الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سرديات التجثيث

سرديات التجثيث
18 يوليو 2017 20:24
آمل ألا تكون جنايتي اللغوية الكبرى إن قلت: (التجثيث)، إذ ليس في لسان العرب جثّث تجثيثاً، ولا يقال إذن: جثّثته تجثيثاً، بمعنى صيّرته جثة. كما لا يقال تجثّث تجثّثاً، أي صيّر نفسه جثة، فلكي تصير جثة، لا بد من آخر يقوم بفعل التجثيث. أما القول الشرعي (جثث) ومنه (الجثة) فأدعه لمن يشاء في لسان العرب أو أيّ من أصنائه الميامين. في (التجثيث) يتعلق الأمر بأحوال الجسد بعد الموت، وهو ما بات شاغلاً للرواية العربية بامتياز في السنوات القليلة الأخيرة. ولأن المدونة كبيرة سأكتفي منها هنا بروايتين من الإمارات العربية المتحدة، بعد إيماضات من مصر وتونس ولبنان، بعدما ضاق الواقع بالجثث وكاد الخيال الروائي أن يضيق. إيماضات مصر: في رواية (حذاء فيلليني) لـ«وحيد الطويلة» يخاطب الراوي نفسه بصدد الانتقام من الضابط الذي عذبه في السجن: «لو قتلته مائة مرة لن تمسح خطاياه. ولو ألقيته في نهر بردى سيرفضه. الأنهار لا تحب الجثث. الأنهار تحب الحياة». وفي هذه الرواية المصرية التي تتحدث عن سوريا ما بعد زلزال 2011، يتابع الراوي «مطيع» أن نهر بردى قد جف من كثرة الأجساد التي ألقيت فيه، والأنهار تغضب من الجثث، لأنها تفسد علاقتها بالبشر. مثل هذا الحضور الجزئي أو العابر للتجثيث، ولكن بوزن غير خفيف، يكثر في الرواية العربية المعنية. ومن مثل هذا الحضور، إلى الحضور الكلي، تذهب الإشارة إلى روايات الرعب والروايات البوليسية، والتي يبدو كأنما تتأمم بترات آجاثا كريستي، وفي الذاكرة من ماض بعيد روايتها (جثة في المكتبة)، ولغير كريستي من ماض قريب رواية (جثة في الفندق) لأرنالدور أندرياسون.. ومن الأمثلة العربية حسبي ما أمكنني العبور به تصفحاً: رواية (المشرحة) لـ«عبد الستار حتيتة»، ورواية (الجثة الخامسة) لـ«حسين السيد»، والروايتان من مصر، وفيهما كما في كثير غيرهما مما سنرى، قاسم مشترك أعظم هو غرفة التشريح في مشفى ما، حيث يتوافر طلبة الطب والأطباء والعاملون، وهنا أشير أيضاً إلى رواية (تبليط البحر) لـ«رشيد الضعيف» (لبنان). إيماضات تونس: بإيماضة أكبر أمضي إلى رواية (في مكتبي جثة) لـ«فرج الحوار»، والتي تنادي رواية أجاثا كريستي المذكورة أعلاه، وتبدأ بجثة فريد التوزاني التي (حطت) في مكتب الكاتب عبد الحميد، فحسبها طائراً خرافياً من جنس الرخ أو العنقاء. وقد كتب فرج الحوار في عتبة/&rlm&rlm&rlm صفحة الإهداء: «أن تكون الجثة نقطة الانطلاق معناه أن تكون النهاية فضاء منعتقاً من هاجس التحلل والتلاشي». في تقلبات السرد في هذه الرواية يخرج عبد الحميد بالجثة ليتخلص منها، ويصادف شرطياً يبتزه، ويرمي بالجثة، لكنها تلحق به إذ يعود إلى مكتبه. وحين يجري التحقيق معه يثور السؤال عمن سيصدق أنه من ابتدع هذه الجثة بالكلام، وأنه ليس القاتل. وعلى هذا النحو تصوغ الرواية شهادة جارحة وساخرة على زمننا، ومنه. إيماضات لبنان: للحضور الكلي للتجثيث، أمضي إلى رواية «حارس الموتى» لـ«جورج يرق» (لبنان)، والتي تتمحور حول شخصية الراوي عابر ليطاني الصياد الذي تجرفه الحرب الأهلية اللبنانية في طوفانها، فيتطوع مع مليشيا، ويعمل قناصاً، إلى أن يستقر به المقام حارساً لبرّاد الجثث في المستشفى، ويمقته اللقب الذي يطلقه زملاؤه عليه، وهو ما حملته الرواية عنواناً لها. تدرب الراهبةُ الأخت كريستين الرجل على عمله، مشددة على احترام حرمة الموت ومعاملة (الجثامين) كأن أصحابها أحياء. وتقدم الرواية صورة البراد بجدرانه التي تغير لون دهانها بسبب فرط تنظيف الغرفة بالمبيدات والمواد القاتلة للميكروبات والمزيلة للرائحة، كما تغير لون البلاط بسبب رشه بالأدوية المطهرة المحتوية على مزيج كيماوي قوي. وفي البراد سريران معدنيان على كل منهما جثة ممددة على لوح ستانلس ستيل، لكن الجثث تغطي أرض البراد خلال المعارك وبعد الاقتحامات وتفجيرات المفخخات، والمحرك الذي يبث التبريد قد يتعطل فجأة فتنتفخ الجثة، وما من أحد من قسم الصيانة يجرؤ على دخول البراد. يحلم الحارس عابر ليطاني أنه جثة في البراد، وفي الحلم ينقل جثة عن لوح التبريد ويضع جثته هو مكانها. وتسند الراهبة لزميله روبير حشوه وتنظيفه، لكنه يرى نفسه يحشو جثته بنفسه. وبعد موت زميل آخر بات البراد المكان الوحيد الذي يشعر عابر ليطاني فيه بالأمان، فالموتى يحمونه وقد باتوا رفاق عزلته. وهذا الحارس يعزي ذوي الجثث وينسج الحكايات لهم عنها من خياله، ويعطف على الجثث التي لا يظهر عليها الرغد، على العكس من جثث الأثرياء، مخالفاً بذلك قوانين المستشفى. وتعتوره النيكروفيليا مع جثة شابة. وبينما تعشقه وتبادره زميلته نهلا، يقع هو في هوى الراهبة، متسائلاً عما إذا كان يحب فيها الراهبة التي كانتها أمه قبل أن تحب أباه وتغادر الدير. يشبه عابر ليطاني البراد بمزراب ذهب، فلتنظيف منخري الجثة أجر، ولحلاقة الذقن أجر. ولكثرة ما نظف الحارس أنوفاً وآذاناً من الشعر الزائد، صار ينظر لاشعورياً إلى فتحتي أنف محدثه. كما سرق مرة سترة جلدية جديدة من جثة. واقتلع من جثة ثلاثة أضراس ذهبية، فصار يفتح فم كل جثة منقباً. وفي هذا العالم الغريب: عالم الجثث، تقضّ الأسئلة هذه الشخصية الغريبة: الحارس عابر ليطاني الذي يتخيل الأدمغة لحظة الموت تقذف محتوياتها، والنفوس تلفظ مكنوناتها، لكأن البراد مأوى الجثة ومحرك التفلسف أيضاً. وفي هذا السياق، أشير إلى رواية باتريسياميلو (سارق الجثث) التي ظهرت ترجمتها إلى العربية في السنة الماضية، وأنوّه بسبر رواية جورج يرق للأعماق مما افتقدته الرواية البرازيلية. التجثيث في الرواية الإماراتية: جمال الشحي.. من مفكرة غاسل الموتى:  يفتتح الروايةَ السؤالُ عمن قتل غاسل الموتى إسماعيل، ولماذا لم يدفنه قاتلوه؟ وبهذه البداية تلوح الرواية للبوليسية: «الفاعل مغامر مقامر (...) اللغز ساحر ماكر». وسرعان ما ستتسربل الرواية بالفلسفة، مرخية للخيال والتخييل العنان. عندما اكتُشِفتْ جثة إسماعيل في مسكنه الملحق بالمسجد، كانت قد فاتت على موته بضع ساعات. وبهذا الإخبار ينسحب السارد ليتولى الميت السرد في (سفر الخروج) الذي سيناظره في ختام الرواية (سفر الدخول). وهكذا تكون للرواية بداية ثانية يخرج فيها إسماعيل من جسده، لكأنما خُلق الآن، وهو ماض إلى البرزخ الذي يلتقي فيه الزمان بالمكان، مردداً باللسان الصوفي الشهير: «فأنا الكلّ والكل أنا»، ثم يظهر الطبيب الشرعي إبراهيم الذي يحتفظ بمفكرة الميت، ويسرد قصة حياته، وبخاصة في بيروت زمن الحرب الأهلية.  في عرين الطبيب هو الآن إسماعيل، لا حول له ولا قوة. والعرين هو غرفة التشريح الملحقة بثلاجة صغيرة للموتى، تتسع لأربع جثث، وإلى جانبها مخبر لفحص الجثث. ويبدأ الطبيب بقص الكفن من الأسفل صعوداً، فيعوقه أحياناً جلد الجثة الملتصق بالكفن، فيستعين بأصابعه وبقليل من الماء لفك هذا التلاحم الذي بدا مستعجلاً لكي يصير أبدياً، بحيث لا يفرق بينهما مفرّق إلا (البراد) الذي يمكنه أن يستقبلهما ملتحمين أو متفرقين. وتبدو بقايا خيوط الكفن اللصيقة بالجثة - يكتب الشحي: الجسد الهامد - كأنها لوحة سوريالية قابلة للعرض مرة واحدة. يبلل شعر الجثة يد الطبيب وهو يمرر اليد على وجهها وعينيها المغمضتين، وقد التصقت بقايا خيوط الكفن بأصابعه، فشعر بسكون الموت يخترقه، ونفض يده بشدة. وحين يتولى إسماعيل السرد يبدأ وهو في النعش بشعوره بأن الأموات الذين غسلهم طيلة حياته كغاسل موتى، حاضرون، وهو يتقرى وجوههم، ويتملى أجسادهم، وبينها جسده هو نفسه. وينعطف إسماعيل ببناء الرواية هنا ليسرد قصة أبيه وقصص الموتى التي ترسم قاع المجتمع وتهتك عوراته، كما في قصة سالم المدمن على المخدرات، والذي رُمي في صندوق القمامة. وسيفتح الكلب غطاء الصندوق برأسه، ثم يغطس الرأس ولا يظهر حتى تظهر كف سالم بفم الكلب، فزجره الحارس، فأفلت اليد. ونظر الحارس في الداخل ليشاهد الجسد ينزف من قدميه فقط. وعندما حركه تأكد أن الجثة مدماة الأطراف، وقد سلخت جلدتها من أخمص القدمين. وحين يغسل إسماعيل هذه الجثة يضع الكمامة، فالجثة بعد يوم في القمامة ويومين في الثلاجة، تثلجت، لذلك تقاوم الغسل، فترك الغاسل الماء الساخن يستبيح (البدن)، ويفكك الأطراف المتجمدة، ويخترق الجسد المتيبس. وفي قصة (صديق الرجال) الذي طرده أبوه عندما علم بشذوذه، وقضى بذبحة قلبية، يزيل إسماعيل في غرفة الغسل عن الجثة المكياج والشعر المستعار، فعاد ميتاً بجسد امرأة وجسم رجل. وهكذا لا تفتأ تخييلات الجثة (الجسد - البدن) في رواية جمال الشحي، تتدفق وتفتق، مفجرةً أفكاراً ومشاعر شتّى، منها الرعب والقرف، ومنها الخلق والفناء والبقاء. ميسون صقر: في فمي لؤلؤة: لثراء هذه الرواية، فقد آثرت فيما كتبته عنها (الملحق (8/&rlm&rlm&rlm12/&rlm&rlm&rlm2016) أن أؤجل ما للجثة والتجثيث فيها إلى هذا المقام. ويتعلق الأمر بالغواصين، حيث من يموت في البحر يظل فيه. ويمثل ذلك ما وقع للغواص مرهون حين صادف جثة مثل بالونة في الفضاء، وفي قدميها حبل مربوط بحجر، منفوخة وتتخايل ذهاباً وإياباً. وبالمصادفة خرج مرهون كأنه ميت. وفي نومه تتناهبه ملامسة الجزء الأمامي من الجثة، وكأنما قيدته ولم يستطع منها فكاكاً ولا صراخاً، كلما فتح الماء دخل إلى جوفه، ولم تنفلت الصرخة منه، ثم سقطت سلة المحار وغاص معانقاً الجثة. ومع سقوطه في العمق وهو يحاول الفكاك، أصبح كأنه في معركة مباغتة. وتنفخ الرواية الرعب في هذا المشهد، والرعب لا يغيب عن روايات التجثيث: اهتزت الجثة المنفوخة مأكولة العين، فيما العين الأخرى شاخصة لمرهون، والأنف الذي قضمته الأسماك لم يبقَ منه غير أثر لفجوتين. أما الفم فشبه لحم مهترئ. وقد دفع مرهون الجثة عنه بقوة، فسقطت عنها بقايا اللحم، واندفعت الجثة مع الماء إلى آخر الحبل، ثم عادت بالقوة نفسها إلى مواجهته. ومع سقوط الفم وتناثره ظهرت الأسنان مكشرة. وكاد مرهون أن يقضي لولا أن سحبه عتيبة الغواص إلى أعلى. وفي صعوده تساقط الماء عليه مثل شلال، وهو لا يدري إن كانت شظايا لحم الجثة وفمها المتناثر قد دخلا مع الماء إلى جوفه. لقد غدا كالجثة تحت الماء، وراح يتقيأ علّه يقذف ما بداخله. وفي موضع آخر من الرواية، وفي حوار لمرهون مع صديقه الغواص محمد الشحي، يتماثل له الموتى وهم يدفنون في الجبال، فتظهر بعض عظامهم أو أطرافهم أو أصابعهم أو عيونهم، من بين الصخور والحجارة بعد تطاير الرمال عنها. وكان يرى في الجبال عظام ذئاب وثعالب، وبعض طيور أكلتها الجوارح أو الحيوانات وتناثرت هنا وهناك. وشرح له محمد الشحي أنهم لا يستطيعون الحفر العميق في الجبل، لذا تظل الجثة مدفونة في جزء منها، ونصفها الأعلى بارز، فتوضع فوقه الحجارة والرمل. وحين تأتي الرياح تتطاير الرمال، ويظهر من الجثة جزء، وتغدو شبحاً مرعباً. ما عاد مرهون مرة من غوصه إلا وحمل مع المحار عظاماً، لذا سُمّي حفار قبور. وكلما غاص ظهر له شبح الجثة موصياً: «لا تحكِ لأحد». ويسمع أصواتاً لغواصين ماتوا وغيبهم البحر. ويسمع أصواتاً تخرج من العظام: «لا تخبر أحداً يا مرهون». ويسمع البحر يخبره عن العظام التي يحمل: هذه لأحد الجنود البرتغاليين، وهذه لأحد أجدادك الذين حاربوهم، وهذه لسمك القرش، حتى خيل إليه مرة أن العظام التي لامسها هي عظامه هو بعد موته، والتي ستدفن في البحر الذي خاطبه: ستدفن مثل جدك وستستقر عظامك. ويتواصل هذيانه وهواجسه، وتجعل الرواية البحر يخاطبه: أنا كريم وكبير بكم، وأجسادكم حين تصل إلى بلا أرواحها تظل شجراً مائياً فيّ دون أن أعترض، وأنت مجرد قاطع طريق سمحت له بسرقة بعض لؤلؤ مني. وحين يسأله البحر عن ابن ماجد وعن فاسكو دي جاما، يعلن مرهون معرفته فقط بالغواصين الذين اختطفت أجسادهم أسماك القرش، وظلوا جثثاً تروح وتجيء حتى تصل إلى شاطئ ما، وكم من صياد وجده أهله على الشاطئ! من التجثيث في هذه الرواية أيضاً ما يتعلق بـ«خلفان» الذي اختفى عن السفينة منذ يومين، ورآه مرهون ومحمد الشحي في القاع منفوخاً، ورأسه بلا مخ. ومثل ذلك ما تحكيه الجدة روضة لآمنة من (حكاوي البحر) عن مركب غرقت، وخلّفت جثثاً طافية، لكن أحداً لم يستطع الاقتراب منها، وإذ تسأل آمنة عن دفن الموتى ترد الجدة بأنهم يمكن أن يكونوا في بطن الأسماك والقروش، فزعقت آمنة «يعني السمك اللي نأكله أكل أبوي وإخواني» فتخفف الجدة عنها: «لا، يمكن ابتلعهم الحوت. ما سمعتي عن سيدنا يونس يوم ما ابتلعه الحوت؟». لأن المنجم واحد، لا مناص من تقاطعات أو تفاعلات بين الروايات. فالبراد والمشرحة، مثلاً، فاعلان في روايتي جمال الشحي وجورج يرق، لكن الأهم هو أن الروايات، إذ تمتح من الحرب إلى البحر إلى الموت الطبيعي، ومن الجثة المفردة إلى فعل التجثيث وجمع الجمع: الأجثاث، فإنها تشكّل بالخيال وباللغة، ومرة بعد مرة، أسئلة الجسد والفناء والخلود والعبث والوجود، لتكون للتجثيث، كما هو في الواقع المادي المعيش، أخيولاته، بالأحرى: سردياته. أخيولات التجثيث لأن المنجم واحد، لا مناص من تقاطعات أو تفاعلات بين الروايات. فالبراد والمشرحة، مثلاً، فاعلان في روايتي جمال الشحي وجورج يرق، لكن الأهم هو أن الروايات، إذ تمتح من الحرب إلى البحر إلى الموت الطبيعي، ومن الجثة المفردة إلى فعل التجثيث وجمع الجمع: الأجثاث، فإنها تشكّل بالخيال وباللغة، ومرة بعد مرة، أسئلة الجسد والفناء والخلود والعبث والوجود، لتكون للتجثيث، كما هو في الواقع المادي المعاش، أخيولاته، بالأحرى: سردياته
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©