الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

داخل كواليس وزارة الصحة

داخل كواليس وزارة الصحة
30 ديسمبر 2009 21:20
جميلة كانت الأيام الأولى في الإمارات، مع رعيل من الرواد كانوا نعم الإخوة والأصدقاء. يعملون في مختلف المجالات، ويلتقون بعد العمل أو خلاله وكأنهم أفراد أسرة واحدة. ورغم أنني بدأت في الإعلام، وبالتحديد في إذاعة أبوظبي إلا أن الصداقات التي كونتها امتدت لتشمل الإخوة في مختلف الوزارات والدوائر والشركات. كانت وزارة الصحة في ذلك الزمن خلية عمل نشيطة، وكنت على علاقة بكافة العاملين فيها بدءا من وزير الصحة آنذاك سمو الشيخ سيف بن محمد آل نهيان وانتهاء بعاملة البدالة السيدة عفاف، لا أدري أين هي الآن، ولكن لا يزال صوتها ولهجتها الفلسطينية المميزة يرن في سمعي رغم مضي السنوات. ولم تكن وراء تلك العلاقات التي جمعتني مع الجميع أي غايات أو أهداف محددة، ولكن لأن العدد كان قليلا ولأن الأطباء التابعين لوزارة الصحة كانوا محدودين فإنني وبحكم المراجعة الطبية تعرفت عليهم جميعا وما زلت أذكر منهم الدكتور محمود عبد الوهاب والدكتور إبراهيم رباح والدكتور صلاح جادو، والدكتور عبد الكريم الرمحي، والدكتور أحمد محمود، والدكتور توماس في العين والدكتور مدحت عفيفي، والدكتور نبيل أباظة، والدكتور محمود الشيخ والدكتور عبد الله عزام. الطبيب العبقري ولكنني لا أذكر اسم الطبيب الآسيوي، الذي كنت حريصا على جعله طبيب العائلة، وتفضيله على الجميع ولم أكن الوحيد الذي فعل ذلك. بل استطاع ذلك الطبيب أن يحصل على ثقة واهتمام علية القوم في ذلك الزمن، فلا يمرض أحدهم أو أي فرد من عائلاتهم إلا وذهب إلى ذلك الطبيب ليعالج. عمت شهرة ذلك الطبيب وتعددت الحكايات التي تدل على عبقريته وتمكنه من مهنة الطب، كما أن تلك الحكايات لم تنس دماثة خلقه، وتعففه عن قبول الهدايا وتودده إلى الجميع. وفجأة، في يوم من الأيام، صدمنا جميعا أن ذلك الطبيب رحل وغادر أبوظبي ومنع من العودة إليها. لماذا؟ ما الذي حدث؟ وكانت الإجابة زلزالا حل علينا جميعا خصوصا نحن الذين كان لنا حظوة عنده وكان يقوم بعلاجنا وعلاج جميع أفراد أسرنا. لقد اكتشفت وزارة الصحة أن شهادة ذلك الطبيب مزورة وأنه كان طالبا في كلية الطب فعلا ولكنه فشل في السنة الثالثة وطرد من الكلية فما كان منه إلا أن قام بتزوير شهادته الجامعية وجاء إلى أبوظبي ليعمل طبيبا عاما ومر من لجنة الفحص بنجاح وحقق النجاح الأكبر في عمله إلى أن عمت شهرته جميع المواطنين والوافدين في ذلك الزمن. طبيب القنص ذكرتني هذه الحكاية بالهواية التي كنت أمارسها أثناء رحلات القنص مع معالي الدكتور مانع العتيبة. فأنا رغم الاتجاه الأدبي لدراستي الثانوية إلا أنني كنت مغرما بالموضوعات الطبية وخاصة موضوع الأدوية، حيث لم أكن أتناول أي دواء دون أن أقرأ النشرة المرافقة له، فأعرف مفعوله ولأي غرض يستخدم وماهي الأدوية المضادة للحساسية، أوالمضادات الحيوية أو مضادات الالتهاب والإسهال والإمساك إلخ... ولعل هذه المعلومات التي تجمعت لدي هي التي رشحتني لأمارس دور الطبيب أثناء رحلات القنص، حيث كانت لدي حقيبة مليئة بالأدوية التي كنت أطلبها من صيدلية المستشفى لهذا الغرض بعد أن يقوم أحد الأطباء بوصفها لي وكتابة مفعولها على علبتها. وحينما كان أي مرافق لنا في رحلة القنص يتعرض لأي وعكة صحية كنت أقوم بدور الطبيب فأعطيه الدواء الذي يحتاجه وحصلت على لقب دكتور في ذلك الزمن بكل سهولة ودون أي تعب. كان راتب الطبيب في ذلك الزمن يعتبر الأعلى بين الرواتب كما كان السكن الذي يحصلون عليه مميزا، حيث كان كل طبيب يحصل على فيلا خاصة، بينما نحن الموظفين العاديين نحصل فقط على الشقق في العمارات. وكانت فلل الأطباء في منطقة قريبة من المستشفى المركزي، ولم يزد عددها عن خمس عشرة فيلا، وكذلك الأطباء كانوا أقل من خمسة عشر طبيبا. عندما كنا نزور الأطباء في فللهم كانت تبدو لنا تلك الفلل وكأنها قصور صغيرة، فهي واسعة ومفروشة بأجمل وأفخم الأثاث ولا عيب فيها إلا تلك المكيفات المعلقة في الجدران والتي كانت تهدر طوال الليل والنهار وكأنها طائرات هليوكبتر تشتغل محركاتها ولكن لا تطير. كان لهؤلاء الأطباء الرواد فضل كبير لا يمكن أن ينسى رغم تطور العمل الصحي فيما بعد. لا يمكن أن أنسى مثلا أن طبيبا مثل الدكتور أحمد محمود قام باستئصال اللوز لجميع أولادي، ولم يقصر مقصه حتى معي، فقد قام باستئصال اللحمية من أنفي. كان أولئك الأطباء في ذلك الزمن يقومون برعايتنا صحيا، يسهرون الليالي الطويلة ويبذلون الجهود الكبيرة لإنقاذ الحياة أو تخفيف الألم. ورغم أنهم غير ملزمين بزيارة المرضى في بيوتهم إلا أنهم كانوا يفعلون ذلك عندما نتصل بهم ونطلب منهم الحضور لمعاينة مريض يجد صعوبة في الوصول إليهم. وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تكون هناك زيارات عائلية بيننا وبينهم. رعاية في الخارج والذي يجب أن يسجل بحروف من نور هنا أن حكومة أبوظبي وبتوجيهات من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان”رحمه الله” وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة “حفظه الله “ كانت تقوم بإرسال المواطنين والوافدين العاملين في أبوظبي إلى الخارج للعلاج. أنا شخصيا استفدت من هذه المكرمة حينما أرسلتني وزارة الصحة مع زوجتي لمرافقة ولدي رامي وكان في ذلك الوقت في الثالثة من عمره إلى لندن للعلاج. ووجدنا السفارة هناك تستقبلنا، وتوفر لنا المسكن في أحد الفنادق الممتازة وترسل لنا مرافقا ليرشدنا إلى المستشفى وليقدمنا للطبيب المعالج. وكان القسم الصحي في السفارة يقدم لنا بالإضافة إلى ذلك المبالغ النقدية التي نحتاجها كمصروف خلال تواجدنا في لندن، ولم تكن هناك تفرقة بين المواطن وغير المواطن، فالرعاية الصحية شاملة والاهتمام كان رائعا. ولدت دولة الإمارات على الجود والكرم، فهكذا عاش أبناؤها من قديم الزمان وحتى قبل تدفق النفط وتواجد الثروة. أسجل هنا بكثير من الامتنان، أننا كنا في زمن البدايات نتمتع بالرعاية الصحية الشاملة. منذ عام 1971، قام الدكتور نعمان البنا، وكان لا يزال في مقتبل الشباب وبداية الطريق بإصلاح أحد أسناني، ورغم مضي أكثر من 39 سنة فما زال ذلك السن الذي أصلحه بخير وفي أحسن حال بل أقوى من الأسنان الأخرى. وعندما انتقل الدكتور نعمان البنا للعمل في الشرطة، لم أجد صعوبة في الاستمرار بعلاج أسناني وأسنان أفراد عائلتي عنده باستثناء خاص من قيادة الشرطة. ولم تكن هناك شركات للتأمين الصحي، ولكن حكومة أبوظبي كانت تقوم بذلك الدور الإنساني، فجميع من يتواجد على أرض الإمارات كان له الحق في الرعاية الصحية، ولم يكن المستشفى المركزي في أبوظبي يسأل المريض عن هويته أو أين يعمل، بل كان العلاج يتم دون مقابل وتقوم صيدلية المستشفى بصرف الدواء الموصوف للمريض بدون أي مقابل ومهما بلغ ثمن ذلك الدواء. بل إن الاهتمام بالرعاية الصحية وصل إلى حد إنشاء قسم خاص بالصحة المدرسية حيث يهتم أطباء وطبيبات هذا القسم برعاية الطلاب والطالبات صحيا وبشكل يومي، ومن مديري هذا القسم ما زلت أذكر الدكتور عبد الكريم الرمحي. كذلك اهتمت حكومة أبوظبي بالطب الوقائي، لفحص جميع الوافدين إلى أبوظبي والتأكد من خلوهم من الأمراض ومن مديري هذا القسم كان الدكتور البلاسي الذي لا يمكن لأحد أن ينسى الجهد الذي قدمه مع الأطباء العاملين معه في ذلك القسم المهم والذي تطور الآن ليصبح صمام الأمان صحيا للدولة كلها. إن النهضة الصحية القائمة الآن في دولة الإمارات العربية المتحدة تدين بالفضل لأولئك الرواد الذين لن تنساهم دولة الإمارات، ولن تنسى أنهم كانوا شموعا تحترق لإنارة ليل الإمارات ولرسم ابتسامات الصحة والعافية على وجوه جميع المواطنين والوافدين في ذلك الزمن الجميل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©