الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مدّاح القمر» الذي لم أقابله

«مدّاح القمر» الذي لم أقابله
7 سبتمبر 2016 21:49
عندما وصلتُ إلى القاهرة في عام 1983 للالتحاق بكلية الإعلام، تمنيتُ أن ألتقي أربعة من الكبار الذين أحببتُهم من أعمالهم: الموسيقار محمد عبد الوهاب، والموسيقار بليغ حمدي، والمخرج يوسف شاهين، والناقد السينمائي سامي السلاموني. تخرجت في الكلية في عام 1987، وحققت حلم مقابلة شاهين والسلاموني، ولكني لم أحقق أبداً أمنيتي بلقاء عبد الوهاب وبليغ. نشأتُ في بيتٍ يعشق الغناء، أبي يحب عبد الوهاب، ويشاهد بانتظام برنامج «الموسيقى العربية» التليفزيوني الذي كانت تقدمه الراحلة د. رتيبة الحفني، يحب أطيافًا واسعة من الأغاني، من عبد الوهاب إلى سيرة بني هلال التي نستمع إليها في الإذاعة بإنشاد جابر أبو حسين، وبتعليق عبد الرحمن الأبنودي، يعشق أبي أصوات كبار قراء القرآن الكريم، وبالذات الشيخ محمد محمود الطبلاوي، كما يعشق أصوات كبار المنشدين، وخصوصاً الراحل الفذ الشيخ النقشبندي. أبي من جيل عبد الحليم حافظ، وكان تقريباً في نفس عمره، عشقت صوت عبد الحليم في أغنياته الشهيرة الطويلة في السبعينيات، كان أبي يقول لي إن عبد الحليم مطرب جيله هو، وليس مطرب جيلي أنا، وكنت لا أصدق ذلك، إذ توهمت أن عبد الحليم، الذي يقص شعره على طريقة الخنافس، قد بدأ حياته الغنائية في عام 1970 على أكثر تقدير، وأن رفيق مشوار حياته، هو بليغ حمدي، ذلك الموسيقار الذي وصفه عبد الحليم عند تقديم أغنية جديدة بأنه «أمل الموسيقى والغناء في مصر». الآن أكتشف توًّا أن حبي لعبد الوهاب وبليغ قد بدأ في الوقت نفسه تقريباً، وأنه ارتبط بألحانهما لمطربي المفضل حتى اليوم: عبد الحليم حافظ، ولكني تذوقتُ ألحان بليغ للعندليب بإيقاعاتها الصاخبة والراقصة بطريقة أسرع بكثير من تذوقي لألحان عبد الوهاب لعبد الحليم، أما تذوقي لعبد الوهاب المطرب العظيم، فقد جاء في مرحلة تالية، بعد أن تجاوزت مرحلة الصبا في السبعينيات من القرن العشرين. الثلاثية الشعبية عندما أتذكر أول ما أعجبني من أغنيات بليغ التي لحنها لعبد الحليم، أجد في المقدمة تلك الثلاثية الشعبية المدهشة:»على حسب وداد قلبي يا بوي» من تأليف صلاح أبو سالم، و»سواح» و»جانا الهوى» من تأليف محمد حمزة. تتفق الأغنيات الثلاث في اعتمادها على جمل فلكلورية معروفة، ولكن مع تصرف في اللحن الأصلي، وكلها تتميز بثورة الإيقاعات التي تستدعي التصفيق «على الواحدة»! كانت جرأة مذهلة من بليغ في تناول الفلكلور، حدث ذلك أيضاً في أغنية شهيرة أخرى مستلهمة من الفلكلور، كتبها عبد الرحمن الأبنودي، ولحنها بليغ، وغناها عبد الحليم، واكتشفتها بعد سنوات الصبا، مطلعها يقول: «وأنا كل ما أجول التوبة يا بوي ترميني المجادير»، وقد غنتها أيضاً ماجدة الرومي. الفارق كبير بين اللحن الفلكلوري الأصلي البطيء الذي يعبر عن شخصية مستسلمة، واللحن البليغي الثائر، ثم جاء التوزيع ليمنح الأغنية طابعها العصري، لم يكن الصعيدي الذي يغني «أنا كل ما أجول التوبة» على نغمة الناي أمام الترعة، يتخيل أن تُغنى بالآلات النحاسية على المسرح، لدرجة أن الأبنودي، مؤلف الأغنية، احتج على هذا التصرف، وقال إنها تحولت إلى أغنية يغنيها صعيدي من تشيكوسلوفاكيا. لم أكن أدرك بالطبع، في ذلك الوقت المبكر من اكتشافي للغناء العربي، من خلال بوابة هائلة اسمها عبد الحليم، طبيعة الثورة في تناول الفلكلور، ولا المعارك التي خاضها بليغ في مواجهة من اتهموه «بتمييع التراث». مع زيادة شغفي بالغناء، زاد شغفي بألحان بليغ، أسمع اللحن أو المقدمة الموسيقية، فأحفظها على الفور، وأدندن بها بشكل أسرع من حفظي للكلمات، وبعد مرحلة عبد الحليم، اكتشفت كبار المطربين، وفي كل مرة تعجبني أغنية، أنتظر بيانات الأغنية كما يرددها مذيع الراديو، فأجد بليغ دوماً هو ملحن الأغنية التي أعجبتني، بصرف النظر عن الأصوات التي تغني أو تنشد. حدث ذلك على مدى سنوات طويلة، عرفت فيها أم كلثوم ووردة وشادية ونجاة وصباح وعفاف راضي وشهر زاد ومحمد العزبي ومحرم فؤاد ومحمد رشدي ووديع الصافي والشيخ النقشبندي، كل هؤلاء لهم أعمال جميلة، وكلها من ألحان رجل واحد، يصفه عبد الحليم في حفل أذيع على الهواء مباشرة، بأنه «أمل الموسيقى والغناء في مصر». المذهل أن كل لحن لبليغ له جاذبيته وحلاوتة، من «الحب كله» وفات الميعاد» لأم كلثوم إلى «العيون السود» و»ليالينا» لوردة، ومن «عسل وسكر» لشهر زاد إلى «آه يا أسمراني اللون» لشادية. ومن «في وسط الطريق» و»أنا باستناك» لنجاة، إلى «ردوا السلام» و»هوا يا هوا» لعفاف راضي و»عاشقة وغلبانة» و»يانا يا نا» لصباح، ومن «عيون بهية» لمحمد العزبي إلى «على رمش عيونها» لوديع الصافي.. ومن «يا غزال اسكندراني» و»كله ماشي» لمحرم فؤاد إلى «ع الرملة» و»مغرم صبابة» لمحمد رشدي، بل إنني عرفت فيما بعد أن بليغ هو ملحن ابتهالات الشيخ النقشبندي التي تجعل القشعريرة تسري في بدني منذ أن استمعت إليها صبياً وحتى اليوم، وقد لحن هذه الابتهالات بطلب من الرئيس الراحل أنور السادات، عاشق النقشبندي، واحتاج الأمر من بليغ جهداً كبيراً، لكي يقنع الشيخ، بأن يُنشد مسبوقاً بموسيقى يعزفها الجيتار والأورج، من دون أن ينتقص ذلك شيئاً من مقام الدعاء والابتهال. هكذا ولدت أناشيد خالدة من طراز: «مولاي إني ببابك قد مددتُ يدي / منْ لي ألوذُ به إلاّك يا سندي». ابن العائلة الصعيدية يُروى أن بليغ حمدي ابن العائلة الصعيدية المثقفة، والذي عشق الموسيقى والغناء، فشغله ذلك عن الحصول على الليسانس من كلية الحقوق، قد قال في مطلع السبعينيات إنه سيجعل العالم العربي كله يغني أغنياته، وقد حقق ذلك بصورة مدهشة. كان أمراً لافتاً أن يتسق الكمّ مع الكيف، وصلنا أحيانًا إلى درجة أن تذيع محطات الإذاعة أغنيات متتالية لمطربين مختلفين، كلها من ألحانه، وكلها جميلة ومبهجة.. بل إن بليغ أطلق موهبة عفاف راضي التي تدربت على الغناء الأوبرالي، فجعلها بليغ مطربة شرقية، تتقن القفلة، وتبهر السامعين، وتنتشر أغنياتها الأولى في كل مكان. بليغ هو أيضاً الذي أعاد معشوقة عمره وردة من الجزائر، لينطلق بها إلى القمة في جديد، كان قد لحن لها في بداية الستينيات أعمالاً مثل «يا نخلتين في العلالي»، ثم قدمها في السبعينيات في ألحان طويلة مدهشة الكلمات، وصلت قدرة بليغ إلى درجة تلحين كلمات من طراز: «قالّوكوا إيه/ ما تستغربوش/ يووه يووه/ هوه في حد النهاردة بيفتكر»، أو مثل: «ناس ما بتحبش راحتنا/ كل يوم قاعدين في بيتنا/ يسمعوا ويجيبوا في سيرتنا/ نعمل إيه، سكتنا حدفتنا/ على ولاد الحلال». قال سيد درويش يوماً: «أنا أقدر ألحّن الجورنال»، وكان أول لحن لعبد الوهاب خبر قرأه في إحدى الجرائد، وقد كان بليغ من تلك الطبقة من المواهب القادرة على تلحين أي شيء، لديه حرفة وصنعة، ولكنه يلحن بقلبه ومشاعره، وكأن ريشة العود متصلة بأحاسيسه، وهي أحاسيس يقظة، تغذيها موهبة ضخمة، جعلت محمد الموجي يقول عن بليغ إنه «بيشرّ مزيكا»، أي أنه «يتدفق بالمزيكا»، وجعلت عبد الوهاب يقول إن بليغ «عبقري»، ولكنه لا يستغل الجمل الموسيقية التي تأتيه، والتي تشبه المجوهرات وقطع الألماس. حفظت عشرات الأغنيات من ألحان بليغ، منها بالطبع كل ألحانه التي اكتشفناها لعبد الحليم، من لحن «تخونوه» الذي صنعه بليغ لـ «ليلى مراد»، فأعجب العندليب، فتنازلت ليلى عن اللحن حباً وكرامة، وصولاً إلى قصيدة «حبيبتي من تكون» التي أذيعت بعد وفاة عبد الحليم. بل إنني حفظت أغنياتٍ كان يفترض أن يغنيها عبد الحليم من ألحان بليغ، ثم ذهبت لآخرين بعد موت العندليب، مثل أغنية «هوه اللى اختار» التي غناها هاني شاكر. طاردتني أغنيات بليغ العجيبة في السينما، من أغنيات فيلم «شيء من الخوف» الملحمية، إلى أغنية «يا بلادي يا بلادي» الملهمة في فيلم «العمر لحظة»، وأدهشتني إبداعاته لمقدمات المسلسلات الإذاعية، من «والله يا زمن» التي غنتها شادية، وهي مقدمة مسلسل «نحن لا نزرع الشوك»، إلى أغنية «ويا عيني ع الدنيا» لليلى مراد، وهي مقدمة مسلسل «لستُ شيطاناً ولا ملاكاً»، وبالطبع أغنيات مسلسل عبد الحليم الوحيد في الإذاعة وعنوانه «أرجوك لا تفهمني بسرعة»، وفي المسرح توقفت طويلاً عند ألحان بليغ لأغنيات مسرحية «ريا وسكينة»، وفي التليفزيون لم أستطع نسيان أغنية المقدمة والنهاية لمسلسلات مثل «المشربية» و«بوابة الحلواني». كلها تُؤدي إلى بليغ كل الأغاني التي أحبها تُؤدي إلى بليغ، متى وأين وجد الملحن العظيم الوقت لعمل كل هذه الأغاني والمقطوعات؟ متى وأين طاف الوطن العربي ليلحن لمعظم الأصوات العربية وليقدم ميادة الحناوي ولطيفة وسميرة سعيد في نجاحاتهن الأولى؟ كيف عثر على صوت مثل علي الحجار وقدمه ليحقق نجاحاً مكتسحاً في أغنية «على قد ما حبينا» التي كنا نخترع لها كلمات من تأليفنا تزيد من وقتها وتجعل استمتاعنا بها أطول؟ هل كان يجد وقتاً إضافياً ليسهر ويعشق ويقرأ ويكتب ويسافر ويزور أمه وأخته صفية وشقيقه مرسي سعد الدين ويجري الحوارات الصحفية والتليفزيونية والإذاعية؟ شغلني بليغ وتمنيت مقابلته، ولكنه سرعان ما دخل في دوامة حادث سقوط سيدة مغربية من شرفة منزله، ذات ليلة غبراء. كان بليغ قد دخل متاهة أسبق عقب انفصاله عن وردة، بدا تائهاً وضائعاً يبحث عن نغمة مفقودة في أصواتٍ كثيرة، من دون أن يجد شيئاً، طبيعته بالأساس لا تحفل بالقيود، ولا تعترف بالقواعد، يحب عيشة الحرية، ويهوى السفر، وينجز عمله بالمزاج، يصبر المطربون عليه، لأنه سيعطيهم في النهاية لحناً خالداً. ولكن مأساة المغربية «سميرة مليان» نالت من شرفه وسمعته، صار مهدداً بالسجن، غادر وطنه سواحاً ومغترباً، يكتب أغنيات متعددة في الغربة، يلحنها ويغنيها، حتى عاد محطماً مريضاً، ليقضي الأيام الأخيرة في وطنه، بعد أن حصل على البراءة من التهمة المشينة. في سنوات الغربة، اتصلتُ برفيق مشواره الشاعر محمد حمزة، سألته عن بليغ وأحواله في باريس، ذكر معلومات سريعة عن الطير المسافر الذي قد تقتله الغربة، وسرد ذكرياته مع بليغ الملحن، تمنيت أن أحصل على تذكرة لألتقي بليغ في فرنسا، وحتى عندما عاد، كانت الدنيا قد انقلبت، انشغلتُ بالسياسة والثقافة، فضاعت فرصة لقاء أخير، أسأله فيه عن سر العبقرية، وعن أصل الشغف، وعن خلاصة تجربته الموسيقية والحياتية. هالتني صورته الأخيرة في لقاء تليفزيوني أذاعته القناة الثانية المصرية مع المذيعة التليفزيونية ماجدة عاصم قبل وفاته بوقت قصير، عيونه الذكية متعبة، ووجهه وجسده يتباريان في النحافة، بدا متبرماً يرد على الأسئلة بشكل موجز ومختصر، هزني من الأعماق وهو يقول: «أنا جاي الدنيا مش علشان آخد.. أنا جاي لكي أعطي وبس». ذات صباح، قرأتُ خبر وفاته، مجرد سطور في الصفحة الأولى من جريدة (الأهرام)، وعبارات رثاء في الصفحة الأخيرة، في عزائه كان الموسيقار كمال الطويل يبدي دهشته للمطرب محمد رشدي من حشود المعزين، ومعظمهم من أفراد الشعب العاديين، كان ذلك دليلاً على رصيد صنعه بليغ لنفسه ولموسيقاه، وكان ذلك تفسيراً لزيادة القيمة بعد غياب الجسد، وبعد انتقال الروح. يتعاظم حضور بليغ حمدي يوماً بعد يوم، وكأنه لم يمت، ويتعاظم اكتشافي لأعماله، ما زلتُ أسمعها ببهجة الاكتشاف الأول، في القلب حسرة لأنني لم أقابله أبداً ولكني ألتقيه يوميًّا من خلال ألحانه العذبة، أدندن أحياناً معه وهو يغني بصوته كمطرب، من ألحان عبد العظيم محمد، أرى في كلمات تلك الأغنية تلخيصاً لحكايته وأمنياته الرومانسية الجميلة، يردد فأغني معه: «يا ليل العاشقين طوّل شوية، يا ليل العاشقين طوّل شوية». ........................................ * محمود عبد الشكور: كاتب وناقد فني مصري، نائب رئيس تحرير مجلة (أكتوبر)، مؤلف الكتب ذائعة الصيت «كنت صبياً في السبعينيات- سيرة ثقافية واجتماعية»، «وجوه لا تنسى ـ بورتريهات عن مشخصاتية مصر»، «سينمانيا ـ عن مشاهدة الأفلام وقراءتها»، و«يوسف شريف رزق الله-عاشق الأطياف». اكتشافات المتعة تغني أمي لأختي الصغيرة أغنية «أمّورتي الحلوة» لصباح، فأكتشف أنها من ألحان بليغ حمدي، يُسمعني أخي أغنية غريبة لأحمد عدوية تقول كلماتها «بنج بنج بنج/ عجيب يا واد يا بنج/ عينيك اللي بتجرح/ وانت الدوا والبنج»، فأكتشف أنها أيضاً من تلحين بليغ. أتذكر المقدمة الموسيقية لبرنامج عن الفن الشعبي تقدمه الإذاعة المصرية في برنامجها العام بعنوان «أنغام من بلدنا»، تأسرني النغمات، أشاهد الراقصة سهير زكي وهي ترقص على الموسيقى نفسها، ثم أكتشف أنها أيضاً من تأليف بليغ، وأن عنوان المقطوعة هو «دندش»، يمكن للقارئ أن يستمع إلى هذه المقطوعة البديعة عبر الشبكة العنكبوتية، والتي احتفظت لنا بكل روائع بليغ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©