الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفيلم الملحمي يسهم في رسم تحولات الإنسان والمكان

14 أكتوبر 2008 00:09
تمتزج في فيلم ''حسيبة'' رؤيتا كل من الروائي خيري الذهبي والمخرج ريمون بطرس، لنشاهد النتيجة فيلما يحقق شروط عمل سينمائي ملحمي يتناول جيلا من السوريين في حارة سورية، في مرحلة تاريخية تمتد ما يقارب العقود الثلاثة، ضمن رؤية للتحولات التي عصفت بإنسان المنطقة عموما، فأصابته بالبلادة والبلاهة رغم كل محاولات النهوض· الفيلم الذي انطلق من الرواية التي تحمل الاسم نفسه، ينطلق أيضا من رؤية المخرج صاحب التجربة السينمائية التي تحتفي بالمكان، وتمنحه قدرا من البطولة ليشارك بقية الشخصيات حضورها في العمل السينمائي، وهو القادم مدينة حماة التي رصد بيئتها في فلمين سابقين هما ''الترحال''، و''الطحالب''· ويأتي إنتاج هذا الفيلم في إطار التعاون السينمائي بين المؤسسة العامة للسينما في سوريا ومؤسسة ''موسفيلم'' السينمائية الروسية، ويعرض لأول مرة، حيث يأتي عرضه ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في المهرجان· وكما هي بداية الرواية مكانيا تبدأ من الجبل، تفتح الكاميرا فضاء الفيلم ابتداء على شخصين يهبطان الجبل ويمدان الخطى في الغابات، وصولا إلى الحارة الدمشقية لقديمة، في الحي الذي سنعرف أنه حي القنوات، لنتعرف على الشخصية الأساسية في الفيلم وهي ''حسيبة'' (الفنانة سلاف فواخرجي) عائدة مع والدها صياح (الفنان طلحت حمدي)، حيث كان قد التحق بالثوار الذين كانوا يقاتلون الفرنسيين، ولكن هزيمة الثوار وانفضاضهم يجعل صياح يعود إلى حارته وأهله منكسرا مخذولا، فيقضي فترة من الزمن صامتا لا أحد يدري ما يفكر به حتى يسافر فجأة إلى فلسطين للقتال هناك ولا يعود· لينتهي جيل من أجيال الثورة· في هذا الوقت تكون حسيبة قد تزوجت وأنجبت ابنتها زينب، وبدأت تعمل على استعادة أمجاد عائلة الجوخدار ذات الإرث الراسخ في التجارة، لكنه إرث يتراجع ليصبح مجرد ''دكان'' صغير تحاول حسيبة أن تتمسك به وتعمل على تنميته، ضمن ظروف وتحولات تهز الحارة بما تمثله من قيم وتقاليد، فتنجح حينا، ولكنها تتعرض للهزائم على غير صعيد، منها الاجتماعي والاقتصادي تحديدا· على محور شخصية حسيبة ودورها نجد أنفسنا أمام شخصية مركبة وبسيطة في آن، فهي بسيطة من حيث سلوكها الإنساني مع من حولها وفي طبيعيتها ومدى تحررها، لكنها معقدة من حيث التجربة التي عاشتها والطموحات التي تسعى لتحقيقها والعقبات التي تتصدى لها، فهي في حال من الصراع الدائم مع نفسها ومع العالم من حولها· وقد استطاع المخرج أن يستخلص روح الشخصية وأبرز ملامحها، فقدمها في أداء واقعي محمل بالبعد المأسوي، فهي المرأة القوية التي تكونت طفولتها وشبابها في الجبال ومع الثوار، لكنها حين تجد نفسها في عالم التجارة ستتصرف كتاجرة بلا رحمة ولا قلب، خصوصا في المشاهد التي تصورها وهي تدفع زوجها حمدان لاستغلال الحرب في تحقيق ما يمكن من أرباح من رفع ثمن السكر مثلا· كما أنها لا تتورع عن خوض صراع (ولو خفي) مع ابنتها زينب من أجل العلاقة مع الصحافي فياض الذي يضطر للجوء إلى بيتها هربا من الملاحقة، لكن ابنتها تكسب المعركة وتتزوج فياض، ما يؤجج الصراعات النفسية لدى حسيبة، فتحاول فرض هيمنتها على ابنتها وصهرها، وفي ما بعد على حفيدها الوحيد هشام (تجدر الإشارة إلى أن رواية ''حسيبة'' رغم إمكانية قراءتها مستقلة، هي جزء من ثلاثية ''التحولات'' التي تضم أيضا ''فياض'' و''هشام'')· ستنتهي الحكاية بهزيمة حسيبة وموتها على نافورة البحرة في باحة البيت، وانتهاء ابنتها زينب مخبولة على نول النسيج بعد فقدان زوجها فياض وابنها هشام· هذا السرد الروائي للشخصية نجده في الفيلم وقد تحول سردا بصريا مشهديا ذا أبعاد إنسانية وجمالية خاصة، يكتسب خصوصيته من خصوصية الشخصية أولا، ومن الإمكانيات الفنية التي اشتغل بها المخرج ثانيا، مستغلا المكان وأبعاده، ومفجرا طاقات الممثلين، خصوصا سلاف فواخرجي التي تفوقت في أداء هذه الشخصية المركبة من خلال التنويع في الأداء حسب ما يقتضي الموقف، وذلك دون أن نغمط بقية الممثلين حقهم، مثل سليم صبري، ومانيا النبواني، وطلحت حمدي وماهر صليبي ووفيق الزعيم وزهير رمضان وسواهم، فقد كانوا جميعا على مستوى فني جيد· الفيلم هو كما يمكن القول نشيد لدمشق القديمة وتاريخها وعراقتها، من جهة، وهو من جهة ثانية لا تقل أهمية نشيد للمرأة ودورها في صناعة التاريخ بدلا من التفرج عليه· ففي الفيلم هناك شخصية مهمة مساندة لشخصية حسيبة وربما مناقضة لها في آن هي شخصية ''خالدية''، فهي الأنثى التي جربت العلاقة مع الرجال ووصلت نتيجة قوامها أن المرأة يمكن أن تصنع مصيرها بنفسها· وهناك شخصية زينب التي تتمرد على إرادة حسيبة فتنتهي مجنونة· الشخصيات الذكورية في الرواية ليست بقوة المرأة، فباستثناء ''صياح''، وإلى حد ما ''فياض''، تكاد تغيب سلطة الرجل وحضوره وأهميته· فصياح قاتل الفرنسيين في الجبال ثم ذهب ليقاتل في فلسطين، وفياض قاتل بقلمه في الصحافة ثم اكتشف أن ليس لقلمه مكان يعبر فيه، فذهب إلى فلسطين لكنه عاد واختفى، أما ابنه الطفل هشام فسوف يختفي في ظل علاقة مع أحد المهربين المشبوهين في الحارة· وهكذا نجد شخصيات كثيرة تتحرك في العمل، ونجد المخرج قد استخدم العلاقات بين هذه الشخصيات ليظهر طبيعتها، كما استغل طبيعة المكان وعلاقة كل شخصية به، وهو يرسم معالم المكان وملامحه على نحو جذاب، تساعده في ذلك جماليات المكان نفسه، ليظهر قدرة المشهد البصري على نقل المكان ومشاعر سكان المكان· فنهاية ''خالدية'' تكون بين أزهار الياسمين التي كانت تربيها على الدرج في أصص تنهال عليها في النهاية· أما حسيبة فتنتهي مقتولة بالنافورة في مشهد شديد القسوة، رغم جمال هذا المكان ووظائفه الإيجابية التي يؤديها في حياة أهل البيت، وقد رأينا بعضها في مشاهد جميلة جدا، منها مشهد زينب تستحم في ''البحرة'' شبه عارية في الوقت الذي يختبئ فيه فياض في غرفة علوية في ''الفرنكة''· عناصر وتفاصيل كثيرة تضمنها الشريط السينمائي الذي زادت مدته عن ساعتين، لكن الموت كان هو المهيمن، وكان المخرج يقدم في كل مجلس عزاء مشهدا جديدا من التراث الشامي في التعاطي مع الموت، بالبكاء والغناء والحداء، مستغلا موروثا من الموسيقى الحزينة التي تنبع من هذا المكان وتاريخه العريق· هذا الموت الذي يهيمن على مقاطع مهمة من الفيلم، ويجسده في النهاية موت حسيبة بطريقة تراجيدية، لا يلغي التفاصيل الصغيرة لحياة الحارة وعلاقات أهلها ومعاملاتهم· ندوة الفيلم تناقش وفاء الإخراج للنص في الندوة التي عقدت لمناقشة الفيلم تحدث عدد من النقاد والحضور، فتناولوا جوانب مهمة من إيجابيات الفيلم وسلبياته، ففي البداية تحدث الناقد ناجح حسن (من الأردن) معتبرا أن الفيلم يجسد ملحمة لعائلة موزعة على أجيال، وقد قدمها المخرج بلغة سينمائية مميزة ورصينة من حيث المشهد والصورة والتمثيل· وأشاد ناجح حسن باهتمام المخرج الكبير بالنساء وهو اهتمام لا يلتفت إليه المخرجون الرجال عادة· وتساءل عن مدى التزام المخرج بالنص الروائي وأمانته في تناوله· وهو ما طرحه عدد من الحضور حيث تبدو العلاقة معقدة بين النص الروائي وبين العمل الفني الذي يجسده على الشاشة، إذ يرى البعض أن التزام المخرج بالنص هو أمانة له، فيما يرى آخرون أن الالتزام بالنص هو خيانة له لأن على المخرج أن يقدم رؤيته وإضافته على هذا النص، وهو ما يبرر تحويله من نص مقروء إلى نص بصري مرئي وسمعي ضمن جماليات الفن السابع· وتحدث الناقد المصري كمال رمزي مشيدا بالفيلم ومركزا على الأداء المذهل للممثلة سلاف فواخرجي وتحولات هذا الأداء، وخصوصا في المشهد الذي يعبر عن قمة غضب حسيبة من ابنتها زينب في ليلة زواجها من فياض، وما أظهرته الممثلة من مشاعر الجنون، واعتبر أن الفيلم عبارة عن مرثية لعالم ينهار، وأنه نجح في أمور فنية كثيرة، أما بخصوص المكان وخصوصيته فأشار رمزي إلى جمالياته دون الضرورة للتوقف عند هذه الجماليات· وفي رده على سؤال حول علاقة الفيلم بنصه الروائي قال خيري الذهبي إن المخرج قد التزم بشكل كبير بالنص، لكنه كان يفضل لو أن المخرج اختصر بعض المشاهد، أو لو أنه رسم المشهد الأخير (موت حسيبة) بقدر من الرومانسية· كما تحدث الذهبي عن تعامل المخرج المدهش مع المكان من خلال تجسيده وعدم تزييفه· أما المخرج ريمون بطرس فتحدث قائلا إن رواية خيري هي عمل كبير لا يمكن نقله كما هو إلى الشاشة، وكل ما قام به هو نقل روح النص عبر الصورة واللون والصوت وغيرها من الأدوات· وبالنسبة إلى المكان وجمالياته قال بطرس إنه لم يتعامل مع المكان كما هو، ولم يقم ببناء ديكورات صناعية، بل قام بإعادة بناء المكان القائم من محلات وبيوت في حي القنوات، وأنه قام بزراعة آلاف أشجار الياسمين لتصوير مشاهد الفيلم· وحول تجربته قال إنها يمكن اختزالها في ثلاثة أفلام روائية طوال 32 عاما، مشفوعة بعشق هائل للسينما بعيدا عن الأضواء وعن الإنتاج الكمي، فهو يؤمن بالكيفية والمستوى وليس بالكم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©