الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«التسامح»

«التسامح»
7 سبتمبر 2016 21:49
1 هذه الكلمة سوف توحي مباشرة بأن ثمة خطأ ما في مكانٍ ما. خطأ يستوجب غضّ النظر عنه، أو التنازل عن مطالبة الحق فيه. أو هو خطأ يمكن تفاديه.. لكنه خطأ. 2 في اللغة، لن تصادف كلمة مثلها، باردة الرواء، حييّة الحسّ، غنية الدوال، زاخرة المحبة، تنثال شلالاً بالإيجابية. حيث لا تجتمع حروف السين والميم والحاء في العربية إلا كان الحنوّ هو الغاية والهدف، حيث (سَمَحَ) هو الجذر الأول لكل تصريفات هذا الفعل الساحر. غير أنه ضمن سياقه المتداول في راهن العصر، يعتبر من أكثر المصطلحات عرضةً لاستغلالٍ هو نقيض المعاجم. التسامح هنا، والآن، كلمة مراوغة المعنى، متماهية التعبير بنقائضها. ففي التسامح، الذي يجري تداوله وترويجه، اتهامٌ صارمٌ بالخطأ والخطيئة، التي ستجيز للبعض غضّ النظر، والتنازل، والعفو، والغفران، وبالتالي التسامح، وتجاوز ذلك تحت شعار التفاهم الكوني والسلم الاجتماعي. غير أن هذا كله ليس سوى إجراء مؤقت يجيز (كذلك) لصاحب التسامح نقض ذلك، فليس هذا التسامح سوى كرمٍ فائض يحق لهم قطعه. 3 يبدو لي دائماً، حين أسمع كلمة (التسامح)، أن ثمة شخصاً يكمن هناك يستعد لفرض شروطه مقابل هذا التسامح. وأخشى دائماً أن تكون هذه الشروط، من العسف، بحيث تضع إنسانية الشخص في أحطّ دركات العيش مذلةً. ما من قوانين أو حدود أو حيثيات تفيد برفض هذه الفكرة المجردة من المشاعر، المشحونة برغبات المحبة والتفاهم للسلم والعيش المشترك. لكن، أيضاً، ليست هناك ضمانات أن تكون كل هذه الرغبات وتلك المشاعر مصونة ومحروسة بالكرامة. فمَنْ يسامح مَنْ، في هذه (المباهلة)؟ 4 بقدر ما في كلمة التسامح من نعومة الظاهر، والاستعداد للمعانقة، فإن قدْراً من الصلافة تكمن وراء هذه المعانقة الوشيكة. حتى إذا استخدمت الكلمة في حقل الاختلاف والتنوّع الديني، ورغبة معالجة تعقيداته، خصوصاً عندما تستخدم كلمة التسامح في هذا الحقل بالذات، فإنما أنت خطوت الخطوة الأولى في الافتراض بأن ثمة شخصاً قد وقع في الخطأ وأنني مستعد لمسامحته على ذلك. بل إنك أشرت بقوة يقينك إلى أن اختياره لدينه أو مذهبه هو ذنبٌ يستوجب العقاب، لكنك تسامحه على ذلك. وفي هذا السلوك من المزاعم والنفاق ما يجعل المرء محاطاً بالريبة والتوجس، مما يفسد الحياة ويعطّلها. 5 في حقل إشكاليات الأديان، ما إن يدعو أحدهم إلى التسامح، حتى نكتشف أنه يصدر عن موقف يشير إلى خطأ الطرف الآخر. فإذا كنت في الإسلام ودعوت إلى التسامح، فإنك بالضرورة تفترض أن الذي في الدين الآخر قد أخطأ في خياره، لكنك مستعد للتسامح معه. والعكس سيكون كذلك. وهذا ينطبق عند الكلام عن المذاهب. الطريف في كل هذا أن عتاة أهل الإسلام الداعين للتسامح مع الأديان الأخرى، نراهم يقصرون ويتخلفون عن التسامح مع المذاهب الأخرى في دينهم الإسلامي نفسه. فكيف نصدق أنهم صادقون هناك، دون أن ينجحوا هنا؟ 6 ثم، لماذا يصحّ لأي طرف افتراض خطأ اختيار الآخرين لأديانهم ومذاهبهم؟ مِنْ أين/‏‏ مَنْ يمتلك هذا الحق؟ ثم لماذا يُراد لمصطلح التسامح تجاوز دلالته الاجتماعية البسيطة، لأن يكون مطية للعديد من الدلالات السياسية والأيديولوجية والتاريخية؟ لنجد أنفسنا في موجٍ عارمٍ من المعاني الملتبسة وغامضة المصادر والمذاهب. إذ كلما اختلفت الجهات التي تتناوب على استخدام مصطلح التسامح، صارت الخطورة التي تُحْدِقْ بنا غزيرة الاحتمالات، وأصبحتْ كل تخوم الحريات المتصلة بخيارات الفكر والتفكير الديني والمذهبي مجلبةً لأسباب التجريم والشبهات، بالتالي تكون محطات فاجرة للنفاق الاجتماعي الفتاك. 7 ولأن الدين والمذهب شأن شخصي، فليس من حق أعتى السلطات، ديمقراطياً، محاسبتك عليهما. فما بالك الزعم بأن أحدهم يستطيع، تحت شعار التسامح، تجريمك ووضعك تحت طائلة الشبهة، والتكرم بالعفو (المؤقت) عنك، والجلوس معك لتبادل الشتائم واقتناص الفرص. لماذا لا نريد الاعتراف بالآخر وبحقه الكامل في الاختيار الحر، واحترام ذلك الخيار وقبوله؟ لماذا لا نعترف بالتعدد في شتى الحقول، بما فيه تعدد الأديان، وتنوع الاجتهادات المذهبية، هذا التعدد والتنوع الذي كان النواة الحيوية التي نشأت في حضنها الفكرة الديمقراطية عند اليونان؟ هل نقدر على قراءة التاريخ جيداً بدل أن نكون ضحيته؟ 8 سيبدو لنا التسامح أحد آخر الابتكارات التي اجترحها العقل الفاشي، من أجل تقنين القمع والمصادرات وفرض الحظر الكوني أمام الإنسان ضد نزوعاته الفطرية الأولى. حين تتنادى المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية، رسمية كانت أو أهلية، بشتى مشاربها الدينية والمذهبية، طارحة برامج التسامح، بوصفها الحلول (الإنسانية) لإنقاذ العالم من المخاطر، إنما هي، هذه المؤسسات والمنظومات، تضع الحياة الإنسانية في عنق زجاجة مختومة بالغاز السام الذي يمنع الهواء عن القلب. وهي أيضاً تنادي بكلمة الحق الباطلة بالذات لإحكام الظلام الدامس أمام أبصارنا المكفهرّة لفرط التحديق في شمسٍ ليست لنا. تلك هي الفاشية الجديدة التي يتوافق عليها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لارتكاب الجرم ذاته، فيستوي الجميع في الذنب بلا مظنّة. 9 ليس شأناً ثقافياً خالصاً، التسامح كسلوك اجتماعي يجري تسيسه، لكن من المؤكد أنه الشأن الأخلاقي الذي ستقوم عليه مستقبلات الحضارة، وربما توقفت عليه ملامح طبيعتنا الإنسانية، التي تبدو لنا، الآن، أنها ليست فوق مستوى الشبهة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©