السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عاصفة ماركيز».. وعواصف العراق

«عاصفة ماركيز».. وعواصف العراق
14 مايو 2014 20:57
جاسم العايف هذه لحظة الاعتراف الكبرى والحقيقة التي لا بد من الإقرار بها: فلقد غادر عالمنا الراهن ولحظاته المريرة الساخنة وتغيراته التي طوحت بطموحات وآمال ملايين البشر، من الحفاة والجياع والمهضومين، عبر التاريخ: (غابريل غارسيا ماركيز)، أهم وأصدق شهود الإثبات، على التغيرات العاصفة التي حدثت بعد ربع القرن المنصرم، وهو في مقدمة أرقى صناع الخيال البشري الذي يحدق في الحاضر، دون أن ينسى الماضي ومراراته وخذلاناته التي لا حد لها. توقع غابريل غارسيا ماركيز بأنه سيغادر هذا العالم ولم يكن يحبذ الخلود- الجسدي- كـ (كلكامش) الرافديني الذي لم يقتنع، بداية، بأن الآلهة قد قدرت الموت على البشرية.. واستأثرت، لوحدها، بالحياة الأزلية. رحل صاحب أول (عاصفة للأوراق)، التي تجسد عذاب وغربة الإنسان، في عالم لا يفقه منه شيئاً ما.. غير ما يفرض على الطفل وما يراد منه، عند حضوره مراسم الجنازة. لكن- الطفل- يلاحظ باندهاش وببصيرة حادة ما يحدث بعد رحيل (المجهول).. متسائلاً: هل كان حقاً، هذا المسجى، هو الدكتور؟!. أم هو مَنْ زَيفَ واستبدل كل شيء.. شخصه.. علاقاته السابقة.. ماضيه المجهول.. وحاضره؟. لكنه لم يستطع أن يتغلب على لحظة موته الواقعية.. مع بقاء حذائه وقبعته خارج التابوت؟!. عاصفة متخيلة تبدأ (عاصفة الأوراق) بملاحظات الطفل.. حول ما هو مطلوب منه في لحظة تحقق موت (الدكتور) الذي هبط إلى تلك المنطقة ليكافح.. الموت.. الموت الذي باغتهُ، وتمكن أن يناله بصمت ودون شهود. (الموت)، الذي لا مفر منه، في حياة بشرية طالت أم قصرت: «فمنكم مّنْ يتوفى.. ومنكم مَنْ يرد إلى أرذل العمر.. كي لا يعلم من بعد علم شيئا» (قرآن كريم). «عاصفة الأوراق» الرمزية أو الفعلية تتحدث عن شخص واسم - ربما- منتحل.. أو متخيل.. ولكنه قد بات متحققاً عبر الموت. فالموت، عادة، مباغت..وغير مرغوب به.. لكنه عندما يحصل، ذات لحظة ما، ويؤدي مهمته ويرحل.. يترك خلفه شيئاً واقعياً اسمه (جثة). وعن تلك الجثة يقول الكولونيل: «لم أستطع أن أتأكد من أوراقه صحيحة أم لا..»؟!. كما يعلن (الشاهد الحي): «هذا الرجل كان عاش هنا خمس سنوات في هذا البيت»؟!. (عاصفة الأوراق).. مسرحها قرية (ماكوندو) التي خلقها (ماركيز)، كما خلق مدينته - أهم ملهم له في شبابه - (وليم فوكنر) الذي كتب عنه (مفتش) البريد الأميركي العام، في تقرير سري: «هذا المستخدم..لا يصلح لأي شيء.. مهما كان..»؟!. لكنهما: فوكنر أولاً، وكاتب التحقيقات الصحفية، المهملة والمرفوضة بداية، (ماركيز)، اكسبا ما صنعاه، عبر الروي والكلمات والوقائع والتاريخ بأحداثه الفعلية أو المتخيلة، لحماً وشحماً ودماً وهواء، عبر سماتهما الخاصة وقدراتهما الشخصية الفذة.. حياة ووقائع لا تنسى نهائياً. «من أجل دراسة رواية (عاصفة الأوراق)، لا بد من وضع تعريف للفضاء العام الذي تبدو فيه ونحدد الأثر الذي تركه عليها.. والفضاء هو كل هذا الفراغ الهائل الذي يحيط بنا، ويمتد من حولنا مع امتداد مدى أبصارنا ويحدده مستويان هما الأرض والسماء» - (الباحث علاء مشذوب). الواقع المفترض، أو الفعلي، الذي تعيشه (ماكوندو) فضاء مصنوع بمهارة يتسم بكل شيء، مصادفات، خيانات، سرقات، ثأر متواصل، تصورات ترتبط بالواقع المعاش والفظ، والتاريخ وإحباطاته، وثوراته، وضحاياه. أحلام ودماء، وغرباء.. لا أصل لهم ولا سلالات يرتبطون بها تاريخياً..غير التواجد النفعي والذي يفرز الحب الخفي تارة.. والانتقام تارة أخرى. تبدو (ماكوندو)، في بدايات القرن العشرين بعد أن رحلت عنها: «عاصفة الأوراق وتركتها مدينة مهملة، بائسة، مدمرة نفسياً وروحياً. أبناؤها يستبطنهم الحقد والكراهية والدسائس الصغيرة والمؤامرات والتشوهات الخلقية. رحلت العاصفة وتركت المدينة متهالكة الشوارع، خربة، متهدمة البيوت»- (الروائي شاكر الأنباري). عاصفة حقيقية يربط (الأنباري) بين (ماكوندو)، المتخيلة، و(عاصفة الصحراء)، التي حلت بالعراق.. وما تلاها وما نتج عنها من أحداث، ودمار، ووقائع فعلية.. إذ تم تناهب (العراق) ماضياً وحاضراً، بواسطة السياسيين الأفاقين، القادمين على ظهور (الهمرات) ويرافقهم، سقط المتاع، من: «صحافيين مغمورين استلموا رئاسات تحرير صحف ومراكز إعلامية وإذاعات وفضائيات. جلبت كتاباً تخصصوا بجمع الخطب الدينية، والبلاغات القديمة، وأوصاف المراقد والمزارات، تخصصوا بفوائد الصلاة والأدعية والفتاوى وأنواع النكاح. وجلبت منظمات مجتمع مدني تتخصص في كل زاوية من زوايا الحياة، منظمات للمرأة والطفل والمعوق والشهيد والسجين السياسي وضحايا الألغام والطلبة والشعراء الشعبيين والبيئة والأنهار والسماء والغازات السامة والمحامين والضباط القدماء وقتلى الحروب، والتهجير القسري. يستمدون أموالهم من أياد خفية ومنظمات عالمية لا احد يعرف كيف يصلون إليها، ومن فرق جيوش أجنبية ومكاتب إعلامية ودوائر في السفارات وأحزاب ذات اتجاهات دينية وعلمانية يسارية ويمينية، وحركات ذات مصطلحات جديدة على الذائقة الشعبية. منظمات تقيم مؤتمرات في فنادق فاخرة وصالات أعراس وأبهاء لمحافظات ووزارات وأحزاب وفي جوامع وحسينيات وكنائس، من بين قادتها يتم انتخاب زعامات لمناصب في الدولة والأحزاب على هيئة مستشارين، ومدراء عامين، وخبراء في القانون الدولي، ومدراء لهيئات مستقلة وغير مستقلة تتكاثر في حقول الحياة كما لو كانت فطراً نما بعد ليلة ماطرة ». (عاصفة الأوراق)، تبدأ بما تؤكده (انتيغونا) بأن جثمان (بولينيسيس) لن يدفنه احد وإن كل مَنْ تواتيه الجرأة على خرقه.. سيحكم عليه بالموت رمياً بالحجارة. ترى أيشمل هذا الأمر جثمان (العراق) الذي يشرف على لفظ أنفاسه؟!. أم لا يحدث هذا الأمر إلا بعد (حَلّبْ) كل ثرواته المادية؟!. وتدمير بناه ومرتكزاته الروحية؟!. في أغلب ما أشهر (غابريل غارسيا ماكيز) من روايات وقصص قصيرة، وتحقيقات صحفية، ومذكرات شخصية، وحوارات عامة، ينقلنا إلى مدن ومجتمعات، وجماعات تعيش حياتها الراهنة، لكن خيالاتها تنحصر ضمن مأزقها الواقعي - التاريخي وتسعى، بإصرار دائم نحو تذكر تاريخها بقوة وضمن تأويلاتها ووقائعها، الخاصة، والتي لا يرقى بالنسبة إليها الاختلاف وحتى (الشك)، فبحسب (ادوارد سعيد) في (الثقافة والامبريالية) إن تلك: «الاختلافات لا تنحصر في الماضي وأحداثه، وليس على ما جرى فيه، بل تمتد، الاختلافات، لتختبر اللايقين في ما إذا كان ذلك الماضي، ماضياً فعلاً، منتهياً، ومختتماً، أم ما يزال متحققاً ومستمراً..لكن ضمن أشكال، ورؤى، وممارسات متجددة، قد تكون مختلفة في الشكل لكنها متوحدة في المضمون»؟!. (عاصفة الأوراق) تتجه نحو سياحات متعددة في تاريخ وحاضر ومكونات (ماكوندو). يؤكد طفل (العاصفة) في نهاية مراسيم جنازة دكتور مدينة (ماكوندو): «..الأوان قد فات، فقد انتهى الرجال من آخر عمل بقي أمامهم، رفعوا قاماتهم وقد نبتت كعوبهم في ارض الغرفة.. والتابوت يطفو في النور كما لو كانوا يحملون سفينة ميتة وهم في طريقهم إلى دفنها. أقول لنفسي: الآن سوف تشم الكرونات الرائحة.. وعندها سوف تنطلق كلها في وقت واحد...تغرد». قدم المترجم العراقي مصطفى عبود «عاصفة الأوراق» في دمشق عام 1981، ثم توفي ودفن في براغ، منتصف التسعينات. ولم تصلنا إلا في طبعتها الثانية عام 2008 ضمن سلسة (الكتاب للجميع) التي توزع مجاناً، مع صحيفة (المدى).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©