السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عليك أن تحب ألحان «الحداثي»

عليك أن تحب ألحان «الحداثي»
7 سبتمبر 2016 21:49
قلت لصديقي الأثير إنني سأكتب موضوعًا عن بليغ حمدي فأظهرت ملامح وجهه امتعاضاً ملحوظاً.. فصديقي هذا، وعلى الرغم من حداثة سنه -لم يتجاوز منتصف العشرينيات- فإنه وعلى غير طابع الغالبية من جيله مُتيمٌ إلى أقصى مدى بكلاسيكيات موسيقانا الشرقية، وبأعمال الأساطين -بالنون وبالراء- أمثال زكريا أحمد والسنباطي والقصبجي، وبطبيعة الحال محمد عبد الوهاب، ودرة التاج في هذه الباقة الزاهرة، كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم. وهو عاشق بشكل خاص للأعمال المبكرة التي ظهرت منذ أواخر العشرينيات وحتى بدايات الخمسينيات من القرن الماضي. ربما كان شعور التفرد والتميز بين أقرانه في هذا الذوق دافعاً من دوافع حماسته لكل ما هو قديم وعتيق من الأعمال الغنائية، وسعيه بلا كلل عبر المنتديات والمواقع لاكتشاف مقطوعات وأغانٍ أحياناً ما تعود لبدايات القرن لأمثال الشيخ أبو العلا محمد أو الشيخ سلامة حجازي. ولكن هذا الحب طالما كان مصدر سعادة بالنسبة لي عندما تملأ وتزين نقاشاتنا سوياً معرفته الثرية بهذه النوادر. وبالنسبة لصديقي المتيم بهذه الجواهر العتيقة، فإن أعمال بليغ هي «حداثية» ومختلقة بأكثر مما يحتمل ذوقه.. بتوزيعاتها التي استغل فيها «بليغ» كثيراً الآلات الكهربائية مثل الجيتار والكمان، ومقاماتها التي في رأيه تفتقر إلى الرصانة وللطابع الشرقي الخالص، وهي في رأيي ميزة وليست من العيوب مما يثير صديقي أكثر.. وفي كل مرة نخوض هذا النقاش يكون رد فعله أن هذا «بتاع دندش» في إشارة إلى مقطوعة «دندش» الملونة جداً التي ألفها بليغ كقطعة موسيقية مستقلة وهي من أقرب أعماله إلى قلبي، وعلى الرغم من حبه لأم كلثوم.. فإنه لا يفضل كثيراً أغانيها التي لحنها لها الرجل حتى بمقدماتها الموسيقية فائقة الشهرة والشعبية، ويرى أنها جاءت كالعمليات التجميلية لمساندة الست في الوقوف أمام جمهورها في مراحل حياتها الأخيرة، بعد أن فقدت كثيرًا من زهوها المبكر، ظل هذا الموضوع منطقة خلاف ودي بيننا لفترة، حتى تراءى لي ذات مرة أن أحاول جدياً إقناعه بإعادة النظر والمحاولة ثانية لاستيعاب فنان بالغ الأهمية في تاريخ موسيقانا المصرية والعربية عموماً. «يابو اللبايش يا قصب.. ويا نخلتين في العلالي» أولى خطوات هذه المحاولة نابعة من قلب العالم الذي يعشقه صديقي، فهو إلى جانب «الطقاطيق» و»الأدوار القديمة» مولع بالأغاني التراثية الفولكلورية، ونشترك أنا وإياه في غرام أغاني «السمسمية» و»الطنبورة» و»الضمة» القادمة من منطقة القناة، هنا كان يجب عليّ أن أنبهه إلى مساهمة بليغ الذي لا يمكن تجاهله في إحياء التراث الفلكلوري، وتقديم الأغاني الريفية والقروية من قلب الصعيد وثنايا الدلتا، وكان في تعاون بليغ مع المطرب محمد رشدي ذي الصوت الرائق القوي اكتشافاً جديداً لكلٍّ منهما، فالأغاني ذات الأصول أو الطابع الشعبي التي قام بتلحينها بليغ لرشدي تحولت إلى أيقونات غنائية متفردة. وقامت أعمال مثل «عدوية»، و»عالرملة»، و»طاير يا هوا»، من أشعار عبد الرحمن الأبنودي، بحمل رشدي إلى آفاق من الشهرة والنجاح لم يكن أبدًا ليحققهما بهذه السرعة على الرغم من قدراته وموهبته. هذا الأمر الذي دفع عبد الحليم حافظ إلى حسم تردده الكبير في أداء أغنيات بالطابع الشعبي نفسه، حيث كان يرى أن الأغاني العاطفية والوطنية هي مجاله الذي لا يباريه فيه غيره بذلك الزمن، ولكن مع نجاح «عدوية» الساحق أعاد «حليم» النظر وغنى لبليغ «على حسب وداد قلبي»، من كلمات الأبنودي أيضاً، و»أنا كل ما أجول التوبة».. وحققت الأغنيتان صدى ونجاحًا أزال كل المخاوف التي كانت لدى العندليب الأسمر من هذا اللون من الغناء والألحان معاً. ولشادية لحن بليغ سنة 1966 «آه يا أسمراني اللون» من كلمات الأبنودي، ولها أصول في الفلكلور الشامي، وغنت له أيضًا «زفة البرتقال» سنة 1968 و»عنب بلدنا»، و»الحنة يا قطر الندى».. وكلها أعمال تأتي مباشرة أو تستلهم تراث أغاني القرية المرتبطة بالمناسبات والمواسم، ولها أيضاً لحن «خدني معاك ياللي أنت مسافر» من الفلكلور الصعيدي، و»قولوا لعين الشمس ما تحماشي» من كلمات مجدي نجيب، وهي أيضاً مستوحاة من تراث الصراع السياسي للمصريين مع الإنجليز في بدايات القرن العشرين. «مولاي إني ببابك» القصة المتداولة للكيفية التي بدأ بها التعاون ما بين بليغ حمدي والشيخ النقشبندي والذي نتج عنه عددٌ من الابتهالات الرائعة صارت بعدها أيقونات موسيقية محفورة في وجدان المصريين والعرب عمومًا، من أشهرها «مولاي إني ببابك».. تحكي القصة أنها جاءت باقتراح من الرئيس الراحل محمد أنور السادات في أحد الحفلات، حيث أعرب للنقشبندي عن رغبته في رؤية عمل مشترك يجمع بينه وبين بليغ حمدي. وجاء على لسان الإذاعي وجدي الحكيم، الذي روى القصة بحذافيرها، أن النقشبندي أبدى ترددًا وتهيباً من مثل هذا التعاون إذ رأى أنه ليس من اللائق بوقار الابتهالات والتواشيح الدينية أن تصاحبها موسيقى، وبالذات موسيقى بليغ الذي رأى أن عمله مع مغنيات وفناني ذلك الزمن في الأغاني العاطفية وموسيقاه الراقصة سيضعه موضع الحرج عند اجتماع اسميهما على نفس العمل. إلا أن جلسة واحدة مع بليغ في مقر الإذاعة المصرية أزاحت هذا التردد جانباً، ودفعت الشيخ صاحب الصوت والأداء المميزين لإنتاج أكثر من ابتهال، قام بتلحينه له بليغ حمدي، من أشهرها «أقول متى؟» و»يا ليلة في الدهر» و»أخوة الحق»، وجُلها من أشعار عبد الفتاح مصطفى. وبعيداً عن هذه الحكاية، فإن مزج عبقرية بليغ وتمكنه من إدراك روح الابتهال ومصدر قوته التي تأتي من لحظات الصمت بأكثر مما تنبع من لحظات الشدو، واتساق لحنه وتوزيعه مع قوة صوت النقشبندي في جواباته العالية واستخدام جوقة المنشدين ببراعة، مع ترك مساحات زمنية كبيرة للنقشبندي ليصدح بحرية تغيب معها الموسيقى وتخفت مع الجوقة في الخلفية لفترات طويلة.. كل هذا خلق حالة شديدة التميز تجمع ما بين «الطرب» و»التبتل» و»التضرع إلى الله»، فاقت في حلاوتها كثيراً تجربة عبد الحليم حافظ مع محمد الموجي في الستينيات مع ابتهالات مثل «يا خالق الزهرة» و»أدعوك يا سامع دعايا» و»أنا من تراب». كانت هذه من المرات النادرة التي يخرج فيها فن الابتهالات عن طوق الذائقة الصوفية وخاصة المستمعين المولعين بهذا اللون، ليصبح مُنتجاً فنياً قابلاً للتذوق واستمتاع كل من يستمع إليه أياً كانت خلفيته واهتماماته. في محبة بليغ وفنه هناك العديد من الطرق والمسالك، وليكن عليك صديقي أن تجرب ثانية، مُجنِّبًا إلى حين، الأفكار المسبقة والانطباعات الأولى، فإن فن الرجل لا يقتصر على أغنية عاطفية هنا أو مقطوعة راقصة هناك، ومساهماته في الأغنية الوطنية وفي الأعمال الدرامية سواء بالتليفزيون أو السينما تمنح فنه أيضًا مزيدًا من الثراء والتنوع، وتقف شاهدًا على موهبة فنان من ألمع من أنجبت هذه البلاد وأكثرهم إمتاعًا. .............................................. *حسام الخولي: كاتب مصري، ناقد فني وسينمائي، ينشر مقالاته في عدد كبير من الصحف والدوريات المصرية والعربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©