السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشَّعر يضيء «بضحكة واحدة»

الشَّعر يضيء «بضحكة واحدة»
15 يناير 2014 21:43
ما الذي يدفع الناقد للولوج إلى كتابة النصوص الإبداعية الأخرى؟. من المعروف أن الناقد يمتلك أسرار عملية الإنشاء الابداعي. ومن الأمور المسلم بها أن النقد هو الذي يقوم بملاحقة النص ومن هذا المنطلق تتبلور العملية الإبداعية للنقد. وهذا لا يعني قطعا حرمان الناقد من الزراعة في أرض الفنون الإبداعية الأخرى، لكن الصفة التي يحملها المبدع والمقترنة بما ينتج أمر في غاية الأهمية، هنالك الكثير من النقاد مارسوا كتابة الرواية والقصة والشعر، البعض منهم ارتضى أن تكون نصوصه في حدود المحاولة والبعض الآخر قدم نصوصاً فيها بصمات واضحة لأدباء تناولوهم في دراساتهم لكنها لا تخلو من جهد إبداعي أسهم بشكل متواضع في إضافة شيء إلى حقل الإبداع الواسع. وقد ولج بعض الأدباء مملكة النقد وأثار بعضهم ضجة في طروحاته النقدية والبعض منهم هجر حقل إبداعه ووجد في النقد ضالته المنشودة!!. إن التعبير عن إحساسات الروح لا يتم إلا عن طريق نص ينتج في حدود معالمه الإبداعية المستقلة، لذا فأن الناقد قد يلجأ في بعض الأحيان إلى خلق هذا النص ليلبي حاجات ضرورية ملحة، وقد يقع تحت تأثير سطوة النصوص التي يتعامل معها أثناء اشتغاله في عملية النقد. الناقد و الشاعر السعودي محمد الحرز عرف باشتغالاته النقدية على قراءة المشهد الثقافي السعودي، ورصد التحولات التي يمرّ بها، كما يعرف بأنه واحد من شعراء التجربة الحداثية التي أثراها من خلال أربع مجموعات شعرية قدمها، وهي: «رجل يشبهني»، دار الكنوز الأدبية، 1999. و«أخف من الريش أعمق من الألم»، دار الكنوز الأدبية، 2003. و«أسمال لا تتذكر دم الفريسة»، الصادرة ضمن إصدارات «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009»، وأخيرا «سياج أقصر من الرغبات»، عن دار طوى 2013 - وصدر له أيضاً في النقد والدراسات الفكرية: «شعرية الكتابة والجسد»، عن مؤسسة الانتشار العربي، 2005، و«القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة»، عن نادي أدبي الجوف. و«يصرون على البحر» انطولوجيا الشعر السعودي، من إصدارات وزارة الثقافة الجزائرية، بالاشتراك مع الناقد عبد الله السفر، و«الحجر والظلال» عن دار طوى 2013، و«ضد الطمأنينة» عن دار مدارك 2013 ، وفي هذا الخصوص يخبرنا الشاعر و الناقد ( محمد الحرز ) فيقول : «النقد محفز كبير لأن أتطرق إلى جوانب الحياة بصورة كبيرة، ولكن بالنسبة لي النظرة الثاقبة للشعر لا بد أن تمر عبر رأي نقدي لا يرتكز على اللغة الفلسفية وإنما باللغة المحملة بالمجازات المكثفة، ربما هذه حالة استخدمها لأتوارى خلف هذه المجازات وهذه الصور الشعرية المتلاحقة. بعض الأحيان أرى أن هذا التواري يؤمن لي مسافة كبيرة حتى أتكلم بكل أريحية، ومرة أخرى أجد أن هذه الصور الشعرية المكثفة هي تحمّل النص فوق طاقته، ولذا أحيانا أتردد كثيراً عندما أكتب الشعر بصورة أكثر تخلصا من هذه الكثافة المجازية». (أحمد زين، جريدة الحياة، 04 - 05 – 2011). حصّادو الوهم يذكر صاحب «شعرية الكتابة والجسد» أن النقاد يحصدون الوهم، عندما ينظرون إلى الشعر والشاعر من موقع التصنيف التاريخي للشعر والشعراء، أو التصنيف الشكلي للقصيدة، مثلما أن التركيز على معرفة السمات الجمالية العامة، التي تؤسس لشعرية جيل معين من الشعراء، تهدد خصوصية كل تجربة شعرية تخص واحداً من هؤلاء، إذ تتحول إلى ضحية لهذا التركيز، وعند قراءتي لديوانه الأخير «سياج أقصر من الرغبات» أحسست أني أمام شاعر ترك مبضعه جانباً و تحول إلى شاعر عاشق و شفاف ورقيق و يتحاشى المعارك النقدية.!!! وفي أحد اللقاءات يكشف تداخل النقد و الشعر عنده حين يقول : «لا يوجد ثمة تناقض، فالنقد لا يلغي الشعر في ذات الشاعر، ولا الشعر يلغي النقد في ذات الناقد، من جهتي لم أشعر يوما ما بالفصل التام بين ما أكتبه شعراً، أو ما أكتبه نقداً، بل أرى أنهما يتقاطعان عندي من العمق، وكل جانب منه يرفد الآخر، ويثريه في الرؤية والأسلوب والتقنية». في «سياج أقصر من الرغبات» نجد أنفسنا أمام نصوص ذات مضامين راقية عبر عنها بأسلوب أرقى ولغة شعرية جميلة، قصائد تبوح بسر المشاعر والنوازع الإنسانية السامية، مستوحية كل ذلك من المعاش ومن حياة الشاعر ذاتها. قصائد لا توارب ولا تخفي انحيازها للعاشق والمعشوق. إنها حرائق أصابتنا في الصميم بنارها. لكنها لا تنتج رماداً يوزع في الهواء لتذروه الرياح فيختفي، بل ينتج نوراً يشع في فضاء الروح، وينير الدروب المعتمة، ويحرك البرك الراكدة، مخاطبا الإحساس والعقول، إنها نصوص تقول كلمتها بصوت دافئ، حزين، غاضب وهامس في ذات الوقت. تقولها بكل بساطة وجمال، لكننا نكتشف في الختام أننا ما زلنا نحتفظ في جانب من دواخلنا بشيء ما.. شيء أثير لا يريد أن ينمحي !! في النص الأول «القميص الأزرق» استطاع الشاعران يرسم صورة شعرية أنيقة للحنين الذي أراد به الشاعر أن لا يغادره و أبقاة متيبساً على ياقة «القميص الأزرق». يقول: قلتِ لي: لا تلبسه الآن..!! دعه لسهرة الليلة المقبلة القميص ذاته ذو اللون الأزرق لم أدفع به إلى المصبغة كي أزيل عنه الذكريات المعطوبة ، أو الحنين...المتيبس على ياقته. في النص الثاني «بضحكة واحدة» تقترب الصورة الشعرية من الصورة (القبانية) وفيها يمتطي الشاعر جناح الضحكة في رحلة يلوذ بها الشاعر كي يصل إلى العشق المنشود. يقف أمام ملاكه الصغير ويترجى أن تخفي نظراتها في الدرج!! ويمني النفس بعطر يديها الذي تحول من التراب الذي لامس أصابعها ومس حرير يديها لأنه «بضحكة واحدة» من الحبيب (جميع الأشياء، سوف تعيد ترتيب نفسها). يا ملاكي الصغير أرم أغصانك في البحر خبئي نظراتك في الدرج ضعي لمسات على التراب ثم بعثريها بالهواء ..! الذي يمس حرير يديك فما أروع أن نعشق الكلمة في شعره، ما أروع أن نعشق البوح، ما أروع أن نعشق الخروج معه قليلًا إلى الهامش خارج الزمن للاغتسال ما أروع أن نبحث عن الذات والآخر، ما أروع أن نلامس معه ألوان وسحر جرأته ما أروع أن نستسلم معه إلى طوفان العشق والجسد الموشوم والمخدوش بالقبلات والألم و لوعة الوجد، وما أشدْ أن نبكي معه الوجع وما أروع أن نشاركه في (قبلة في الكاس) وهو يشدو: لكن القُبلات، التي لم تلامس جسدينا، ليلة أمس ، خرجت من صمتها حين سقطت فجأة قبلة في الكأس لم ندر أهي تلك التي خبأناها تحت السرير ومن الصور الشعرية الأخاذة و الملتقطة من عدسة كاميرا للشاعر «محمد الحرز» في نصه الشفاف «وصايا المسيح الأخيرة» الذي تجد فيه تقديساً للمرأة و ووصايا عاشق مجرب وجمع بين محبة المسيح ووصايا العشق المتسلل إلى خلايا الدم . أما في، نصوص «حياتك تركض» و كذالك نص «الألم» تتغير نبرة الشاعر و نلمس وجعه و هو محاصر بقطعان الألم، و يوصف ذلك حين يقول: الجسد الواقف أمامه .. ليس قشاً انه عشبة الآلهة تلك التي .. كلما أصبحت عينها باتساع الغيم داهمتها .. قطعان الألم فرادة أسلوبية لقد استطاع الشاعر «محمد الحرز» أن يجعل من القصيدة لوحة تمسح هموم أرواحنا وينثر علينا ندى الكلمات مثل الورد ويلون القلب بسحر الألوان، وتمكن أيضاً أن يرجع للكلمة عنفوانها، وأن يهدم كل الجدران ونعبر معه سياج أقصر من الرغبات ليبني لنا وطناً يتسع لمحبتنا جميعا. ما يميز الشاعر «محمد الحرز» من خلال أعماله الابداعية الفريدة و اللافتة للانتباه والتي تنم عن عمق فكري ووعي جمالي هو التفرد بأسلوبه الخاص، و قدرته على التعبير و ابتكار المعاني، كما قدرته في تشكيل الصور و معالم الحياة عبر اللغة و الصورة وان يخط أسلوبه الخاص و في نفس الوقت الذي ينحت في الصخر كي يجعل لصوته الشعري فرادة خاصة وابتكار للمعاني، و في نصه (الحقيقة) أنشد يقول: من يجروء.. على قول الحقيقة؟ جذور الأشجار لا تمضي أبعد , من عروق التراب رغم ذالك تقول ألشجرة: .. (أدم) قطف التفاحة وفي «الحيرة و العبث» أدخلنا الشاعر في لعبته، وجعلنا الفضول نتطلع لمعرفة (أين تذهب النظرات... عندما تنتهي من مهمتها) وفيها يقول: العين دائما مشغولة بنفسها مثل قط يلاحق ذيله تٌرى أين تذهب اللمسات حين يخفت بريقها..؟؟ ولكن في نص «العزلة و الطعنات» تجد الشاعر مثقلاً بالحزن وبالخيبات التي شكلتها الطعنات في الخاصرة، وفيها ينتقل إلى طراز جديد في صياغة الكلمة المغناة والمرافقة لجمل لحنية بديعة و هذا التحول جعلها اقرب إلى الأغنية: نصبنا الكمائن أقمنا السواتر وسط الطريق عند المداخل بين الأشجار وفوق اسطح المنازل بالورد طمرناها والحنين لأجل ..أن لا تهرب العزلة ... عن ساحتنا !! القصيدة عالم مفتوح على الممكن والمحتمل والمجهول أيضاً، حيث ترسم معالمها وملامحها وفق ما ترتضيه من انزياحات خاصة، لا تتوافق بالضرورة وانزياحات ذات الشاعر فإن الانقياد والخضوع إليها يصبح أمراً وارداً مما يجعل الشاعر مسكوناً بها وبهمها، مكتئبا من خلالها ومردداً سؤاله القلق (أين؟؟): أين تذهب الأفكار حين يطردها الرأس من تفكيره؟؟ أين تذهب الخطوات حين تجف أثارها على الأرض؟ أين تذهب الظلال أذا عمْت الظُلمة المكان؟ عوالم الذاكرة القصيدة عند الشاعر محمد الحرز مساحة للتعبير الحر عن الذات والأهواء وفسحة للتأمل في الكون والإنسان عبر المتابعة والنقد والمحاورة؛ وديوانه «سياج أقصر من الرغبات» يأخذنا إلى عوالمه الخاصة والمشتركة، من خلال استحضار الذاكرة واستدعاء جملة من المرجعيات المعرفية والفكرية المختلفة، كالفلسفة والتشكيل والموسيقى والغناء وغيرها. ينتقل بنا من لغة العين إلى لغة الجسد. تلك اللغة التي تكشف عن تجربة وعي إنساني وجمالي يراهنان على تجديد الرؤى والأساليب باستمرار. فمع كل قصيدة جديدة يسافر بنا الشاعر من موضوع إلى موضوع، من عالم المرئي المباشر إلى عالم التصوير والتشكيل، من عالم الواقعي إلى عوالم المتخيل. ومن ثمة، تكتسي الصور الشعرية المبثوثة في الديوان حركة خاصة، من خلال ما توافر من استعارة ومجاز وتشبيه وغيره تعميقاً للدلالة وتوسيعاً لدائرة القراءة والتأويل. يقول الشاعر في نصه (هواء ذكرياتك): لا تدع الحبل ... يفلت من يديك المياه عميقة ... في البئر والدلو المربوط.... في أخره لم يزعجه .. هواء ذكرياتك حينما .. أرتطم به أثناء الصعود... وفي النصوص الأخيرة، (عيون غرقى) و (الشيشة) و (الالتفات) و (إيقاعات يومية)، النص الأخير في المجموعة، ندلف إلى مناخات مختلفة يخفّف الشاعر فيها من الحمولة البلاغية والنشيدية للغة، فنقرأ مقاطع ينخفض فيها هدير المفردات لمصلحة قصائد قصيرة وأقل جلبة، إلا أن اللغة تظل متماسكة ومتينة، كما هي الحال في قصائد الحب. وفي النهاية، يُفــاجئنا الحرز بقصائد تُدير ظهرها للانطباع الذي رسّخته النصوص الأولى في أذهاننا، فنقرأ قصائد تحتفي بشذرات من سيرة شخصية!!. لقد تعددت موضوعات الديوان، بحسب انفعالات الشاعر بين الذاتي والموضوعي، حزنا وفرحا. كما تنوعت طرق التعبير تبعا لمقصديته، ومنها ذلك المنحى السردي الذي طبع بعض النصوص حيث عناصر السرد حاضرة بقوة، تعكسها صور الحكي وتوالي الجمل وتعاقب الأحداث والمشاهد، دون إغفال دور الشخصيات والمكان والزمان في تشكيل وتشكل النص. وهو ما يعكس ثقافة الشاعر ومرجعياته المختلفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©