الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمـر الدنيا

أمـر الدنيا
27 يناير 2008 00:49
حللت ضيفة عند صديقتي التي ارتبطت بصداقتها من خلال تواجدنا معا في السكن الجامعي، تركت هي الدراسة وتزوجت، وأنا أكملت دراستي وتوظفت، لكن صداقتنا ظلت طوال تلك السنين، وقد وعدتها بالزيارة في أقرب فرصة· اضطرتني ظروف العمل للتواجد في العاصمة لثلاثة أيام، وكانت فرصة مناسبة للجلوس معها وقضاء بعض الوقت الممتع بصحبتها· استقبلتني بحفاوة كبيرة وشعرت وكأنني في بيتي تماما· في أول يوم من وصولي كانت المائدة معدة بشكل يظهر كرم الضيافة المعروف لدينا· أنهيت طعامي وذهبت لأغسل يدي فمررت في طريقي بغرفة جانبية فلمحتها·· امرأة كبيرة في السن تجلس على سريرها وبيدها مسبحة تقلبها بين أصابعها، أسرعت للسلام عليها، فعرفتني صديقتي بها قائلة: إنها والدتي! استغربت كثيرا، لماذا لم تشاركنا الطعام؟ ولماذا لم تجلس معنا؟ لم أخف تساؤلاتي عن صديقتي فأجابت بأن والدتها مريضة ولا تحب أن تجالس الآخرين· نظرت العجوز إلى ابنتها نظرة حارقة وقالت: لا تكذبي، لست مريضة ولست متوحشة حتى أهرب من مجالسة الناس· أنتم لا تريدونني معكم، أنتم لا تحبوني·· أنت وزوجك تكرهونني· ارتبكت صديقتي واحمر وجهها، ثم حاولت تدارك الموقف فسحبتني من يدي خارج الغرفة وهي تردد: أمي أرجوك·· لا تفعلي هذا أمام الضيفة، لكن العجوز استمرت في إطلاق موجات الاتهامات والكلمات الساخطة نحو ابنتها· حاولت أن استفهم منها عما حدث، فاعتذرت بكلمات لطيفة وطلبت مني عدم التفكير بهذا الأمر، ووعدتني بأن تشرح لي كل شيء فيما بعد· فالوقت سيكون أمامنا طويلا للتحدث وعلي أن أرتاح من عناء الطريق، لأن في انتظاري عمل كثير· اقتنعت بقولها وانصرفت للنوم وأنا أفكر بتلك العجوز وما تعانيه في بيت ابنتها· وبالطبع فإن الليلة الأولى كانت متعبة بسبب تغيير مكان النوم، وبالرغم من الأرق الذي أصابني فقد نهضت مبكرة كعادتي· خرجت إلى الصالة وفي نيتي الخروج من المنزل دون إحداث أي إزعاج لأصحاب البيت ولكني فوجئت بأن الفطور معد لي مسبقا فجلست أتناول فطوري بهدوء· سمعت همهمات العجوز وهي تقترب فنهضت وسرت نحوها للسلام عليها، ابتسمت وسلمت علي بحرارة وترحيب شديد ثم أمطرتني بأسئلة واستفسارات عن أهلي ومكان سكني وعلاقتي بابنتها، ثم سكتت قليلا فقدمت لها القهوة والتمر فأخبرتني بأنها لم تفطر بعد، استغربت كثيرا، هل يعقل أن تقوم الخادمة بإعداد الفطور لي وتنسى إعداده لهذه العجوز المسكينة؟ كتمت غيظي ووضعت الطعام أمامها وصببت لها الشاي فبدأت بالأكل على مهل والغصة تحول بينها وبين ما تبلعه من طعام· استأذنت منها وانصرفت لشأني وأنا أفكر فيها وفي معاناتها الغريبة، فصديقتي من النوع الطيب الرحيم·· فهل يعقل أن ترضى بمثل هذا الوضع لأمها؟ في منتصف النهار عدت لمنزل صديقتي، لم تكن قد عادت بعد من عملها، فقررت أن أذهب إلى العجوز وأتسلى معها بالحديث لأخفف عنها بعض ما تشعر به، ولأعرف السبب الحقيقي في معاناتها· حكاية الزمن جلست معها وأخذت أحدثها عن الناس وعن تصرفاتهم الغريبة وعن كل التغيرات والتبدلات التي تحصل في مجتمعنا، ثم تجرأت فسألتها عن حكايتها فقالت: عملنا أنا وزوجي ''رحمه الله'' بجد من أجل أولادنا حتى كبروا وتزوجوا وتركوا المنزل· بقيت ابنتي وهي الوحيدة بين إخوتها الذكور وأصغرهم· رفضت أن تتزوج وقررت أن تكمل دراستها الجامعية وتفرغ نفسها للعمل ولرعايتنا أنا ووالدها، لكن هذا الشيء لم يكن يرضينا فكنا نلح عليها بالزواج، وكان ابن عمها متعلقا بها وقد خطبها عدة مرات ورفضته بسببنا، ثم اشترطت عليه أن يقيما في بيتنا بعد الزواج فوافق على شرطها وتزوجته· تركت دراستها في الجامعة وتوظفت بشهادة الثانوية في وظيفة بسيطة تشغل وقتها بها لغياب زوجها معظم أيام الأسبوع· لم تدم الحال وتبدلت الأمور بعد أن رحل زوجي وبقيت أنا مع ابنتي وحدنا في البيت، حيث بدأ زوجها يلح في أن ننتقل إلى العاصمة لنعيش معه، ولم أتقبل هذه الفكرة أبدا، فكيف أترك بيتي الذي عشت فيه كل تلك السنين ولم أغادره إلا لقضاء الحاجات الضرورية؟ إنه المكان الذي تربى فيه أولادي وكبروا وتزوجوا، وفيه ذكريات عمري فهل يمكنني تركه بمثل هذه السهولة؟ صراع عنيف عشته وأنا تحت ضغط الإقناع من الجميع، أولادي، زوجاتهم، ابنتي، زوجها، الجيران، الأقارب، الكل يحاول إقناعي بترك بيتي واختيار أحد بيوت أولادي أو ابنتي للعيش معهم· وافقت على العيش مع ابنتي، ويا ليتني لم أفعل، فبمجرد مجيئي إلى هنا ضاق صدري وشعرت بالاختناق، طلبت منهم إعادتي لبيتي ولكنهم لم يرضوا وتجاهلوني، فعلت المستحيل ولكن لا أحد يستجيب لي· أنهت حديثها المؤلم ومسحت دمعاتها بطرف ''شيلتها''، فأمسكت بيدها وقلت لها: يا أمي·· أنت مؤمنة وتعلمين بأن الإنسان ضيف في هذه الدنيا، ومهما كان تعلقه ببيته وبأهله فإنه لا بد وأن يفارقهم·· الدنيا ليست مستقرا حقيقيا يستدعي أن نتمسك به· نظرت إلي نظرة تائهة وكأنها لا تسمعني ثم قالت: لا أدري ماذا حدث لدجاجاتي·· هل متنَ من الجوع أم أن الجارة تعطيهن الأكل؟ وماذا حدث لعنزاتي؟ والنخيل·· هل جاء من يخرف النخيل؟ وشجرة اللوز·· هل أطلقت ثمارها من فوق الجدار إلى الشارع؟ والقطة التي وضعت صغارها خلف الصندوق الكبير في الحوش·· ماذا تفعل الآن؟ والجارات·· هل ما زلن يجتمعن عند دكة الباب يشربن القهوة ويتسامرن بأحاديث مختلفة؟ أمام حديث العجوز ودموعها وحسراتها شعرت أن الكلمات ستكون سخيفة لا معنى لها، فقررت أن أتدخل في محاولة لمساعدتها· وجهة نظر أخرى في أقرب فرصة تحدثت مع صديقتي وسألتها عن الجفاء الحاصل بينها وبين أمها، وأنها لا تعاملها كما ينبغي، فقالت صديقتي: منذ أن جاءت والدتي إلى هنا وهي تتصرف بشكل غريب، لا يعجبها شيء أبدا، طوال الوقت غاضبة، تسب وتلعن بلا سبب، تصرخ وتفتعل المرض حتى أتعبتنا كثيرا، حتى الخادمات أصبحن يتهربن منها لأنها تضربهن بعصاها· لم أعد أعرف كيف أرضيها، ولم أجد سوى طريقة واحدة لأريح نفسي وأريحها، وهي أن لا أحاول الاقتراب منها أو إثارتها قدر الامكان، ومع ذلك فهي تتعارك مع الهواء إن لم يكن معها أحد· قلت لها: إنها تفعل كل ذلك لأنها تريد العودة إلى منزلها· قالت: أعلم هذا، ولكن هل يعقل أن أتركها تعيش وحدها في ذلك المنزل؟ أم هل يعقل أن نعيش أنا وهي وحدنا فيه؟ إخوتي وزوجي لا يقبلون بمثل هذا الوضع·· فماذا أفعل؟ أمر محير حقاً، فالعجوز تريد العيش في بيتها ولا أحد من أولادها يستطيع ترك عمله وأسرته ويتفرغ للعيش معها·· فما هو الحل؟ ابتسمت لأخفف توتر صديقتي وقلت لها: ما رأيك في أن تبحثوا لها عن عريس يشاركها البيت؟ ضحكت، وقالت: لا مانع عندي· أنهيت زيارتي لتلك الأسرة ولم استطع نسيان العجوز ومعاناتها وتمنيت لو أن هناك طريقة لمساعدتها على العودة لمنزلها· العودة للدار بعد فترة من الزمن اتصلت بصديقتي لأطمئن عليها فأخبرتني بأنها أخذت إجازة وأنها مع أمها في مدينتهم· سعدت كثيرا وتمنيت أن ترتاح تلك العجوز المسكينة وتسعد وقد عادت لبيتها ولو لفترة مؤقتة· أخذتني دوامة العمل والانشغالات اليومية عن صديقتي ووالدتها حتى فوجئت بـ ''مسج'' منها تخبرني فيه بوفاة والدتها· ذهبت لأعزي صديقتي· دخلت البيت الذي كونت له بخيالي صورة جميلة من كلام المرحومة، فوجدته بيتا بسيطا من البيوت الشعبية، تمتلئ ساحته بنخلات هرمات، والدجاجات يمرحن بحرية في أنحائه، وأوراق اللوز تغطي جزءا كبيرا من الأرض· وشعرت بأن هناك ألفة غريبة بيني وبينه· بعد أن انصرفت المعزيات سألت صديقتي عن حكاية موت العجوز فقالت: أمي ''رحمها الله'' كانت ذكية جدا، فكرت في خدعة بسيطة تعيدها لمنزلها· لن تصدقي ما فعلت! لقد أخبرتني بأنها تخفي مبلغا كبيرا من المال وكمية لا بأس بها من الذهب، لكنها نسيت أين وتحتاج لوقت طويل حتى تتذكر· المبلغ ضخم ولا يمكن تجاهله، لهذا أخذت إجازة بدون راتب وجلست معها شهوراً طويلة نبحث عن ذلك المال· ولما يئست من العثور عليه طلبت منها العودة معي فرفضت وأصرت على البقاء· ما يدهشني أنها عادت إلى طبيعتها السابقة، لطيفة ومرحة· قبل أيام من موتها طلبت مني أن أسامحها على أسلوبها السابق في التعامل معي، وعلى كذبتها البيضاء حول المال، صدمتني صدمة عنيفة لم استطع تقبلها فجلست أبكي وألومها، واتهمتها بأنها لا تحبني ولا تفكر بمصلحتي وكل ما يهمها هو العودة لبيتها مهما كان الثمن· لم تغضب وظلت مبتسمة وسعيدة، تحاول إرضائي· بعد أيام قلائل رحلت بهدوء وسكينة، وتركت لي عذابا نفسيا مؤلما على عدم صبري عليها وعلى كل تصرفاتي معها· أتمنى أن تسامحني وأن يغفر لي ربي على تصرفي الأحمق مع والدتي· سقطت الدموع الحارة من عينيها فاحتضنتها وفي داخلي مشاعر متناقضة، فأنا سعيدة لأن العجوز رحلت وهي في بيتها كما تحب، وحزينة لصديقتي التي لم تعرف كيف تحنو على أمها وهي أمانة أودعها الخالق بين يديها· فالوالدين يكونان في أشد حالات العطف والحنان على أطفالهم، وعندما يكبرون ويحتاجون لذلك العطف والحنان فلا يجدونه· حقا عجيب أمر هذه الدنيا· سعاد جواد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©