الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الاختلاط المثمر

الاختلاط المثمر
3 مايو 2012
عوامل عديدة أسهمت وبشكل فعال في خلق ظاهرة الخلفاء العباسيين ودولتهم في بغداد. فالمدينة الفتية، التي تأسست لتوها، كانت بمثابة الأرض الموعودة التي جمعت خيرة النخب الاسلامية المثقفة من أصقاع مختلفة، ووفرت لهم المناخ الملائم للعمل في اختصاصاتهم المختلفة. فالتحول الاستراتيجي الكبير، الذي حصل بعد سقوط الدولة الأموية التي كان يغلب عليها طابع الولاء القبلي، وتأسيس الدولة العباسية صاحبة التوجه الاستراتيجي الجديد المختلف تماماً، كان بمثابة وعد وحافز مشجع للأقوام غير المسلمة آنذاك على اعتناق الدين الجديد. دور العرب يقول الدكتور عماد نبيل محقق ومقدّم كتاب “أبو نصر الفارابي/ الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية” ان العرب لعبوا دوراً أكثر من مهم في خلق تلك الظاهرة وإرساء جذورها عميقاً، كما لعب الحس التاريخي للثقافة الفارسية أيضاً، دوره في تلك الظاهرة؛ بالإضافة الى ذلك، أسهم التنوع اللغوي السرياني المسيحي، والتراث الهلنستي الصابئي، والمعرفة الهندية القديمة في تشكيل ملامح تلك الظاهرة الثقافية المذهلة. لكن الفرس، ولأسباب متعددة كانوا قد نالوا استحسان الخلفاء وعطفهم؛ ونتيجة لذلك لعبوا دوراً مهما في إرساء دعائم النظام الجديد، لما يمتلكونه من خبرة واسعة يقدمونها في إدارة شؤون الدولة السياسية والمالية؛ وبناء على ذلك فقد شغلوا العديد من المناصب الحساسة والمهمة في الدولة العباسية. لكن تلك الظاهرة أفرزت في الوقت ذاته أمراً خطيراً نخر جسد الأمة الإسلامية فيما بعد، وهو ظاهرة التنافس والحسد والغيرة بين الأعراق المسلمة المختلفة فيما بينها. هذه الظاهرة تحديداً هي التي قادت الى ظهور الحركة الشعوبية، التي كانت تؤكد تفوق وأحقية الأقوام غير العربية على العرب، الأمر الذي قاد في مناسبات عديدة إلى عنف واقتتال دموي عنيف. ولكن، وعلى الرغم من تلك الظواهر السلبية، فقد برهن هذا الاختلاط وبشكل بارز على أنه مثمر وفعّال. فكل فروع الفن والأدب قد ازدهرت وبشكل لا نظير له من قبل في العالم الإسلامي. بحيث يمكن القول بأن حضارة جديدة بدأت لتوها بالتشكل والانبثاق، وكل تلك الأقوام وبمختلف أعراقها ساهمت بلا استثناء مساهمة حيوية في نثر بذورها. وبحسب الكتاب، فإن الخلفاء أنفسهم مارسوا دورهم في تنشيط تلك الظاهرة الثقافية بالجهد والمال. فالمنصور 775م كان يتمتع بالإضافة الى نظرته التحررية بحب عميق للمعرفة. وهارون الرشيد، كان قد أسس مكتبة كبيرة عرفت باسم دار الحكمة تحت اشراف أناس كفوئين وجادين. والرفاه المادي هو الآخر، جعل العديد من الناس يهتمون بالثقافة والمعرفة، والسعي الى الاطلاع عليها والتزود منها. ويعرض الكتاب أيضاً كيف كان التنافس في الدراسات الواسعة والكثيفة للغة العربية والنحو قد بلغ ذروته بين مدرستي بغداد والكوفة آنذاك. وكل الشعر العربي، الذي كان يتم تداوله شفاهاً ما قبل الإسلام قد تم تدوينه؛ بالإضافة إلى ذلك تم إرساء مبادئ قواعد النحو وتمت دراستها بشكل مستفيض؛ وحتى الشعر أخذ يتطور وينحو منحى مختلفاً عن ذي قبل. والمكتبات العامة والخاصة بدأت تتوسع، وأسعار باهظة بدأت تدفع لشراء المخطوطات العلمية والفلسفية. مدارس وأساليب لقد عرض في هذا الكتاب عاملين كبيرين الأول منه في الحقل الفكري بظهور مدرسة عقلانية لاهوتية أطلق عليها لاحقاً اسم المعتزلة، حيث لعبت أفكار أئمتها دوراً مؤثراً في تشكيل التوجه الفكري لبعض الفلاسفة المسلمين فيما بعد. أما العامل الثاني ففي حقل الأدب إذ عمل التطور التدريجي للنثر العام، كأسلوب للكتابة، على صياغة مصطلحات فنية جديدة تختلف تماماً عن نمط الكتابة والمصطلحات المتبعة في النصوص الدينية أو الصوفية أو حتى في الكتابات اللاهوتية، وعلى الأخص مدرسة المعتزلة. هذا الأسلوب الجديد في النثر أصبح بمثابة النمط الذي اتبعه الفلاسفة المسلمون في التعبير عن أفكارهم والمصدر الرئيسي لصياغة مفاهيمهم الفلسفية آنذاك. ولقد اشار أيضاً كيف ظهر اتجاه النثر الجديد في الكتابة لأول مرة في أواخر العصر الأموي في العراق وسوريا؛ وتم إرساء دعائمه على الأرجح بواسطة المسلمين من الأصول غير العربية وعلى الأخص الفارسية. وللوهلة الأولى تم استخدام هذا الأسلوب الجديد في الكتابة لغرض التراسل في الشؤون الإدارية داخل الامبراطورية الإسلامية الفتية وفي تنظيم وظائفها العامة. أما الرائد الأول والشارح الرئيسي له فهو عبد الحميد الكاتب، الذي اعتلى أعلى المناصب في الإدارة في عهد الدولة الأموية. مناهج وإدارة لقد أخذ المسلمون الفاتحون عن هذه الامبراطورية مناهج النظام الملوكي، وإدارة الحكومة، وتنظيم الطبقات الخاصة المختارة والطبقات العامة، والنظام السياسي الملائم في إدارة شؤون المحكومين. وبناء على ذلك، قام بعض المترجمين الذين يجيدون العربية والفارسية بترجمة الكتب الفارسية التي تعنى بشؤون إدارة الدولة ووظائفها، مؤكدين على إبراز وظائف الملك ووصف واجباته تجاه شعبه والأساليب المتبعة في البلاط. ويشير مدقق هذا الكتب د. عماد نبيل ايضاً إلى أنه مع تمازج أسلوب كتابة الرسائل الامبراطورية مع قواعد وأنظمة آداب البلاط تمت ولادة أسلوب النثر الجديد، الذي عرف فيما بعد بالأدب. وكان من أشهر كتاب هذا المجال عبدالله بن المقفع الذي قتل وهو في ريعان الشباب؛ حيث يعتبر واحداً من مؤسسي النثر العربي العام، بالإضافة إلى أنه ربما يكون أول من عمل على التعريف بالمنطق الأرسطي في العالم الإسلامي. يقول ان هذا الكاتب، بدأ نجمه بالصعود منذ أن بدأت الأوساط الثقافية بتكريس انتباهها نحوه واعترافها بقيمة الخدمة التي يقدمها فيما يخص تطوير اللغة العربية. فمن المؤكد أن الكثير من المصطلحات الفلسفية المستخدمة آنذاك، والتي لا تستمد أصولها وجذورها من القرآن الكريم، كان قد تم استمدادها أو اشتقاقها، أولاً، بواسطة المترجمين والفلاسفة على حد سواء وثانياً، من كتابات ابن المقفع التي عرفت بقدرتها على التعبير وصياغة المصطلحات. كما شهد الاهتمام باللغة العربية في العالم الاسلإمي اتساعاً منقطع النظير، حتى إنه في النصف الثاني من القرن الثاني كان يوجد، ونتيجة لذلك، مدرستان متنافستان في العراق، تعنيان بالأدب والنثر العربي، وتختلف الواحدة منهما عن الأخرى، وتستمدان أصولهما من مصادر مختلفة وتعيشان بروح مختلفة، وتتطلعان الى غايات مختلفة، وكان لكل واحدة منهما موقف من الأخرى يمتاز بالسلبية واللاتعاون. لكن، مع ذلك وخلال فترة حكم الخليفة العباسي المأمون المتوفي 833م، التي ربما تعتبر من وجهة النظر السياسية بمثابة البداية الحقيقية للانحدار العام للدولة العباسية، بدأت عملية التعليم والمعرفة بالازدهار. فاهتمامه الخاص بالثقافات الأجنبية والفلسفة على وجه الخصوص، التي تم الاحتفاء بها من خلال ذكر قصة ظهور الفيلسوف اليوناني أرسطو للمأمون في الحلم وكلمات التشجيع التي أغدقها عليه في مسعاه لتطوير المعرفة والفلسفة ونشرهما. هذا الحلم حثّ المأمون بالفعل على أن يرسل مجموعة من الدارسين والمهتمين بالمعرفة والفلسفة إلى آسيا الصغرى وقبرص لجلب الكتب اليونانية المهمة بهذا الشأن. فقد كتب إلى أمبراطور بيزنطة سائلاً إياه تزويد مبعوثيه بمجموعة من الكتب اليونانية ذات القيمة العلمية الكبيرة الموجودة في بلده، وبعد وهلة من التردد وافق الامبراطور على طلب المأمون. بالإضافة إلى ذلك أوعز المأمون، وبتوصية خاصة منه، بالاهتمام بمدرسة جنديسابور الطبية والفلسفية في جنوب فارس وإحياء نشاطها مرة أخرى؛ كما أنه كان يكرم الشعراء، والدارسين في مجالات العلوم والفلسفة والمترجمين ويجزل لهم العطاء. المناخ الفكري وعن المناخ الفكري العام، جاء في الكتاب أنه في ذلك الوقت، كان قد بدأ يتشكل أيضاً، من خلال التجمعات الفلسفية والأدبية في البيوت الغنية الراعية للثقافة وفي بيوت النخب المثقفة، التي كانت فعلاً مكاناً مناسباً للنقاشات الحامية في مختلف المجالات الفكرية. ولحسن الحظ فقد حفظ لنا التاريخ الكثير من تلك النقاشات من خلال الكتابات الأدبية التي سجلت تلك النقاشات والتي لا تقدر بثمن. علاوة على ذلك، كان طالبوا المعرفة لا يتورعون عن الذهاب في رحلات طويلة تستغرق وقتاً طويلاً للبحث عن مصادر المعرفة؛ أما اللغويون فقد عجلوا في مسألة تعلم اللغة العربية الناصعة والنقية الخالية من الأخطاء والحفاظ على اللسان العربي الأصيل؛ والجغرافيون بدورهم كانوا متحمسين للقيام بزيارة البلدان المختلفة التي فتحت على يد المسلمين والتعرف إلى تفاصيلها الجغرافية. وتزامن هذا بالطبع مع وصول المترجم حنين بن إسحق إلى سوريا لتعلم اللغة اليونانية والبحث عن الكتب الفلسفية والعلمية لجلبها معه إلى بغداد. فالعطاء من قبل الخلفاء لرجالات الفلسفة والأدب، أسس مثالاً وقدوة رائعة تم اتباعها من قبل العديد من العوائل العريقة والغنية، التي كانت تمتاز بالقوة والمكانة الاجتماعية العالية آنذاك. فعلى سبيل المثال كانت عائلة البرامكة، والتي على الرغم من انخراطها في الشؤون الادارية للخلافة العباسية، تجزل العطاء إلى ممارسي المهن الطبية والى مترجمي الكتب الفلسفية والطبية.وأخيراً تحت تأثير هذا المحيط المتألق، وفي هذا العصر بالذات، وصل ازدهار النثر والشعر العربيين إلى أوجه؛ وهنا تحديداً، بدأت الفلسفة الإسلامية بالتبلور، بالطبع من خلال الممارسة الحرة والفعالة للعقل أعمال سلطته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©