السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«حكاية غنجي».. أوّل رواية في التّاريخ

«حكاية غنجي».. أوّل رواية في التّاريخ
18 يوليو 2017 20:24
 بأربعة وخمسين مجلّدا وقرابة ألفي صفحة وثلاثة ملايين من العلامات والرّموز.. يعدّ كتاب «حكاية غنجي»، الذي ألّفته موراساكي شيكيبو منذ ألف سنة، عملا سرديّا باهرا، بل العمل الأهم في تاريخ الأدب الياباني وأوّل عمل روائيّ في التّاريخ. وقد حظي هذا العمل الملحميّ المتفرّد على مرّ العصور، بثناء موصول من قبل العاشقين للأدب، حتّى عدّه البعض «ألف ليلة وليلة اليابان»، لما حفل به من أحداث غرائبيّة فاتنة وأجواء عجائبيّة مدهشة، لم ينقطع سحرها في الشّرق كما في الغرب، إلى غاية اليوم. لقد بدأ العالم يتعرّف على الأدب الياباني في وقت متأخّر، وذلك عبر ترجمة أعماله الكلاسيكيّة، ومنها «حكاية غنجي» التي كتبت في عهد أسرة هييانْ (749-1192) التي عرف النّظام الإمبراطوري خلالها نهضة مشهودة وغير مسبوقة. وكانت مكانة الرّجل في ظلّ ذلك النّظام أرفع من مكانة المرأة، ممّا جعل اليابانيّات يلذن يومذاك بوسائل تعبير أخرى لتسجيل حضورهنّ في البلاط الإمبراطوريّ، فوجدن ضالّتهنّ في ممارسة فنّ الخطّ ونظم الشّعر. وقد انطوت المدوّنات الشّخصيّة لأولئك النّسوة في تلك الفترة، على فيض من الحكايات والقصص التي وجدت طريقها إلى النّشر، حتّى غدت كتاباتهنّ سندنا الأهمّ لمعرفة الكثير من التّفاصيل الدّقيقة عن حياة المجتمع الياباني زمن أسرة هييانْ. وكان الجنس الأدبي الأكثر تبلورا يومذاك، هو ال «موموغاتاري»، وهو عبارة عن سرد روائيّ يتخلّله الشّعر، ويختص بتصوير ما كان يدور في البلاط الملكي، والإفصاح العميق عن مشاعر الشّخصيّات التي كانت موضوع السّرد. وفي ذلك الإطار، سرعان ما عُرفت «حكاية غنجي» في اليابان، لتنتشر بعد ذلك خارج حدود آسيا، وليتمّ أحيانا تعديلها في التّرجمات العديدة التي عرفتها في اللّغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة. فأيّ سرّ يختفي وراء ديمومة هذا العمل الأدبي رغم مرور ألف سنة على تأليفه؟ وأيّة خصائص جعلته يحافظ على إشراقته ووضاءته إلى غاية اليوم؟ لنتصوّر قصّة يتكاثر فيها عدد الشّخصيّات، حدّ أنّه يغدو من المتعذّر تعدادها، حكاية تمتدّ على أكثر من خمسين فصلا تروي أحلام وآمال جيل بأكمله من الرّجال والنّساء، وفي كلّ فصل منها لا ينفكّ نسق الأحداث يتغيّر، لا من حيث المحتوى فحسب، وإنّما من حيث أسلوب الكتابة أيضا، لنتصوّر قصّة تتشعّب فيها الصّياغات والسّياقات، يتداخل فيها النّثر بالشّعر، وتتزايد أحداثها رحابة وتعقيدا حدّ إصابة قارئها بالدّوار. لنتصوّر قصّة كتبتها امرأة منذ ألف سنة، ولا تزال تتبوّأ قمّة الأدب الرّوائي العالمي، ولم يسمع بها غير القليل من النّاس. تلك هي رواية موراساكي شيكيبو أو «حكاية غنجي». موراساكي شيكيبو في يابان القرن الحادي عشر ظهرت «حكاية غنجي» في ظرفيّة خاصّة، كانت عديد الكتب تنشر خلالها غير مرفوقة بهويّة أصحابها، وخاصّة منها القصص المتعلّقة بسيْر الحياة في البلاط الإمبراطوريّ، وهي القصص التي كانت يومها، شديدة الرّواج وكثيرة التّداول بين النّاس. وكانت تلك القصص عامّة ما تسرد بصوت عال في البلاط الإمبراطوري في احتفالات خاصّة. وكان ذلك الأسلوب يبخس في الحقيقة دور المؤلّف، إذ كان أحد المقرّبين من البلاط هو الذي يتوجّه بقراءته مباشرة أمام جمهور الحاضرين، متماهيا مع صاحب النصّ المقروء. لذلك.. لم يكن بوسع الدّارسين الإدلاء برأي قاطع لإثبات أنّ موراساكي شيكيبو هي حقيقة مؤلّفة «حكاية غنجي» أو «الغنجي المونوقاتري». ومن الملاحظ أنّ أسلوب الكتابة يتغيّر في بعض تلك الكتب، ممّا يعني أنّ النصّ الأصليّ قد يكون حظي في الأثناء ببعض الإضافات من قبل كتّاب آخرين أو بعض النّاسخين. أضف إلى ذلك أنّ اسم موراساكي شيكيبو، وكما كان ذلك مألوفا يومذاك، لم يكن سوى كنية لسيّدة من سيّدات البلاط. ولم يكن اختيار ذلك الاسم بالاختيار البريء، طالما أنّ «موراساكي» هو في ذات الوقت اسم لإحدى بطلات الحكاية. وإنّه لمن المحتمل أن يكون ذلك قد ساهم في إسناد تلك الكنية للكاتبة من قبل وسيط يدعى كينتو، وسيط قد يكون قرأ جزءا من عملها الرّوائيّ قبل انتشاره بين النّاس. وموراساكي هو الاسم الشّعريّ المستعار ل»نبتة»، فيما تحيل شيكيبو إلى الوظيفة التّي شغلها والدها في البلاط كرئيس مساعد لديوان الشّعائر الدّينيّة. وإن كانت تلك الكنية قد أطلقت على الكاتبة بعد قراءة أثرها القصصيّ، فإنّ ذلك يترجم عن مدى الأهميّة التي اكتسبتها «حكاية غنجي» في بلاط الإمبراطور فوجيوارا منشيناغا. تكون موراساكي شيكيبو قد ولدت حوالي 973، وقد تزوّجت من فوجيوارا نوبوتاكا حوالي 998، وبعد سنة أنجبت له بنتا، قبل أن تصبح أرملة سنة 1001. وحوالي 1005 أصبحت خليلة الإمبراطور ميشيناغا، ومسخّرة لخدمة ابنته في البلاط. ولم يكن لها دور رسميّ ذا أهميّة، إذ كانت فحسب السيّدة المرافقة لتلك الفتاة ومربّيتها الخاصّة. حينها تفرّغت موراساكي لكتابة «حكاية غنجي». ويوميّاتها التي عثر عليها تشهد على أنّها كانت امرأة دقيقة الملاحظة في رصدها لسيرة الرّجال والنّساء الذين كانوا يتردّدون على مسرح الأحداث في البلاط الملكي. وفي فترة كان فيها تعدّد الزّوجات أمرا مقبولا وساريا في تقاليد المجتمع، ساهم هذا المحيط الحافل بالمكائد في إلهام موراساكي شيكيبو لرسم صور نابضة عن حياة النّاس، وعن طبائعهم وأخلاقهم ونفسيّاتهم داخل البلاط الإمبراطوري. فقامت بتأليف «غنجي مونوقاتاري»، الذي ضمّ قرابة ثلاثمائة شخصيّة، وغدا مذّاك أحد الأعمال الكلاسّيكيّة الجوهريّة في الأدب الياباني. وبوصفها ابنة موظّف امبراطوريّ مثقّف، كانت موراساكي عارفة باللّغات وخاصّة اللّغة الصّينيّة التي كانت محظورة. وقد يسّرت لها تلك المعرفة فرصة للتأمّل عميقا في وضعيّة المرأة، تأمّل نجده مبثوثا في أشعار وفصول بأكملها من «غنجي مونوغاتاري». وترى موراساكي أنّ هذه الرّواية من حيث طبيعتها هي وسيلة تعبير مختلفة عن القصيد الشّفوي أو الغنائي، وأنّ أسلوب صياغتها أنسب لدراسة سلوكيات البشر وتصرّفاتهم، ليكون الانتقال التّصاعدي فيها، من اللّغة المنطوقة إلى اللّغة المكتوبة، أكثر انسجاما. «المونوغاتاري».. جنس  روائيّ ياباني تنتمي «حكاية غنجي» إلى جنس أدبيّخاصّ باليابان يعرف بال «مونوغاتاري»، أو ما يمكن ترجمته بالقصّة. وإن كتبت قرابة مائة قصّة من هذا الصّنف، منذ ظهورها في بداية القرن العاشر، فإنّ أغلبها كان مآله التّلاشي. وأقدم تلك القصص التي ظلّت محفوظة في الذّاكرة إلى اليوم هي «تكيتوري مونوغاتاري»، ذلك العمل الكلاسّيكيّ، الذي ترجمه رونيه سيفّارت إلى الفرنسيّة ب «قاطع شجر الخيزران». تتمثّل المونوغاتاري حينئذ في قصص قصيرة تكاد تكون حقيقيّة، وتبدو أحداثها مستمدّة من الواقع المعيش، هي عبارة عن كتابات نثريّة خياليّة، بعيدة عن كونها مجرّد روايات تختصر سير الحياة في البلاط الملكي. ورونيه سيفّارت ذاته، الذي يعدّ أهمّ ناقل لتلك الأعمال إلى الفرنسيّة، تردّد في الاختيار بين تسميات كثيرة لتلك الكتابات، مثل «القصّة»، «الرواية» و»الحكاية»، وانتهى إلى تخيّر التّسمية الأخيرة للعديد من ال»مونوغاتاري»: «حكاية هوغن»، «حكاية هايجي»، «حكاية هايك»، حكاية هايشو».. و»حكاية غنجي». و لكن أيّ معنى للحكاية عند أدباء اليابان؟ الحكاية.. هي قصّة ذات طابع سرديّ، عامّة ما تتعلّق بمواضيع مألوفة، أو مواضيع راهنة. إنّها أيضا مرادفة في الأدب القروسطي لمعنى القصيد أو الخرافة. وتلك الازدواجيّة بين مفهومي السّرد والشّعر هي التّي تميّز قصص المونوغاتاري، التي تنطوي على صيغ شعريّة مثل «الواكا»، وخاصّة «التّانكا» (الكتابة الشّعريّة السّابقة للهايكو). والحال أنّ «الواكا» كان وسيلة التّواصل المفضّلة في البلاط الإمبراطوري، وتضمّ «حكاية غنجي» ثمانمئة من تلك القصائد. الإصدارات اليابانيّة  لـ «حكاية غنجي» لم يكن من السّهل نشر وتوزيع «حكاية غنجي» في اليابان بالنّظر إلى غياب أيّ مخطوط أصليّ. وكان أقدم مخطوط متاح هو «غنجي مونوقاتاري إيماني» الذي يعود إلى القرن الثّاني عشر. وتطلق عبارة «إيماني» على لفافة تتداخل فيها عناصر سرديّة وأخرى تشكيليّة، على علاقة بمحتوى الكتاب. وكان لا بدّ من انتظار القرن الثّالث عشر، حتّى يتمّ اعتماد إحدى تلك المخطوطات بصفة رسميّة، ألا وهي مخطوطة تايكا، وإن سرقت منه تلك المخطوطة بعد أن فرغ من كتابتها، ولم تتبقّ من الحكاية غير أربعة كتب. غير أنّ ذلك لم يمنع من أن تثير «حكاية غنجي» إعجاب المثّقّفين بها، لتكون محلّ دراسات معمّقة من قبل المحقّقين والأدباء. ويتحدّث رونيه سيفّارت الذي تناولها بتحقيق مفصّل، أنّها كانت موضوع آلاف الدّراسات النّقديّة. وفي حياة موراساكي، غدت «الحكاية» شديدة الرّواج في البلاط الإمبراطوري، بل إنّ روايتها كانت تتمّ بصوت الإمبراطور ميشيناغا ذاته وصوت زوجته. ولا نعلم إن كان المخطوط يومها كان مكتملا، أو أنّه كان يزداد اكتمالا بقدر ما كان يتمّ تداوله داخل البلاط. والعمل الذي كانت ترتبط به حكاية غنجي، هو مؤلّف رسميّ كتب باللّغة الصّينيّة، يصف يابان البدايات، وبيّن الأصول الإلهيّة للأسرة الإمبراطوريّة. ويلمّح ذلك السجلّ التّاريخيّ إلى أنّ المرأة لم تكن تحظى يومها بأيّة مكانة علميّة أو ثقافيّة، لذلك كم يبدو استثنائيّا القبول الذي حظيت به يومها تلك الحكاية لدى عامّة النّاس. وسوف يكون هذا العمل منذ القرن الثّاني عشر محلّ شروح وتأويلات كثيرة، بل ومحاولات تقليد متكرّرة في فترات مختلفة من تاريخ اليابان، ولكنّ الإحاطة بأسراره سوف تظلّ أمرا مستعصيا، لا يطاله غير البحّاثة المتبصّرين. ما حكاية غنجي؟ لقد تحدّثت عنها فيرجينيا وولف بإعجاب كبير، كان ذلك سنة 1929، في محاضرة أبدت فيها وولف أسفها من أن يكون قلّة من النّساء قد كتبن أعمالا أدبيّة: «مساحات غريبة من الصّمت تبدو فاصلة بين حقبة وأخرى. كان ثمّة صوت صاف وجمع قليل من النّساء، جميعهنّ يكتبن الشّعر في جزيرة لسبوس الإغريقيّة، ستّ مائة سنة قبل ميلاد المسيح، ثمّ صمتن. ثمّ كانت السيّدة موراساكي، سيّدة من سيّدات البلاط الإمبراطوريّ في اليابان، التي كتبت حوالي سنة 1000 رواية غاية في الرّوعة..»حكاية غنجي «. وتحدّثت فيرجينيا وولف عن «حكاية غنجي» دون أن تكون قد قرأتها، ولكنّها أرادت بذلك إسداء تحيّة لأحد أصدقائها، أرتور والاي الذي كان قد أصدر يومها باللّغة الإنجليزيّة أوّل ترجمة أوروبيّة لهذا الأثر الأدبيّ الفريد. وكانت فيرجينيا وولف محقّة حين تحدّثت حينها عن رواية مطوّلة (مائة وأربعة لفيفة) وبالغة الرّوعة. والبطل كما يشير العنوان في الإحدى وأربعين فصلا هو غنجي ابن إمبراطور، لم يكن حقيقة اِبنا غير شرعيّ طالما أنّ اليابان كان يجيز يومذاك تعدّد الزّوجات، ولكنّه لم يكن بالأمير الخنوع.  وينبني الكتاب برمّته على مفارقة أنّ غنجي رغم خصاله الاستثنائيّة، لم يتوفّق في أن يكون سيّد نفسه، ولا في لملمة الجراح التي لحقت به، ولا حتّى الابتهاج بنجاحاته. وإنّي لأعتقد أنّ الأمر هو دوما كذلك في النّصوص الأدبيّة الرّفيعة. وقد نعدّد في هذا الخصوص الأمثلة، ولكنّني سوف أقتصر على مثالين فحسب. لقد كان الأمر كذلك مع البطل الفريد الذي لا يقهر.. آخيل: ألم تفتتح ملحمة الإلياذة على مشهد الإذلال الذي ألحقه أغاممنون ب» آخيل Achilles «حين انتزع منه إحدى سباياه، مستفيدا في ذلك من عجزه في تدبير شؤونه. ثمّ.. ألمْ تُختم تلك الملحمة بالتّأكيد على ذلك العجز؟ لقد قتل آخيل هكتور، غير أنّ ذلك النّصر لم يُعِدْ الحياة إلى بتروكل، ولم يتبقّ لـ «آخيل» الذي لا يقهر غير عينيه كي يذرف الدّمع الغزير على فراق صديقه الأثير بتروكل. ولنتفكّر أيضا في حال أوليس، ذلك الإنسان البسيط، المتبصّر والجسور، الذي استطاع بفضل خصاله تخطّي مصاعب مهلكة والبقاء على قيد الحياة. غير أنّه ولئن كان بطلا من أكمل الرّجال، فإنّه سيحتاج مع ذلك إلى عشر سنوات كي يعود أدراجه إلى موطنه.. مدينة إيتاك. وبطريقته الخاصّة، لم يكن بطل موراساكي أقلّ كمالا من أشيل ذو الطّبيعة الإلهيّة، كما لم تعوزه الخصال التي كانت ل «أوليس» ذو الطّبيعة البشريّة. فمثلهما، لم يتمكّن من الإفلات من النّوائب التي كانت تترصّده، ومثلهما كان عليه تحمّل وزر الاِبتلاءات التي كانت تتربّص به، ومثل آخيل وأوليس لم يكن موهوبا لحياة يسيرة ورغيدة. سليل زواج بين الإمبراطور وإحدى محظيّاته، فقَدَ غنجي مرّتين جدوى تلك الولادة الواعدة، طالما أنّه فقد والدته وسنّه لم تتجاوز الثّلاث سنوات، وأنّ والده آثر عدم تسليمه العرش. هكذا نشأ غنجي بقلب خال من المحبّة، وهكذا غدا مقطوعا عن أصله، مجرّدا من إرثه، وبدا وكأنّه بات مبتورا عن اسمه. وسوف تتجلّى آثار تلك المحن في الأحداث التي حفّت بحياته. لقد كان أوّلا دنجوانا: فباستثناء امرأتين رفضنه، استجابت الكثيرات لإغواءاته، فهل سيجلب له ذلك حقيقة السّعادة التي كان ينشد؟ كشخصيّة أوديبيّة، قلب غنجي رأسا على عقب العلاقة بين فَايْدرا وهِيبولّيت، ليقع في غرام آخر زوجات والده، لأنّ من كانوا حوله، أكّدوا على وجود تشابه بينها وأمّه المتوفّاة. ومن تلك العلاقة سينشأ ابن غير شرعيّ، سوف يُعترف به أميرا مرشّحا للجلوس على عرش الإمبراطوريّة. فهل مثّل ذلك فعل رمزيّ عاقب به غنجي دونما إرادة منه، والده الذي تنكّر له وأبعده عن العرش. مهما يكن من أمر، فإنّ الإحساس بالذّنب سوف يفرّق أخيرا بين العاشقين. منبوذا من الإمبراطورة، سيجتذب غنجي إليه ابنة عمّته، فتاة تشبه عمّتها، أي والدته المتوفّاة، وسمّاها موراساكي، وهو اسم نبتة كان يستخلص منها في الاحتفالات الخاصّة صباغا أرجوانيّا أو بنفسجيا. وقد تولّى تربيتها بنفسه، وجعل منها امرأة مثاليّة من حيث أخلاقها وأناقتها ورقّتها. ثمّ.. مثل بيغماليون، مفتتنا بما أبدع، قام بتزوّجها حين غدت مؤهّلة للزّواج، لتكون امرأة حياته. وقد فرّقت بينهما وفاة الإمبراطور العجوز، لأنّ الإمبراطور الذي تولّى العرش من بعده، الأخ غير الشّقيق لغنجي، نزولا عند رغبة والدته ووزيره، قرّر نفي البطل إلى ضفاف البحر الدّخليّ. وبعد تخطّيه تلك المحنة، لا شيء سيعرقل الصعود السّياسي لغنجي، إذا غدا ابنه الذي نشأ خارج العلاقة الزّوجيّة الإمبراطور الثّالث، ووهب العرش إلى غنجي حين علم بسرّ ولادته، غير أنّ غنجي رفض الاستفادة من خطأه القديم، ولكنّه مع ذلك، كان يرحّب بعلامات التّبجيل التي يُخَصّ بها الأباطرة المتنازلون عن الحكم. وقد خلفه ابنه الشّرعيّ، وتزوّجت ابنته الإمبراطور الرّابع. وها هو قد بلغ ذروة المجد، وبات يمتلك كلّ أسباب القوّة. غير أنّ سعادته تلك كانت مهدّدة: فهو لم يعد بوسعه التزوّج مرّة أخرى، وكلّ ارتباط جديد كان يجعل موراساكي بئيسة. وحين استذكر الخطأ الذي ارتكبه تجاه والده، قَبِلَ تبنّي ابنة الأميرة الخائنة، وجعله ابنا له. ومثلما كان في الاضي ابنا مُدمَّرا، فها هو قد غدا الآن أباً مدمّراً، ولن يستسيغ حياته بعد ذلك. وقد جاء موت «موراساكي» بعد ذلك ليجهز عليه. ستتمّ بعد ذلك إثارة موت غنجي، ولكن لا يبدو أنّ موراساكي-شيكيبو قد قامت برواية الأحداث التي حفّت بتلك الوفاة. لعلّها كانت تخشى من النّتائج التي قد يحدثها موتان متقاربان، ولعلّها كانت تريد الإيماء بذلك أنّ موت الأمل هو الموت الوحيد الذي ينبغي أن نخشاه. الفصل الثاني: الخراب هكذا لم تتحدّث موراساكي شيكيبو في الجزء الأوّل من روايتها عن التّسامي الأخلاقي والجمالي لأميرٍ ومحظيّته، ولم تصف السّعادة التي جمعتهما، والتّأثير الذي أصبح لهما، إلاّ لتبرز في الجزء الثّاني بشكل جليّ الخراب المحتوم الذي كان ينتظرهما. غير أنّ الأمور كانت أوشك من ذلك وأكثر دقّة، لأنّ الكمال والسّلطة والسّعادة لم تتحقّق إلاّ بعد سلسلة من الأحزان والإخفاقات والتّضحيات، بل بسبب خطأ أوحد مبرم وسريّ، مخز ولا يغتفر، بشكل جعل الأبطال لا يطمحون إلى أكثر من كمال لا إباء فيه، وملك مجرّد من الوهم، وسعادة هشّة موسومة بإحساس بالذّنب وبالتخلّي، سعادة بات يسري فيها خراب لا رادّ له. إنّ هذه الرّواية ذات الألف صفحة تمّت كتابتها بأيدي خبيرة، ومن أهمّ ما جاء فيها أنّها احتفظت بآثار التّيه الذي أتاح للكاتبة المرور من الفنّ الأكاديميّ، ذلك الفنّ المحدود والمضجر لرَاوِيةٍ، إلى كتابةٍ ذاتيّة مبهرة لروائيّة مكتملة. لقد تمّ استهلال «حكاية غانجي» مثل حكاية خياليّة، باستثناء النّساء الغيورات اللاّتي قمن بمضايقة والدة غنجي حدّ أنّها هلكت همّا وغمّا، وليحظي أولئك النّسوة في النّهاية بالحصانة. وتأتي بعد ذلك عشرات القصص الغراميّة، حيث تحدّثت الكاتبة عن أشباح وهواجس سوف تتخلّص منها بعد ذلك. ثمّ إنّ النّفي في جزيرة أكاشي، كان أشبه ما يكون باختبار مساريّ، لا بالنّسبة لغنجي فحسب، الذي عاد من ذلك النّفي أكثر رشدا، ولكن بالنّسبة للكاتبة أيضا. وبمجرّد أن عادت موراساكي شيكيبو إلى موطنها التزمت بكتابة أدبيّة أدبيّة واقعيّة صارمة. فغدت كتابتها النّثريّة أكثر دقّة، وتحاليلها أكثر عمقا، ورؤيتها أكثر رحابة. وتضافرت في روايتها كلّ أبعاد الكتابة الرّوائيّة، من وصف وقصّ وحوار ومناجاة للذّات وتحليل وأشعار التّانكا، لتشكّل عالما رحيبا، منطقيّا ومربكا. وكانت مصيبة حين أدركت الثلث الأوّل من كتابها، وخصّت بثناء مفصّل الفنّ الرّوائي، وخاصّة فنّها هي، الذي كان صارما، مختزلا ومتّزنا. والحال أنّ هذا الفنّ ارتفع إلى ذرى الرّوعة في الجزء الثّاني من الكتاب، لقد أقدمت موراساكي على بناء رواية هادئة، مظفّرة بتفاصيل دقيقة وتلميحات بالكاد تدرك. فبعد وفاة بطلتها واختفاء بطلها، تخلّت عن ذكر المراسم التي تجري في البلاط وخارجه، لتركّز اهتمامها على الحياة السريّة لعدد محدود من الشّخصيّات، وبدا أسلوبها أكثر اتّساقا مع مقاصد الكتابة الرّوائيّة، فغدت كلّ جملة تولّد لدى القارئ انطباعا ملتبسا وبالغ الوضوح، وإحساسا بوجود أسرار عجيبة لا ينقضي سحرها. وإذا بالقارئ، وهو يتابع السّرد، يجد نفسه معلّقا في وضعيّة غريبة ومدهشة، لأنّه سيخيّل إليه أنّه بصدد فهم ما يقرأ، وأنّ هنالك شيئا ما يتفلّت عن إدراكه. وحتّى الصّياغة التي تتعلّق بالزّمن، فإنّها جاءت مبهرة ومحيّرة. فإذا كان السّرد المتعلّق بمرور السّاعات والأيّام والفصول والسّنوات، شديد التّدقيق، فإنّ هويّة الشّخصيّات لم تكن أبدا ثابتة. وقد استلهمت موراساكي &ndashشيكيبو في هذا الصّدد بعض الأساطير البوذيّة التي كانت تحجر تسمية أيّ شيء من الأشياء، إذ ليست الكائنات عند البوذيّين سوى أرواح مترحّلة لا قدرة لها على الثّبات وعلى الإمساك بالزّمن المتفلّت. وتطلق موراساكي على الشّخصيّات (وعددهم قرابة الثلاثمائة) ألقاباً متغيّرة وقابلة للتّبادل، كما وظائفها التي عامّة ما بدت مؤقّتة، أو أحيانا ما أطلقت عليها أسماء المنازل التي يقيمون فيها ما بين تغريبتين. هكذا فإن مفهوم الكائن بما يعنيه من ثبات، جاء ملتبسا، وكأنّ لسان حال موراساكي يردّد بذلك الأسلوب من السّرد: ألسنا مجرّد «أبناء السّاعة» التي تمرّ؟ ومع ذلك.. فإنّ موراساكي-شيكيبو، وهي تستبق اِستقصاءاتنا الحديثة، كانت قد أدركت جيّدا أنّنا كائنات قد سُطرتْ من قبل وخُتمت أسرارها التي تظلّ منطمرة فينا، والتي نتكتّم عليها ولا نفصح عنها تماما. وعديد الشّخصيّات الذّكوريّة مثل غنجي وابنه غير الشرعيّ (الإمبراطور) وابنه الافتراضيّ «كاورو»، كانوا يعيشون وفق ماضٍ سيظلّ بالنّسبة لهم مبهما، وكانوا يواجهون مآسي قديمة، لم يكونوا هم صانعوها بقدر ما كانوا ضحاياها(...). ولا يزال الجدل قائما حول ما إذا كانت موراساكي قد أتمّت هذه الرّواية، لأنّ الكتاب يتوقّف عند وسط جملة تحمل صورة بلاغيّة معلّقة ومتذبذبة. فهل الموت هو الذي منع موراساكي من إتمام حكايتها؟ أو لعلّها أرادت أن تقول لنا إنّ الحياة تنقضي قبل الإفصاح عن كلّ أسرارها. من هي «شيكيبو»؟ موراساكي شيكيبوولدت نحو 973 ؛ وتـزوّجت من فوجيوارا نوبوتاكا نحو 998، وبعد سنة أنجبت له بنتاً، قبل أن تصبح أرملة سنة 1001. وحوالي 1005 أصبحت خليلة الإمبراطور ميشيناغا، ومسخّرة لخدمة ابنته في البلاط. ولم يكن لها دور رسميّ ذو أهميّة، إذ كانت فحسب السيّدة المرافقة لتلك الفتـاة ومربّيتها الخاصّة، حينها تفرّغت موراساكي لكتابة «حكاية غنجي». ويوميّاتها التي عثر عليها تشهد على أنّها كانت امـرأة دقيقة الملاحظة في رصدها لسيرة الرّجال والنّساء الذين كانوا يتردّدون على مسرح الأحداث في البلاط الملكي. الإمبـراطور.. راوياً للرواية! تثير «حكاية غنجي» إعجاب المثّقّفين بها، لتكون محلّ دراسات معمّقة من قبل المحقّقين والأدباء. ويقول رونيه سيفّارت الذي تناولها بتحقيق مفصّل، إنّها كانت موضوع آلاف الدّراسات النّقديّة. وفي حياة موراساكي، غدت «الحكاية» شديدة الرّواج في البلاط الإمبراطوري، بل إنّ روايتها كانت تتمّ بصوت الإمبـراطور ميشيناغا ذاته وصوت زوجته. ولا نعلم إن كان المخطوط يومها  مكتملًا، أو أنّه كان يزداد اكتمالًا بقدر ما كان يتمّ تداوله داخل البلاط. إنها غاية في الروعة «مساحات غريبة من الصّمت تبدو فاصلة بين حقبة وأخرى. كان ثمّة صوت صاف وجمع قليل من النّساء، جميعهنّ يكتبن الشّعر في جزيرة لسبوس الإغريقيّة، ستّمئة سنة قبل ميلاد المسيح، ثمّ صمتن. ثمّ كانت السيّدة موراساكي، سيّدة من سيّدات البلاط الإمبراطوريّ في اليابان، التي كتبت نحو سنة 1000 رواية غاية في الرّوعة..«حكاية غنجي». فرجينيا وولف «حكاية».. أسرارها عصية العمل الذي كانت ترتبط به حكاية غنجي، هو مؤلّف رسميّ كتب باللّغة الصّينيّة،  يصف يابان البدايات، وبيّن  الأصـول الإلهيّة للأسرة الإمبراطوريّة. ويلمّح ذلك السجلّ التّاريخيّ إلى أنّ  المرأة لم تكن تحظى يومها بأيّة مكانة علميّة أو ثقافيّة؛ لذلك كم يبدو استثنائيّا القبول الذي حظيت به يومها تلك الحكاية لدى عامّة النّاس. وسيكون هذا العمل منذ القرن الثّـاني عشر محلّ شروح وتأويلات كثيرة، بل ومحاولات تقليد متكرّرة في فترات مختلفة من تاريخ اليابان، ولكنّ الإحاطة بأسراره ستظلّ أمراً مستعصياً، لا يطاله غير البحّاثة المتبصّرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©