الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آكل الضوء...

آكل الضوء...
15 مايو 2014 01:38
شعر: فيارغو غوافيرا بيكو ترجمة: أحمد فرحات حتى الآن، لا تزال مساحات واسعة جداً من غابات الأمازون المطيرة، موطناً خصوصياً غامضاً لسكان البلاد الأصليين، ممن يسمون خطأً بـ «الهنود الحمر». وهم، عملياً، يتوزعون على أراضي تسع دول أميركية لاتينية اليوم: البرازيل، فنزويلا، كولومبيا، الإكوادور، البيرو، الباراجواي، الأوروغواي، غويانا وسورينام (طبعاً هناك «هنود حمر» في شمال القارة ووسطها). وقد قررت نسبة غير ضئيلة منهم عدم الاندماج الخالص في المجتمعات الحديثة المتولّدة عنها أصلاً، وعن المهاجرين إلى حوض الأمازون من مختلف أصقاع الدنيا منذ قرون، مشكّلين مع الزمن، كتل شعوب تلك الدول القائمة على الخارطة اليوم. وفلسفة هذه الفئة من «الهنود الحمر» تقول إنها راضية بما هي عليه من حياة فطرية بسيطة، حرة وسعيدة، عكس نسق حياة الغزاة البيض، وتشبيكة حضارتهم المعقدة على الجانب الآخر، والتي يرون فيها الجحيم بعينه. هذا على الأقل ما نستشفه من نصوص شعراء «هنود حمر» برازيليين معاصرين، يتحدّرون من أصلاب تلك السلالات، المستمرة منذ 9 آلاف عام في وادي الأمازون، وذلك على الرغم من تناقص أعدادهم، التي كانت بالملايين قبل الإبادات التي مارسها المستعمرون الأوروبيون، على مراحل، بدءا من غزوة كولومبس للقارة الجديدة في العام 1492 وحتى اليوم، حيث لا يزال على عهده، وإن بأساليب مختلفة، نهب ثروات باطن الأرض وظاهرها، وتدمير إنسانها وسائر كائناتها. فبعدما كان عدد «الهنود الحمر»، في البرازيل وحدها، يزيد عن 5 ملايين نسمة قبل الاجتياح الأوروبي القديم للقارة، تناقص هذا العدد الآن إلى حدود 600 ألف نسمة في العام 2003. وهم يتوزعون على 67 قبيلة متفرقة، أكثرها لم يتم الاتصال به حتى الآن. وكان أفتك سلاح استعمله الغازي الأبيض ضد ابن الأرض الأصلي، بالإضافة إلى السيف والبندقية، نشره الأمراض المعدية كالطاعون والملاريا والحصباء والتيفوئيد والزهري (الإيدز)، والتي لم يكن «للهنود الحمر» أي مناعة إزاءها، أو علاجات لها. هذا الأمر الخطير، وغيره الكثير، من دراما وقائع ما آلت إليه حضارة الإنسان الأمازوني الأصلي، عكسه الشاعر «الهندي الأحمر الحديث» في الكثير من تجلياته الشعرية والإنشادية، وإن بتخريج «سحري» فائض، تفعل فيه الأسطورة فعلها الطقسي الفريد والمتعدد المعاني. تراه يدفع عبر قصائده، بأقصى الإمكانيات التناظريّة للمقدس فيه، مُطلقاً في الوقت عينه، انشطار هويته الجذورية، الممزقة أصلاً، في الفضاء العام، وقياس قدرها فيه، وتعيين مهمته المقبلة خلالها. مقطع القول، يتأمل الشاعر «الهندي الأحمر» ملحمة قدره المغدور في مدارات الكون، هكذا بنفس إيمانية شاردة، لكنها متدفقة بالنوستالجيا الآسرة، والتي تقتلع من جحيم أعماقها، أعماقاً جديدة، تظل ترفد الانفعالات اللاواعية فيه، فيصبح إذ ذاك، أمير التقصّيات كلها، وحاصل اقتران الأرض بالسماء. كما يستحيل كل ما يصدر عنه من شعر وغناء، أشبه بشيء يلدغ الروح، فيولّدها من جديد، ليس لديه فقط، وإنما لقارئه أيضاً. لكن من وجهة أخرى، يظل الشاعر «الهندي الأحمر» أيضاً، كائناً قوياً، شرساً حتى المعجزة، أو هو متّحد بها، متغلغلاً بمادتها النارية غير المرئية، على الرغم من تهرؤ شمسه، ورفعه روحه فوق جسده، ووحشة انكساره في عزلته المقيمة. ولكي لا نطيل، يمكننا سرد أسماء شعرية «هندية حمراء» لافتة للغاية، يفرض إبداعها المتجاوز نفسه على حداثتنا الشعرية في العالم كله.. هكذا بهذه اللغة الشعرية الفطرية، الصافية، والمتخلّصة من كل أصباغ التكلف والتصنع. وستظل قصيدتهم في الإجمال، قصيدة ميثولوجيا دهرية متماسكة، ومتجدّدة باستمرار، عبر الزمن. ومن أبرز هذه الأسماء الشعرية: «فيارغو غواخيرا بيكو»، «كينهو كاراموروو»، « أوبيرا جاراه، » إراساما ماناوسا«، إستواردو إيغاسو»،«بيزارو آتا هوالبا»، «أولميدو كوسيو ميراد» وغيرهم.. وغيرهم. وفي الوقت الذي يعيش فيه أغلب هؤلاء الشعراء، من ذوي السحنات البرونزية، في المدن والبلدات الحديثة، التي عمّرها مهاجرون بيض إلى البرازيل، تراهم لا يعدمون عادة التردّد على الأدغال الأمازونية السحيقة، هناك حيث يقبع ما تبقى من قبائل آبائهم وأجدادهم، يقفون على حياتهم البرية، وطرائق عيشهم، وألغاز طقوسهم، ودواعي عزلتهم المتمادية، ثم يقفلون عائدين إلى حيث يقيمون، بخاصة في عواصم ومدن ولايات: «بارا» و«باهيا» و«آمابا» و«رورايما» و«الأمازون» و«ريو دي جانيرو» وغيرها من ولايات إدارية، تؤلف دولة البرازيل العملاقة اليوم (27 ولاية). من جانب آخر، ثمة اتصال مباشر ببعض هؤلاء الشعراء «الهنود الحمر»، يتولاه وبانتظام، نفر من أبناء مهاجرين عرب ولدوا في البرازيل، عاقداً معهم صداقات شعرية، بل اجتماعية وشخصية حميمية للغاية، كالشاعر اللبناني جورج موسى الصارجي (مواليد «ماناوس» أكبر مدينة في ولاية «أمازون» في العام 1943)، الذي كان ولا يزال، يختلط بهؤلاء الشعراء. يتكلم لغاتهم المحلية (خصوصاً لغة «توبي» المطعّمة بشيء من البرتغالية)، ويناقشهم في إبداعاتهم، وهموم حيواتهم، ومتفرّد خصوصياتهم.. يرافقهم حتى في زياراتهم إلى عمق أعماق مجاهل الأمازون، حيث قبائل آبائهم وأجدادهم.. يدخل أكواخ الحفاة وشبه العراة، ويشاطرهم نمط عيشهم البدئي، يأكل من مأكلهم، ويشرب من مشربهم، ويرقص رقصهم، وينشد أناشيدهم، ويتزيّا، حتى بزيّهم التقليدي الصارخ. جمعتني صداقة قوية بالشاعر البرازيلي من أصل لبناني جورج موسى الصارجي، كان سببها الشاعر الصديق جوزيف حرب، والذي رحل عنا قبل أشهر معدودات، تاركاً في القلب غصّات وغصّات. فقد كنا نكثف اللقاءات والمناقشات الشعرية والنقدية والثقافية عموماً، بمجرد مجيء ثالثنا من البرازيل إلى لبنان، حيث كان الأخير يحرص على زيارة بلده الأم، مراراً وتكراراً، حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، شغفاً بأرض آبائه وأجداده، ورغبة منه بتعلّم العربية، ولو بعد فوات الأوان. على أن أخبار الشاعر الصارجي انقطعت حالياً عن أصدقائه، وحتى عن عائلته، وأقرب المقربين إليه، في البرازيل، كما في لبنان، إذ على ما يبدو (بحسب معلومات صديق لبناني مشترك مقيم في ريو دي جانيرو) حسم الرجل خياره بعد تردد طويل، وقرر القطيعة النهائية مع هذا العالم.. عالم الحضارة الحديثة، وناسه القلقين المشاكسين، والالتحاق بالقبائل الأمازونية في أماكنها داخل الأدغال المعزولة، والعيش الفطري الحر، المباشر والسعيد بين ظهرانيها. وجورج الذي كان يجيد إلى جانب البرتغالية، اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فضلاً عن اللغات/ اللهجات لأكثر من قبيلة هندية حمراء: لغة «بانو» لهنود الأرواك، ولغة «شيفاو» لهنود الكاليناوا، ولغة «الكيتشوا» لهنود المرواتو.. إلخ. كان يزوّدنا بقصائد لأصدقائه من الشعراء «الهنود الحمر» البرازيليين، مع تقييم نقدي بالغ النضج لها، وقد نقلها هو بالطبع، إلى اللغة الإنجليزية، كون لغته العربية متواضعة، ولا تؤهله لفعل الترجمة العظيم. هنا قصائد لواحد من كبار شعراء البرازيل المتحدّرين من أصول «هندية حمراء»، ننشرها للمرة الأولى باللغة العربية. اسم هذا الشاعر: «فيارغو غواخيرا بيكو» (1934- 2011) ويؤثر عنه قوله: «البشر في العالم أجمع هم في أعماقهم بدائيون، ولن يتغير هذا الأمر فيهم، مهما تبدّلوا و«تطوروا» على كرّ الأيام». والشاعر «فيارغو» كان أحد الأصدقاء المقربين جداً من الشاعر جورج الصارجي. كلاهما من مدينة «بيليم»، عاصمة ولاية «بارا» الأمازونية، وكانا يلتقيان باستمرار، في مناسبات أدبية واجتماعية وسياسية. يقول جورج في صديقه «الهندي الأحمر»: «إنه كنزي الحي المتحرك.. أشعته دوماً جائعة إلى أشعتي، وأشعتي دوماً جائعة لأشعته». أما الشاعر «فيارغو» فيقول في صديقه جورج: «هو في اعتقادي، المهاجر الوحيد الذي انتمى عضوياً، وعن قناعة ذاتية مطلقة، إلى نسيج مجتمعنا الأمازوني التاريخي، بثقافته وتقاليده البرية المتوارثة. لقد تحوّل جورج فعلاً إلى حفيد رائع لأجدادنا القدامى. ظهرت نفسه قوية في نفوسنا، وحيوية أرواحنا، وقلقنا على المصير.. بات يعكس بقوة أمانتنا، ودقائق أسرارنا، ومرايا قيم فروسيتنا الملغّزة». إبداعياً، ينطلق الشاعر «فيارغو غواخيرا بيكو» من أن الشعر هو «نداء أرواح الأرض إلى الكون، بوصف الأرض أيضاً سماء مضادة».. والشعر كذلك هويته، وخط دفاعه الأخير: «الشعر لغتي، سلاح وجودي، وهويتي، ضد كل من يود اكتساحها». كما أن شعره لا يلهج بقلقه هو فقط، وإنما بقلق الكافة من قبيلته، وأبناء جلدته: «ما أسجله وأنشده من شعر، هو شعر النفس القلقة الواحدة في نفوس كثيرة، مهيضة ومحطمة». بوجيز العبارة، مع قصائد «فيارغو» المترجمة عن الإنجليزية أدناه، نحن أمام شهادات إبداعية حضارية من نوع آخر.. أمام رحيق حقيقي لأرواح معذبة أخرى. وهذا الرحيق، يبقى على سخونته وبساطته، محاطاً بغموض مطلق. شعره، ولا شك، طافح بمزاج حامض، وصدق جارح، يملأ علينا الوعي والحس والغريزة، هكذا دفعة واحدة، فنجد أنفسنا للتو أمام مشهد القصيدة العارية.. القصيدة الماحية لكل البدايات والنهايات.. قصيدة ما وراء الألم والجرح، المشتعلة دوماً ببكارتها الفاتنة. فوق جبال الأنديز كانوا هناك فوق جبال الأنديز يدفنون موتاهم في الهواء الأكثر عذوبة يتقدمهم جدّي الأول «كاكيتا» صارخاً بعد كل جنازة طائرة: اذهبوا في الريح يا أبنائي لتعودوا معها في تسرّب الضوء أكثر إشراقاً ودفق حياة اذهبوا، لا يراكم أحد بعد ذهابكم سوى بصري.. بصري الذي يفتح سماوات أمامكم وسماوات خلفكم.. لتعود بكم بإشارة مني اذهبوا.. بصري منقذ لكم في الرواح وفي الإياب اذهبوا مطمئنين يا موتى رعيتي بصري يسهر عليكم في مرمى أرواحكم إنه قوي، نافذ، معجز، يظل ينقّيه هواء الأنديز ليل نهار بصري حارسكم غير المثقل بضجر المراقبة إنه يتشعّع من ترسيمات عيون الإنكا (1) مموّجةً بأسحار «لوريكوكا»(2)، وقد صاغها جدّي بعيونه الشمسية التي لا تعود ترى ما سواها جدّي «كاكيتا» ليس حاضراً فوق الجبال الآن لكن غيابه بالتأكيد يحققه. جحيم الماء مثل روحي تماماً هو الأمازون غزير ومتفجر بجحيمه المائي الذي لا ينتهي اتساعه المتعالي على السماء المتعالية يا نهراً - بحراً تفرّ منه الأعاصير البيض ولا تهدأ إلا بعد أن تتمادى فراديس أمامه .. فراديس متجدّدة بسكّرها الأخضر وألوانها المتناوبة بلا انقطاع أنا الأمازون الجبّار، في جوفي حيوات كثيرة وحواليّ، وبسببي حيوات أكثر، تتسيّد نفسها تجري، ويجري حولها مريدوها ومُضادّوها أنا الأمازون الفار من نفسه.. والآيب الدائم إليها أنا الأنكا النظيف، اللامع، المسرع، المبطئ، العارض، المتعارض الذي يمسح آخره ما سبقه، وما رافقه.. كل يوم تشدّ الخلائق من علّوها فيه علواً وتغور خصباً في خصب السهول الفيضية المنسرحة عنه. أبناء الأمازون حرب حياة معلّقة في فضاء الكوكب إلى ما لا نهاية هي أضواء الأمازون نظامها الغبطة، وأحشاؤها كل ما يلوح في الهواء لا ينخرط فيها إلا محبّوها القدامى وأولئك الذين يجدّدون معهم هذا الحب من أبنائها السمر، أصحاب السحنات البرونزية ممن يقاومون هذا التضليل الأعمى للغزاة البيض الذين ما انفكوا يشعلون جذوة معارك إبادتنا، حتى في اللجج الحالكة لتشتتنا أيها الغزاة البيض افهموا: أبناء الأمازون لا يريدون حياة خارج فردوسهم لا يريدون سوى زمنهم، هواءهم، طعامهم، شرابهم، أمنهم، أمن أطيارهم، وحيواناتهم، وزواحفهم لا يريدون إلا مسارات طقوس أجدادهم، ودفق صلواتهم، ونقاء حناناتهم.. ينغلقون عليها ويستيقظون منها نحن شعب بلا هموم، فلماذا تزحموننا بالهموم؟ لماذا تسممون أخيلتنا؟ لماذا تستبيحون كنز النار العجائبية في وعائنا؟ لماذا تبعثرون ملحمة انتظام الهندسة المقدسة لسباحة كائناتنا؟! اتركونا وشأننا أيها البيض.. لا تتسللوا إلينا من موج غاباتنا، من غطاء نباتاتنا، من ثقوب هوائنا، من سحائب فرح إيقاعات طبولنا لا نريد البتة، أن نكون مثلكم.. نرفض وباءً حضارتكم العصيّة على أرواحنا أيها الغزاة البيض افهموا: ما يصلنا من السماء غير ما يصلكم «مورونا»، «باستازي»، «شامبيرا»، «هوالاغا»، «دستاكاريخا» «باريكو باكو»، «أباشيتا»، «نيغرو سيموليسو»، «غاندا بيتارا»(3) وسائر روافدنا المائية الأخرى، هي شرايين دمنا الأبيض، تصبّ في الأمازون الذي يصبّ فينا، روافدنا المائية، هي أسطورتنا، ونوازل تمارين أرواحنا الخلاّبة تتكدّس في التفتّحات الكونية، مسيّرة خواص الأجرام السماوية وأنت أيها الغازي الأبيض، لن تدركها لا، ولن ترقى إليها أبداً. المذبحة المرحة في الشمس كل يوم تتجدّد ضحكة جدّي الأول هكذا منذ آلاف الأعوام، وحتى اللحظة أراها ترمقني من بعيد فارتاح إليها وأضحك.. أضحك.. أضحك حتى تصل ضحكتي الشمس مخالطة للتو ضحكة جدي يا لهذه المذبحة المرحة، تطلق سراح زخارفها الذهبية فوق العالم كله وأنا عاشقها.. قلبي شتات عناصرها فلملمي يا حسناء قبيلتي بقع أضوائي واضحكي.. اضحكي.. اضحكي ثم تعاركي بالضحك مع زوبعة ضحكة جدي ولا تخافي يا حسناء قبيلتي من البهوت وأنت أيضاً، ايتها المذبحة الذهبية المرحة لا تجزعي من فم العتمة العريض.. فالقمر، ومنذ آلاف الأعوام، يتولى أمر مهمة ضحكة جدّي الشمسية ويجعلها تصرخ، هكذا بنعومة لامعة فوق غابات الليل الملساء. درس ناجح علّمني جدّي كيف أمضغ روحه وها إني أعلّم أحفادي كيف يمضغون روحي أما لماذا كان هذا الدرس المقدس الموروث؟ فلشيء واحد، هو استقبال الموت بمعادلة مختزلة تقول: الموت هو اللاشيء يقوم فجأة. النار.. النار تشاغلي بتفاصيل جسدي كيفما تشائين أيتها النار. زغردي بسطوعك، توهجي بجنون يطابق السماء بالأرض.. والأرض بالسماء أنا إذن في صراع مفتوح معك أيتها النار صراع يصهل بالفناء في ما بيننا حتى ولو أحرقت بجبروتك كل شيء فيّ فأنا لك.. لأنك أنت هكذا منّي ولذلك لن تقدري عليّ.. أستطيع إطفاءك بلحظة هي لحظة الكفّ عن أن أكون مادتك المجنونة أيتها النار الرائعة أيضاً، على رغم كل ما قلته فانت مدعوة معي الآن لمهمة عاجلة، مهمة مقدسة بظلال تكرارية لا تفقد ذهولها هيّا بنا، إذاً، أيتها الأليفة الغامضة نجلب العدم، ونفعّله عدمياً.. تماماَ كما لو كان كينونياً فمن غير المقبول أبداً ترك العدم ينشغل بعدمه هيا بنا نفجّر فيه مذاق أسرارنا، دبيبنا الحي ونوزع، من هناك، حياة جديدة على الخلائق لا أحد غيرك معي أيتها النار الكونية يجرؤ على تنفيذ مهمة كهذه، بالطبع على وقع طبول أهلي الأبعدين في جبال «باهوروكو»(4) من هناك، حيث أدخلت موسيقاهم البعيدة ذات يوم الزمان في المكان، فصارت أهوالهما مستطابة هيا بنا أيتها النار.. وانتبهي، إن العدم كما تكشفه أنوارك المرآوية هو أيضاً ضمير مغيوب ومجهول ولا يمكن تفتّقه إلا على إيقاعات طبول أهلي الأبعدين في جبال «باهوروكو». نساء جدّي اختارهن جدّي كما يختار قوس قزح ألوانه كل امرأة بلون، وكل لون بطعم وكل طعم له هذيانه الإغرائي متدحرجاً اختار من كل قبيلة امرأة، وكل امرأة تحولت إلى قبيلة فصار جدّي اتحاد قبائل مكتمل بأنوار لا عيب فيها جدّي عاش حياة هانئة حقاً نساؤه يتنافسن على حبّ أنفسهن لأنفسهن.. وحبّهن الخالص له لم يفرّق جدّي بين زوجة وزوجة وسرير وسرير.. وذهول وذهول كان عادلاً بخصبه.. بعشقه المفتوح بفيوضاته الساخنة، المتجددة جدّي تشبيكة حياة لا تعرف متوالياتها أقنعة باهتة متهرّئة.. ولن تعرف. أكل الضوء لأنه لم يأكل إلا من لحم سمك الأمازون ولم يتحلّ إلا بالتوت البري الأمازوني الأحمر منه، والأسود، والأشقر العسلي ولأنه لم يشرب إلا من لؤلؤ الشلال الكبير ولم يتنفس إلا من هواء الغابات المطيرة عاش جدّي 160 عاماً جدّي كان بارعاً بصيد دولفين «البوتو»(5) الوردي اللون، وسللور مياه «ريو سوليموس»(6) كان لا يصطاد إلا حاجته فقط ولا يُقدم على صيد جديد إلا بعد أن تأذن له روح الدولفين الأخير، الذي قدّم نفسه لرماح صيده.. لحم سمك الأمازون دواء سحري لولبي الشفاء كان جدّي يتناوله كأنه يأكل ضوءا يسري فيه فيبيد الضوء المأكول كل الأمراض المترسّبة في أحشائه.. فتنتفض العين، عينه من جديد بالنظر ويزدهر القلب، قلبه بنبض معافى أكثر وتتقوَى الطاقة فيه مندفعة إلى مدى غير مسبوق دولفين «البوتو»، كان يُغوي نساء قبيلتنا قبل أن يُغوي جدّي ليصطاده.. ويتخذه دواء ضوئياً لإطالة العمر. ماناوس مدينة مدن الوادي «ماناوس»(7) تشبه امرأة هي دائماً في صيف الأقاصي عريها أجمل من شمس تلمع في قطرة ماء.. كل يوم تقترب السماء من «ماناوس» تمدّ أنجمها خيوطاً تلتقط أجمل الأرواح لتزهو بها ثانية في الأعالي. رؤية الأنكا أراك تلمع من بعيد أيها الرب الأنكا فأذهب إليك بلا هواجس بلا خوف.. بلا ضفاف تردد لكنك لا تُطعمني سوى الصمت وأنا لا أريد إلا أن آكل ضوءك وأشرب أسرارك يا إلهي هل أنا واقف في نومي؟ لست الخاسر على كل حال فلقد كسبت كثيراُ.. وبات هبوبي يحميني. ظل عين ونار سكينتهم ظل عين ونار.. عميقة كل العمق لكنها ليست ماكرة ولا تؤذي بصمتها المتأهب شعوبنا النهرية قومنا قوم «أوريخودا غينتالاوا»(8) أهل مغامرات الأمازون الأولى.. حاسمون كالضوء عندما يدمّر العتمة دفعة واحدة زوارقهم طويلة بطول الخيال مصنوعة من شجر الجوز.. وشجر الورد لا يسافرون عبرها إلا في زمن طوفان النهر على البحر هكذا بلا خوف.. وبعيون صاعقة تذيب ما يُرى، وما لا يُرى قوم «أوريخودا غينتالاوا»، هم من أمدّوا الأنهار بالينابيع والأشجار بحليب نمائها المكبوت نزقهم شتاء.. وصراخهم غابة إنهم قوم الريح تحت الماء قوم حافة الوجود وإسقاطات سرّ الغيب لنسج إله. مبشرون أيها المبشرون البيض، ارحلوا عن أرضي عن سماوات معتقدي عن صفاء مشهد عيوني اتركوني لطيور أفكاري ونار طقوسي.. وهلاوس آبائي وأجدادي ماذا تريدون مني بعد؟.. المساومة على عظامي؟ على غرامي بغيوم رأسي؟ على مجرد ولادتي على هذه الأرض؟! ماذا تريدون مني بعد؟!! امرأة نحاسية امرأة تنام في الأفق تتدلى روحها منها وتسيل لعاباً على الشمس النحاسية إنها في إيقاع عيني اللحظة وقد تصلّبت صخباً لا يشبهه صخب آخر جميلة، ولحمها نحاسي اللون تلك المرأة، التي قررت من زمان أن تصير محاربة باسم الشمس دفاعاً عن فردوسها المغري ضد الذئاب البيض. السرير الشبكي أم العقارب طلبت مني الليلة ألاّ أنام على الأرض لأنها ستلد الليلة آلاف العقارب السامة وقد يحدث أن يلدغني بعضها فألتوي.. وأموت بنت لي أم العقارب سريراً شبكياً من لحاء الشجر يمتد من قمة «جبل تاريماكو»(9) إلى قمة جبل «هوليكسرا»(10) متأرجحاً هكذا فوق الوادي الأزرق السحيق، قائلة: نم لليلة واحدة، وعد بعدها إلى عادتك في النوم على الأرض، لأن العقارب تكون قد أفرغت سُمّها كله وماتت بقرار صعب، جائر منيّ أم العقارب تحرص عليّ.. تحميني تفتديني حتى بصغارها أم العقارب تحب الليل الجديد بفضائه الليلكي تدعوني لنسهر معاً في أجواء ما تحب ونتحاور.. نتحاور بلغة اللمعان الأسود البريء يا لهذه اللغة المتلألئة، المعتّقة، والتي منها يُطلّ عقلي تائهاً في قلبي المحصّن بالرعش الأبيض أم العقارب وأنا، صرنا لا نقتنص أجمل الليالي المنتشية بأقمارها النادرة فقط وإنما صرنا نغيم في نشوة مفارق أحلامنا التي لم ولن يكرر واحدها الآخر أبداً. موت وحياة متّ البارحة وبدأت روحي تجوب السماء وجدتها مزدحمة للغاية ضجرت على الفور فأنا لا أطيق الزحام قلت للآلهة أعيديني إلى غابة الأمازون حتى، ولو متّ في دنياها كل يوم أعيديني قبل أن يذبل في أمدائي سحر لحن العودة والبرهان.. أعيديني أيتها الآلهة، فقد اشتقت أن تراقصني الشمس.. وأراقصها. هوامش: (1) ملك ملوك «الهنود الحمر»، وقد اتخذوا من اسمه اسماً لإمبراطوريتهم العظيمة التي دمرها الغزاة الإسبان. (2) اسم لبحيرة في جمهورية البيرو حالياً. (3) أسماء لأنهار، وروافد مائية غزيرة تصبّ جميعها في نهر الأمازون. (4) جبال في جغرافيا دولة الدومينيكان حالياً، كان يلجأ إليها «الهنود الحمر» لصدّ الغزاة الإسبان. (5) سمك أمازوني ضخم جداً ومتوحش، لكن لحمه لذيذ ومفيد للأبدان والعقول. (6) اسم لنهر عميق وشفاف للغاية، يصبّ في الأمازون. (7) اسم لأكبر مدينة في ولاية الأمازون حالياً. (8) مدينة ابتلعها طوفان الأمازون منذ قرون. (9) اسم لقمة جبلية أمازونية. (10) اسم لقمة جبلية أمازونية موازية لسابقتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©