الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة لحن شجيّ

سيرة لحن شجيّ
7 سبتمبر 2016 21:49
لا أعرف بالضبط كيف كان هذا العبقري المسمى بليغ حمدي يجد وقتاً لتلحين كل هذه الروائع، أكثر من 1500 لحن متنوع، أغنيات واستعراضات أفلام، موسيقى تصويرية، ومسلسلات درامية، إذاعية وتلفزيونية، أوبريتات، ومقطوعات.. لم يترك بليغ لوناً غنائياً ولا شكلاً تلحينياً إلا وقدم فيه شيئاً عرفه الناس وأحبوه وحفظوه عن ظهر قلب، ورددوه في كل مناسباتهم واستدعاءاتهم اللحنية والطربية. الاسم والرسم: محمد بليغ عبدالحميد حمدي سعدالدين، من مواليد السابع من أكتوبر العام 1931، في حي شبرا مصر، القاهرة، والده كان عالماً متخصصاً في الطبيعيات، رجل علم ومعرفة، في بيته تفتحت عينا الصبي بليغ على مكتبة عامرة وزاخرة بأمهات الكتب. منذ نعومة أظفاره، نشأ محباً للغناء، يهوى الطرب، خصوصاً أن والده كان يهوى الغناء ويمتلك في مكتبته كماً هائلاً من الأسطوانات المصنوعة من الحجر، يحفظ كل ما هو مسجل عليها من أغنيات، يعشق صوت منيرة المهدية كما يعشق سماع الموسيقى الكلاسيكية العالمية من سونيتات وكونشيرتات وغيرها. أحب الموسيقى ونظم الشعر الشعبي منذ طفولته، وأتقن العزف على العود وهو في التاسعة من عمره، وأهداه والده عوداً في سن العاشرة. وفي سن الثانية عشرة حاول الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى إلا أن سنه الصغيرة حالت دون ذلك. التحق بمدرسة شبرا الثانوية، في الوقت الذي كان يدرس أصول الموسيقى في مدرسة عبدالحفيظ إمام للموسيقى الشرقية، ثم تتلمذ بعد ذلك على يد درويش الحريري، وتعرف من خلاله إلى الموشحات العربية. التحق بليغ بكلية الحقوق، وفي الوقت نفسه، التحق بشكل أكاديمي بمعهد فؤاد الأول للموسيقي (معهد الموسيقى العربية حالياً) وقد حباه الله، سواء في مرحلة الدراسة الثانوية أم الجامعية، برفقة من الفنانين شكلوا بعد ذلك علامات في الموسيقى والغناء، من بينهم الموسيقار صلاح عرام، والمطربة فايدة كامل، والمطرب عبدالحليم حافظ، والشاعر الغنائي عبدالوهاب محمد.. وآخرون. سر العبقرية مفتاح براعة وعبقرية بليغ أنه كان يمارس التلحين بروح الهاوي، يقول «لا أستطيع تلحين كلمات لا أحبها، ولا أذكر أنني لحنت فيلماً لم أقتنع بموضوعه، ولا وضعت موسيقى لفيلم لا أرضى عنه. وكم مرة تعاقدت على أعمال سينمائية ثم رفضت تنفيذ العقود لعدم قناعتي بها، وفي كل مرة كانت الشركة المتعاقدة تلجأ إلى أن تستعيد العربون الذي تقاضيته بخصمه من أجري عن آخر عمل لي معها، كان ذلك يسبب مشكلات كثيرة مع المنتجين». اكتسب بليغ شهرته الواسعة وعرف اسمه على نطاق واسع من ألحانه لسيدة الغناء العربي أم كلثوم والعندليب عبدالحليم حافظ، لكن ورغم هذه الشهرة الكبيرة، فإن تلك الألحان العظيمة لم تكن تمثل إلا مرحلة متقدمة في تاريخه الفني الذي اتجه في نهايته إلى الفن الشعبي، ينهل من معين لا ينضب، كنز يفيض ويتجدد اسمه «التراث الشعبي». بليغ حمدي كان دائماً ما يردد حكمته الفنية، وقانونه الراسخ الذي آمن به طوال عمره، وبامتداد تجربته طولاً وعرضاً، أن «أساسك.. تراثك»، وإذا أردنا أن نصل إلى العالمية في الغناء والموسيقى فلا بد من الرجوع إلى النبع الصافي، النبع المحلي، التراث الموسيقي الشعبي. من هنا كان بليغ حريصاً كل الحرص على أن يستمع إلى الألحان الشعبية والفلكلورية، موسيقى شارع محمد علي، يسمعها مراراً، يحفظها عن ظهر قلب، يدرسها دراسة المتذوق الواعي، ثم يتركها تنساب وتتسرب في الدم تجري في العروق والشرايين، تصير جزءاً من أنفاسه، لتظهر بعد ذلك في ألحانه وإبداعه الموسيقي، لكن بعد إحالتها إلى شيء آخر، مبدع، جديد، لا يشبه الأصل المأخوذ عنه، لكن لا تستطيع أن تقول إنه منزوع النسب والسبب به. تتجلى هذه الألحان الشعبية بشكل مباشر أو غير مباشر في نغماته، وحتى الجمل الموسيقية كان يلعب تنويعات عليها لتكون هي موسيقى اللزمات في الأغنيات التي يلحنها. وكثيرا جداً ما قدم بليغ حمدي ألحاناً تتضمن جملاً فلكلورية مباشرة مثل رائعته التي لحنها لشادية «آه يا اسمراني اللون.. حبيبي يا اسمراني»، و«قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لاحسن حبيب القلب صابح ماشي» أو كما في «إن لقاكم حبيبي سلمولي عليه»، أو في «ميتا أشوفك يا غايب عن عيني»، أو في «ما رمانا الهوى ونعسنا.. واللي شبكنا يخلصنا». ولفرط بساطتها وعذوبتها ومحاكاتها للفن الشعبي الأصيل، كان جمهور المستمعين في أوقات كثيرة يحسب أن الألحان المبدعة المبتكرة التي يقدمها بليغ «فلكلوراً خالصاً»، ظهر ذلك في ألحانه الشهيرة لأغنيات «عدوية»، «يا غزال يا اسكندراني»، و«الهوا هوايا».. وغيرها كثير. أحلف بسماها وبترابها من المعروف أن عبدالحليم كان يبدأ حفلاته بعد هزيمة 67 وقبل حرب أكتوبر 73 بأغنية «أحلف بسماها وبترابها» كلمات عبدالرحمن الأبنودي، وألحان كمال الطويل. بعد الحرب، استمر عبدالحليم في غنائها، وأضاف إليها الأغنية الجديدة «عاش اللي قال». لم يذكر اسم الرئيس الراحل أنور السادات في كلمات الأغنية، وإن كانت تقصده بالطبع، وكان بليغ لا يحب أن يلحن أغنية مخصوصة عن شخص أو رئيس بعينه، رغم أن السادات كان يحبه كثيراً، بل إن أدعية النقشبندي العظيمة لحّنها بليغ بطلب مباشر من السادات. يعتبر كثير من الموسيقيين، مؤرخين ونقاداً، أن موسيقى بليغ حمدي تقع ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، لكننا يمكننا اعتبار الإسهام الأساسي الذي قدمه بليغ في الموسيقى هو إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وشادية، وغيرهم، كما اشتهر بليغ بسهولة وبساطة ألحانه الأمر الذي يجعل أي متذوق للموسيقى قادراً على التفرقة بين موسيقاه وأي موسيقى أخرى يسمعها. تتميز ألحان بليغ حمدي بمعادلة غريبة، سهلة وممتنعة في الوقت ذاته، فهي غير مُتَشابهة وليست مُكَرَّرَة بجُمَلِها الموسيقية، ولكنها تحمل بين نغماتها نكهة واحدة سرعان ما يدرك سامِعها الواعي أنها خرجت من مدرسة بليغ حمدي. وكانت ألحان بليغ واقعية إذا جاز التعبير ومتأثرة بالتراث الشعبي، بل يمكن القول إنها تأتي من نفس النبع الذي خرجت منه ألحان سيد درويش، وسيتضح ذلك أكثر في مراحل بليغ التالية، حيث توجه إلى الفلكلور الشعبي والأوبريت الغنائي، وهذه مدرسة سيد درويش، الأمر الذي يؤكد أن بليغ ما هو إلا امتداد مباشر لسيد درويش، دون أن ننكر عليه تأثره بمدرسة محمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وغيرهم من كبار ملحني المدرسة المصرية الخالصة في التلحين الموسيقي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©