الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيديولوجيا الدينية... حين تأكل أبناءها!

28 ديسمبر 2009 20:50
ثلاثة وسبعون عاماً مضت منذ أن ودعت الحروب إلى غير رجعة بلاد درجت ثقافتنا الموروثة على تسميتها بـ"دار الحرب". والآن ينعم الناس في أوروبا وأميركا وأستراليا واليابان وغيرها بالسلام. وها هم الآن يستقبلون العام الجديد بالاحتفالات، والأضواء والوجوه المستبشرة، وابتسامات الرضا وقبلات المحبة، متفائلين بإشراقات المعرفة الإنسانية، وثمار التنمية البشرية، ونتائج الأبحاث العلمية. وفي هذا المضمار تراهم يتوثبون لتصحيح أخطاء السياسات، وتقليم أظافر من يخرج عن الجادة منهم. ومن عجبٍ أن هؤلاء "الأغراب" تصفهم ثقافتنا العربية الإسلامية بـ"الضالين"! فهل ترى يعابثنا شيطان ماكر، بأن يقدم لنا هؤلاء "الضالين الكفار" في هذه الصورة الزاهية، بينما هم يعمهون في الظلمات دون أن نلاحظ؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نستبعد أن يكون ذلك الشيطان قد زوّر رؤيتنا لأنفسنا، حيث يوهمنا بأننا نعيش في "دار السلام"، مقسماً بأننا في عراقنا ولبناننا وفلسطيننا قائمون كالبنيان المرصوص تضامناً ووحدة، وحتى وإن بدا الأمر عكس ذلك أمام عيوننا، فلابد أن يكون العيبُ في عيوننا لا في وجودنا ذاته! بيد أننا نعلم علم اليقين أن مثل هذا الافتراض محض هذيان، فالرصاصة التي تخترق الجمجمة، والقنبلة التي تمزق اللحم وتهشم العظم، ليستا من صنع كائن ميتافيزيقى، ولا هما مجرد تصور، بل هما واقع كثيف صلد لا يُكَذّب. وعلينا إذن إن أردنا مع واقعنا تعاطياً أن نستبعد فكرة الشيطان الماكر، مثلما استبعدها من قبل الفيلسوف ديكارت رائد الشك المنهجي. وعلينا كذلك أن نبادر بالإقرار بأن مصيرنا رهن بما نفعله نحن بأنفسنا، وأن نتقبل الدواء المر المسمى بالديمقراطية، تلك التي تضع على كاهل كل فرد منا مسؤوليته عن مصيره، ومصير شعبه تبعاً لقواعد بشرية خالصة. ويترتب على هذا أن تكون الديمقراطية هي ما يفرق بيننا نحن العرب وبين المجتمعات الغربية (وليس مجرد تسمية بلادنا بديار السلام وبلادهم بديار الحرب)! ولعل أبناء تلك المجتمعات قد رضعوا معنى هذه الديمقراطية مع لبن الأمهات، أما نحن فما زلنا عاجزين حتى الآن، ولأسباب تاريخية واقتصادية وثقافية، عن التعامل معها كفلسفة جديدة، فهي بالنسبة لنا حلٌ "مستورد" ذو طعم غير مألوف، وإن أعلن الجميع عن استعدادهم لتجربته من باب الاستجابة للضغوط الخارجية! فهنالك من الحكام من رأوا أن الانتخابات -وحدها- هي الديمقراطية، فهي غطاء رأس معقول، يمكن تحمل تكلفته "إداريا". ومن المحكومين من توهموا أن غطاء الرأس هذا كافٍ لملء البطون، واستعادة أمجاد الماضي الذهبي، ما دمنا ننتخب بأنفسنا "المستبد العادل"، الذي سيهزم لنا ديار الحرب، ويأتينا -مثل السيد البدوي- بأسرانا معززين مكرمين! وتنطبق بامتياز النظرية ُ السابق عرضها على حركة "حماس" وعلى الجماهير الفلسطينية التي صوتت لصالحها في 2006/1/25 فقد اعتمدت هذه الحركة على الغضب الجماهيري المتصاعد جراء المماطلة الإسرائيلية والأميركية في تنفيذ استحقاقات اتفاقيات "أوسلو". ومع استمرار تدهور الوضع السياسي العام، والفساد المتزايد داخل السلطة الفلسطينية؛ أخذ اليأس بتلابيب تلك الجماهير إلى درجة تصورت معها أن العيش في العالم المعاصر (بكل تعقيداته، ونسبية معاييره) يختلف نوعياً عن بساطة العيش في عوالم التاريخ الماضي بشروطها الواضحة نسبياً، حيث كان العدل والظلم، الصواب والخطأ، القريب والغريب، العدو والصديق، تحدد جميعاً بأحكام شبه مطلقة. ومن هنا فقد وجدت هذه الجماهير نفسها مسوقة للسير وراء تنظيم راديكاليّ ذي بعد واحد يرفع شعارات دينية في جوهرها، لا تكتفي بمقاومة المحتل إلى حد تحرير أرض الوطن، بل تذهب إلى طلب محاربة هذا العدو وحلفائه في كل مكان. ومن هنا فلقد أصرت "حماس" على عدم الاعتراف باتفاقيات "أوسلو"، حتى بعد أن شكلت حكومة وحدة وطنية بالاشتراك مع "فتح" المعترفة بإسرائيل! فكان طبيعياً أن يقودها هذا الموقف الأيديولوجي إلى الانقلاب على السلطة الوطنية بعد أشهر قلائل من اتفاق مكة. ولاسيما بعد أن تبينت أنه لا يمكنها الحصول على الشرعية من الخارج جراء رفضها للقرارات الدولية ذات الصلة، ومن ثم فقد بات واضحاً أمامها أن أية انتخابات قادمة لا ريب ستزيحها عن مجالس الحكم. إن انقلاب "حماس" إذن كان تعبيراً عن نبذ المنظمة لمبدأ أصيل في الديمقراطية، هو مبدأ القبول بتداول السلطة، وقبل ذلك كان الإصرار على وضع المطالب الدينية في تصادم مع قرارات الشرعية الدولية، بما ينم عن عدم الإيمان بحق الشعب في التشريع لنفسه، وبحقه في تغيير ما شرعه حسبما تشير عليه به مصالحه المتغيرةُ في الزمان. منذ صدور وعد بلفور عام 1917 والشعب الفلسطيني يجابه الحركة الصهيونية التي فرضها عليه الاستعمار البريطاني. وبتأسيس إسرائيل صار على هذا الشعب أن يناضل بالأيدي العارية لانتزاع حقه في إقامة دولته المستقلة على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947، وحتى الآن ما زال هذا الهدف قيدَ البحث. بيد أن النضال المستمر أسفر مع ذلك عن اعتراف دولي بالمسألة الفلسطينية لها ممثل شرعي وحيد هو منظمة التحرير الفلسطينية. وبواقع اتفاقيات أوسلو 1993 صار للشعب الفلسطيني سلطة وطنية تمارس صلاحيات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن ناحيتها رأت إسرائيل -لأسباب استراتيجية- أن تنسحب من قطاع غزة، تاركة إياه -بخبث مدروس- ليكون مسرحاً للصراع بين سلطة شرعية (منظمة التحرير) تسعى لإقامة دولة مدنية عصرية وبين حركة "حماس"! وهكذا جاء انقلاب "حماس" ليحول غزة إلى "إمارة إسلامية"، أي نموذجا مصغرا للدولة الدينية العالمية. فكان رد الفعل على هذا المشروع حصاراً دولياً، ليتضاعف بذلك حجم معاناة الشعب الفلسطيني. فهل يفيق مؤيدو الانقلاب -وقد ذهبت السكرةُ وجاءت الفكرةُ- على حقيقة أن الديمقراطية ليست مجرد فوز في الانتخابات وإنما هي ممارسة واقعية محلياً ودولياً، و... بشروط محض دنيوية؟ كاتب وباحث مصري ينشر بترتيب خاص مع خدمة «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©