق دكة الانتظار المرير، مثل أشياء مهملة في مطبخ قديم، مثل عاشقة تلمظت شفتاها، حتى أدمت اللحم البريء، وبلا جدوى، ما عادت تنتظر غير الأشياء الذاهبة إلى العدم، وتبقى أشياؤها تخترع الحلم، بخيال منتفخ كبالون نشط، تبقى روحها مثل قارب مساميره من أحلام كائن عدمي، يسبح في الفقدان، كأنه على ظهر موجة عارمة، يغيب في الخسارات كأنه يغوص في قعر بئر قديم، يطرق أبواب النهار في حشمة المترددين، ثم ينفض ثيابه من سواد الليل البهيم، مكتنزاً بالفجيعة. شمل.. في حضن الجبل، سهل في كنفه أمنيات ترعرعت وباتت كأشجار الغاف، تداوت في الجفاف، حتى عجفت وترامت في الرقعة الواسعة، كأنها جنود في فرار من هزيمة منكرة، كأنها في حفلة تنكرية، مرتدية أقنعة الإخفاء، بسذاجة الطبيعة المهملة.. شمل، تذهب في المعنى كأنها جملة وشائجة، في رواية لم تكتمل فصولها، كأنها عبارة حروفها بلا نقاط، والسطر معقوف على تفاحة الحنين، شمل، حين تمر القافلة على شريطها المخبوء خلف رائحة العوادم، لا ترى سوى رؤوساً جافة، تبحلق في السماء كأنها أعناق ديكة خائفة، لا ترى سوى الجدران، تشافت على مضض، تاركة أسرة العناية المركزة، إلى غرف الاسترخاء الموشوم بالقلق.. شمل، في عمق الورطة تبحث عن ملابسها الداخلية خشية إملاق، أو أشواق تحرق خطب التوق. شمل.. الأشياء إثر الذوبان تتلاشى، ولكنك ضامرة إلى حد الانتفاخ في الذاكرة، عافرة إلى حد الانتباه، أصحو عند حافة النهار، على قارعة المساء، أضع بقجة أحلامي في كتفي وأمضي، هناك في المخبأ تبدو الأشياء متألقة بالنسيان، يبدو النسيان كائناً مخضباً بالغبار، يبدو الغبار ملاءة عتيقة تدثر جسداً مرتجفاً، الأشياء لا ترتجف خوفاً فحسب، الأشياء ينفضها سؤال الروح عندما تحسو من فناجين القهوة القلقة، شمل، جاثية على ركبتي سؤال قديم، لماذا النخل يموت هنا، والناس لا زالوا يتنفسون، والحشر مجرد خيال عبقري، أسس مملكته في الذاكرة، وذهب، كما تذهب جل الأساطير ولا يبقى غير الحفرة الشفافة في العقل، لا يبقى غير أفكار مسبقة، تغربل الرؤية مثل الضباب، مثل وطيس الحروب الفاشلة، مثل منجزات أشبه بالخرافة، تسطو على الرأس، كأنها المخالب التائهة.. شمل، ليست جزيرة نائية، لكنها تلة خضيبة على ظهر الذاكرة، ومشاهد لم تعد شاهداً على دورة دموية في الجسد ولا حتى شهيق أو زفير، شمل ليست نورساً إن طار حل على رأس سمكة هاربة، شمل صناعة زمنية، مثل فلسفة إغريقية، مثل أسئلة بروتاغوراس، السوقطائية النبيلة، مثل شك ديكارت في الفكرة والصورة، مثل أحلام روسو في الحرية، عندما تصبح امرأة مهرها ثوباً ناعم الملمس، وسلام الروح ويقظة الجسد، شمل مثل فكرة راودت نيتشه العظيم، في براءة الصيرورة، ثم الأسلوب العظيم، كما الفكرة الأجمل في عقل بوفون، وسواه من أسسوا لتطور الأجناس. شمل، القُبلة المبجلة، على شفة تضاريس أبت إلا أن تكون الأكثر شفافة والأعظم نهوضاً، الأشمل في المعاني.. شمل، في المدار طريقة صوفية، أعلنت عن بوحها، حين عمّ الصمت الأرجاء، وشاءت مقدرة الغائبين أن تحشد جل أدوات الضم والقضم والهضم، حتى فاحت رائحة الفحول وهي تمارس ورطة الإنجاب اللذيذة، مع نخلة فتحت سيقان السعف مبتهلة، متداعية، مرتعشة بالفرح، لأجل إخصاب يندي جسد الأرض، بالأمل، ويطلق صرخة الذروة، بدهشة لا تطيق زفراتها إلا السماوات العلا.. شمل، الفاصلة والمفصل، الخاصرة والخنصر، الصائغة والاصبع، شمل، التصريح الأخير لجذع بات يحصد ما كتبه الشيخ البوذي في النيرفانا، وعن أشياء أخر، حين تبدو الحياة مستهل رحيل أعم وأشمل، وحين تبدو الصحوة بداية الحياة، شمل من ذهب الأنفاس النفيسة، تتنفس عبر رئة اصطناعية، تحدث في العيون لعل وعسى، تفيد الحقن قطع دابر الداء، وتنتهي الأسئلة وتغيب علامات الاستفهام.. شمل، مثل سيدة عجوز عكازها الأمل، وبصرها بصيرة الذين يعشقون رائحة الأثواب القديمة، والذين تنزرع أحلامهم عند نقطة الوعي، ويحدبون من بئر لم تنشف بعد.. شمل مثل مخطوطة قديمة، نسيها صاحبها، في درج ضاع مفتاحه، فبدت واللاشيء سيان، ولكن.. ولكن.. الأشياء تنبث من اللاشيء كونه في البدء حالة سائلة منها ضيع النظام الكوني.. شمل، في اللاشيء شيء يتشكل في داخله، يتكون كجنين في أحشاء التضاريس. نخلة القلب شمل، نخلة القلب، ليمونة تعصر حمضها في الروح، وتمضي والهوى، تمضي في عروق النخلة المسقوفة بالشوق، وحنين الناس، لقيظ يظلل أعشابه، بخيوط الحرير، وينسج عرشانه عند حافة الزمن، هناك في السفح المجلل بالنسيم، المدلل بهفهفة الأغصان الرضية، المعلل بهديل الحمام، المبلل بأناشيد «البيدار» وهمهمة النساء الغارفات من رائحة الرطب، والنعيق الذي بات كسيمفونية مكسورة النبرات. شمل، موجة غارقة في جحيم العصف، مهجة طارقة لأجل نعيم وندف، شمل، وحدها الآن في خضم ضجيج الصمت وحدها تسف رمل السفوح، وتلعق غبار المرحلة، وحدها تنظر إلى الأفق، وبالمختصر لا جدوى من النظر حين لا تبدو العيون مكحلة بالجمال، حين لا يبدو الجمال جملة مفيدة، وحين لا تبدو الجملة سوى ركاكة يبعثرها رمل الذاكرة. شمل.. تبدو كثكلى تبحث عن رائحة ثوب، كان هنا في هذه الغرفة، في الزاوية القصية من الذاكرة، في الثقب الضيق من إبرة الأحلام، شمل.. المساحة الضائعة ما بين الضجيج والعجيج، ما بين الزلزلة والقلقلة، ما بين رموش لم تغتسل بعد، من سبات اللحظة، ما بين خاصرة وضلع أعوج، ما بين مضغة مضعضعة، وروح تهفو لرائحة لم تزل بعد عالقة في قماشة الوجود.. شمل، السماء التي لا تغيب عنها الشمس، والنهار سراج يطل من نافذة بيت قديم، لم يدل يقارع في صمود بطولي من أجل الحياة.. شمل، أغنية على لسان الطير، وقصيدة تلحن أبياتها عذوق لم تزل حمرا قانية غنية بالعذوبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©