السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحزان شارلي شابلن البعيدة

أحزان شارلي شابلن البعيدة
14 مايو 2014 20:55
لعل الصورة المحفورة في ذاكرتنا عن شارلي شابلن، الفنان العبقري الصامت، والمتكلم في أفلام أخرى، تستحق إعادة تأمل بعد قراءة مذكراته، التي جاءت على شكل اعترافات سلسة في غاية الصدق والعفوية. وإن كان ثمة خيوط رفيعة تفصل بين فن الرواية، والسيرة الذاتية، والمذكرات، فإن مذكرات شابلن بما فيها من حسّ فني رهيف في انتقائية اختيار الأحداث وتضفيرها، شكلت نصاً فنياً انعكس عليه السرد الروائي من جانب الحكايات والوصف، بما يضمن حضور البوح الذاتي في الاعتراف ومواجهة الأنا الأعمق التي حرص شابلن على تقديمها لقارئه. د. لنا عبد الرحمن «كل ما أحتاجه لصناعة كوميديا، متنزه وشرطي وفتاة جميلة». بهذه العبارة أوجز شابلن -الذي أضحك العالم كله- علاقته بالسينما. لقد أدرك هذا الفنان مبكراً جداً أن الصورة لا تحتاج إلى وسطاء كي توصل الابتسامة، وتعبر عن أفكار صاحبها. وفي الزمن الذي نعيشه، الزمن الذي يمكن وسمه بأنه زمن الصورة، نكتشف عبر تأمل بسيط في أعمال شابلن أن عالم الصورة الصامتة الذي صنعه من خياله الخصب يتوازى في قوة تعبيره عن أفكاره مع عالم الصورة الناطقة. الحزن الأول في طفولته، في ذكرياته البعيدة هناك أزهار سوسن، بائعات ورود ذوات وجوه متوردة، حزن غامض، جسر وست منستر، أم تذهب إلى المسرح كل ليلة، جدة نصف غجرية، ووالد سكير وقاس تخلى عن أسرته ومات في منتصف عمره بسبب إدمانه للكحول. يبدأ شارلي شابلن مذكراته بتحديد يوم ميلاده 16 أبريل 1889، في شارع إيست لين في لندن، ويكشف عن ذكريات الطفولة بأنها كانت سعيدة في بيت صغير وأنيق، مع أمه التي تعمل ممثلة في مسارح الفودفيل، تمضي إلى عملها وتترك شارلي وأخيه في سريرهما في رعاية المربية، كان شارلي متيماً بأمه يصفها قائلا بأنها: «ضئيلة الجسم، بيضاء البشرة، ذات شعر بني فاتح وعينين لونهما بنفسجي، وكنا أنا وأخي سيدني نعبدها». لكن هذا الحب الكبير ترتبط به أيضاً لحظة الحزن الأولى في حياة شارلي حين أدرك أن علاقة أمه مع العالم لم تكن على ما يرام، هكذا يكتشف شابلن نزاعات أمه وأبيه في المحاكم، لأن الأب لا ينفق على طفليه، ويكون هذا الحدث منبع ألمه الأول. يقول: «لا أكاد أعي بوجود والد لي، لست أذكر أنه عاش معنا». ربما انطلاقاً من هذا الحدث يقدم شابلن رؤيته لعائلته بأنه لا يستطيع تقييم أفرادها وفق المفاهيم الشائعة، فجدّته نصف الغجرية ضبطها جدّه في أحضان عشيق، وابنتاها الشابتان هجرتا المنزل من أجل المسرح. وأمه فرت في صباها مع لورد كهل إلى جنوب إفريقيا. بداية مؤلمة ومن ضمن أكثر المواقف التي يسردها شابلن، وبدت مبعثاً على الحزن، تتعلق ببدايته مع عالم الفن، فقد كان السبب الرئيسي لانضمامه لهذا العالم إنقاذ أمه التي يحبها حباً جماً من موقف مهين تعرضت له على المسرح. الابن الصغير المختفي خلف الكواليس يشاهد والدته وهي تغني وتمثل في إحدى المسرحيات، لكن صوتها يخونها هذه المرة التي لم تكن الأولى لكنها الخيانة الأكثر قسوة حيث خفت صوتها تدريجياً، وارتفع احتجاج الجمهور وتصفيره واستهزاءه، مما يضطر الأم إلى الانسحاب من المسرح، وفي الكواليس أيضاً تتعرض للوم مدير المسرح الذي يصر على دفع ابنها شارلي للغناء مكانها. هكذا يغني شارلي شابلن على المسرح للمرة الأولى في حياته، وهو في الخامسة من عمره، يصف هذه اللحظة بأسى قائلا: «كانت هذه الليلة أول مرة أظهر فيها على المسرح، وآخر مرة تظهر فيها أمي». تتزايد المآسي في حياة الأسرة، الأم تفقد صوتها، وتخسر عملها، وتصرف ما ادخرته من نقود، ويبدأ مصير العائلة في الانحدار، وتضطر الأم إلى وضع طفليها في ملجأ للأيتام. لكن بما أن لكل شيء ذروته حتى الألم، فإن حياة شابلن المليئة بالتحولات لا تلبث أن تقوده إلى المسرح مرة أخرى، وكانت السعادة المهنية الأولى بالنسبة له أن يتمكن من توقيع عقد للتمثيل على المسرح لمدة عام مقابل أربعة جنيهات أسبوعياً. تستمر النجاحات في حياة شابلن، ويترافق معها أحداث، وظهور شخصيات في عالمه تترك بصمة من الفرح والألم، ويكون التحول الأهم في حياته في انتقاله من المسرح إلى السينما، ومع هذه الخطوة يحدث تطور نفسي مهم في داخله، فقد بدأ يمتلك الثقة بنفسه، يقول : «هكذا نما في نفسي الاعتقاد بأنني أمتلك موهبة الخلق، وأستطيع أن أكتب قصصي بنفسي... بعد أن أصبح عدد الأفلام التي مثلتها خمسة، وتمكنت في بعضها من أن أحشو من عندي لمحة أو لمحتين من التصرفات الكوميدية». لحظة يهرب الوحي يتحدث شابلن في مذكراته عن لحظات هروب الوحي من الفنان، فيعالج الأمر بأن يتمشى في حجرته ذهاباً وإياباً، أو أن يجلس أمام منظر معين لساعات طويلة محاولا أن يقهر ما يواجهه من صعوبات، وكثيراً ما كان يأتيه الحل بعد أن يستبد به اليأس تماماً. يكشف شابلن أيضاً عن النقلات الفنية في حياته، من السينما الصامتة إلى الناطقة، فهو الفنان الوحيد الذي استطاع أن يقدم فيلماً صامتاً ناجحاً، وكان عليه أن يجاري التطور وينتقل إلى استخدام الصوت. في حكاياته نجد مراوحة مستمرة بين الإحساس بالألم الطفولي الأول، والفقر، والخوف من الفشل، وبين الشغف بالفن، والنجاح الباهر، خاصة وأنه وصل للقمة في عمر مبكر وهو في السابعة والعشرين من عمره، وصار من أصحاب الملايين، أصبح مشهوراً وتؤخذ آراؤه على محمل الجد، لكنه في الوقت عينه لم يغير شيئاً من أسلوب حياته، إلا في وقت لاحق حين أحس بضرورة الاستمتاع بما يمتلكه من ملايين، هكذا يصف بسخرية كيف أنه في لحظة معينة توقف أمام معرض لبيع سيارات، وفي دقائق اختار سيارة فاخرة جداً، واشتراها وسط دهشة الجميع لأنه لم يكن يعرف حتى كيف يقيمها، لكنه أراد أن يثبت لنفسه أنه قادر على دفع ما يوازي نصف مليون جنيه استرليني من دون تردد. حياة واحدة تحت عنوان « مع المشاهير» يحكي شابلن عن علاقته بمشاهير عصره، صداقته مع آينشتاين، ولقائه مع ماوتسي تونج، برنارد شو، تشرشل، غاندي، إيزنشتاين، الكاتب هـ.ج. ويلز، المخرج نيجنسكي، الممثلة سارة برنار. وفي رؤية شابلن للفن يرى أن القيمة الحقيقية لأي عمل تكمن في التفاصيل الصادقة التي تقدم روح العصر؛ لأنها من وجهة نظره أكثر صدقاً من كتب التاريخ، ويستدل على كلامه بفيلم إيزنشتاين «إيفان الرهيب» الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويراه قمة في الأفلام التاريخية جميعاً؛ لأنه عالج التاريخ بروح شاعرية، في حين شوّهت كثير من الأفلام الأحداث التاريخية القريبة. ولعل أجمل ما في مذكرات شارلي شابلن، هو وصفه لعلاقته مع زوجته «أونا» التي يرى أنه حقق معها السعادة الكاملة، فمن وجهة نظره أن السعادة الحقيقية في الحب فقط، لذا يختم حكايته بأجمل العبارات التي وصف فيها حياته قائلا: «لقد قال شوبنهاور، إن السعادة حالة سلبية ولكني لا أوافقه؛ فأنا قد عرفت السعادة طوال الأعوام العشرين الماضية، من حظي أنني متزوج من زوجة رائعة، كان بودي لو كتبت المزيد عن ذلك لولا أن الأمر يتعلق بالحب، والحب الكامل هو أجمل النعم لأنه فوق ما يستطيع الإنسان أن يعبر عنه، إن جمال شخصية أونا وعمقها لمصدر إلهام دائم لي وأنا أعيش معها». مذكرات شارلي شابلن فيها من الألم والفرح، والمصادفات، والتعاسات، ومن الصدق، والعمق الإنساني ما تفيض عن تحمله حياة واحدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©