الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنترنت .. جسرٌ لجيل آخر وعدو لدود للدماغ

الإنترنت .. جسرٌ لجيل آخر وعدو لدود للدماغ
8 يوليو 2010 19:44
عندما كنت أبحث عن عملٍ بعد تخرجي من الجامعة، اشتريت جريدة صنداي نيويورك تايمز وأجريت مسحاً ضوئياً لصفحة الوظائف، وبدأت بوضع الدوائر بقلم أحمر على التوصيفات الوظيفية التي تناسب مؤهلاتي، وأرسلت بعدها سيرتي الذاتية بالبريد العادي وظللت أترقب ورود مكالمة هاتفية على رقم هاتفي الثابت. كان ذلك قبل 11 سنة مضت، وكانت هذه آخر مرة بحثت فيها عن عمل دون استخدام الإنترنت. لدي الآن علاقة وطيدة بمختلف صنوف الآلات التي كان من الصعب تخيل وجودها سنة 1999. أقضي وقتاً طويلاً من يومي في أحد محال الحواسيب وأقوم بإدارة حياتي الشخصية وحياة آخرين عبر الاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة التي ما عدت أجد فكاكاً عنها. فهل غدوت أقل قدرةً على الفهم والاستيعاب مما كنت عليه قبل حصولي على جهاز آي فون وقبل استفادتي من ربط منزلي بالإنترنت لمدة 24 ساعة في اليوم؟ بلى، لست أقل فهماً ولا استيعاباً، بل أشعر أنني أصبحت أسرع، لكن أكثر التهاءً من ذي قبل. ولا أعرف أحداً لا يعاني- مثلما أعاني- من تساهلي وسماحي لنفسي بالاستعانة بالتكنولوجيا بهذا الشكل المفرط والزاحف بشكل يومي. الأماكن الضحلة هذا السؤال المتعلق بتأثير التكنولوجيا على حياتنا المعاصرة هو محور كتابين جديدين يحاولان تحليل مدى هيمنة الإنترنت على حياتنا. هذان الكتابان هما “الفائض المعرفي: الإبداع والسخاء سِمَتَا عصر الإنترنت” للكاتب كلاي شيركي، و”الأماكن الضحلة: ما الذي يفعله الإنترنت بأدمغتنا؟” للكاتب نيكولاس كار، وهما مؤلفان جدليان ومتعارضان في المحتوى والأفكار. فشيركي يقول إن الإنترنت يجعلنا أكثر ذكاءً، في حين يقول كار إنه يجعلنا أكثر غباءً. وعلى الرغم من أن هذا التقديم الاختزالي والسطحي نوعاً ما قد يخدِم تسويق هذين الكتابين، فإنه يُعَدُّ تقديماً هزيلاً للحجج التي ساقها كل مؤلِّف ليُعَضِّدَ فكرة كتابه. وِعاءٌ لتلاقح الأفكار تناول شيركي الإنترنت من منظور اجتماعي شامل، إذ يقول إن الوقت الذي كنا نقضيه بمنتهى السلبية في متابعة ما يعرضه التلفزيون، صرنا نقضيه في الإبحار في شبكة الإنترنت، حيث نتحاور مع بعض ونتبادل الآراء وتتلاقح أفكارُنا. فهذا الكتاب، يقول المؤلَّف، يتحدث عن هذا الوافد الجديد الذي تزامن قدومه مع تزايد الحديث عن طرق سد وقت الفراغ والاهتمام الذي أصبح يحظى به في مجمله. وعند الحديث عما نُنتِجه، يسوق شيركي أمثلة متعددة الأطياف ومتنوعة إلى حد كبير، إذ تشمل صور القطط بتعاليقها غير الملتزمة بالقواعد النحوية، ويوشاهيدي- عبارة عن خدمة إلكترونية أُطلِقت بهدف خدمة مواطني كينيا ومساعدتهم على تتبع حوادث العنف العِرقية واقتفاء آثارها ثم إرسالها عبر الهاتف النقال- والتي أصبحت الآن متعددة التطبيقات وتُستخدم في كل أرجاء العالم. ولا يعني ذلك أن شيركي يدَّعي أن الإنترنت يجعل جميع مستخدميه أكثر إنتاجية بشكل حتمي ومؤكد، وأكثر تحضراً وإحساساً بمختلف ضروب معاناة الناس، بل إنه يبرهن على أن هذا القادم الجديد يعزف على أوتار رغباتنا الداخلية الفطرية، ويدفعنا إلى التعارف على بعضنا البعض وتشاطر الأفكار والآراء من خلال تمكيننا من “التحدث علناً والإسهام بقدراتنا في إفادة الجميع”، وهذه عملية “مختلفة تماماً عما تعودنا عليه، وهو ما يدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم وسائل الإعلام: فهي ليست مجرد شيء نستهلكه، بل إنها شيء نستخدمه”. صديق ودودٌ للمرضى إن أفضل مثال يقدمه شيركي هو موقع Patientslikeme.com الذي يجمع الأفراد الذين يعانون من أمراض مزمنة ويبحثون عن المعلومات والدعم والمؤازرة. فهذا الموقع يتيح للأشخاص الذين يعانون من أمراض نادرة التشخيص تشكيل مجموعات، ومناقشة العلاجات والتحديات والأعراض الجانبية، فيسود بين أعضائه نوعٌ من التعاطف المتبادل والمواساة. ولم تكن هناك قبل ظهور الإنترنت أي طريقة لهؤلاء المرضى للتعارف على حالات بعضهم البعض، كما لم يكن بإمكان الأطباء إيجاد مجموعات من هذا الحجم لإجراء اختبارات سريرية هامة. ويستطيع هؤلاء الأشخاص في الوقت الراهن الاستفادة من الدعم الذي تقدمه هذه التجمعات الإلكترونية، كما يمكن للباحثين بدورهم الاستفادة من هذا العدد الكبير من المرضى الذين يعانون من نفس الأمراض النادرة، والذين لم يسبق لأي فضاءٍ آخر أن أتاح لهم التجمع بهذه الأعداد الكبيرة، وهذا سيساعد أكثر من أي وقت مضى على ابتكار علاجات جديدة. عدُوٌّ لدود للدماغ إذا كان شيركي يدعو في كتابه إلى استخدام جميع الوسائل المتاحة لتحقيق الاستفادة القصوى من الإنترنت باعتبار ذلك السبيل الأمثل للوصول إلى الإنجازات المأمولة وتحقيق التطورات المنشودة، مثل النجاح المشهود الذي حققته بعض المواقع مثل “ويكيبديا” و«بيشنت لايكمي» و«يوشاهيدي»، فإن ما يشغل بال كار ويُقْلِقُه أكثر هو ما يفعله الإنترنت بكل واحد منا على المستوى الفردي، وتأثيره على أدمغتنا التي أصبحت محاصَرة بشكل يثير الشفقة. وأخشى ما يخشاه كار هو أنه رغم أننا نشهد باستمرار تطوير محرِّكات بحث أكثر مهارةً ودِقةً من خلال الإبحار المنتظم في عالم الإنترنت، فإننا نفقد شيئاً فشيئاً القدرة على التركيز والتفكير العميق. وهذا موقف يدعو إلى التوجس والحذر، إذ يقول كار “صار الخبر يخلق في ذهن القارئ تشويشاً أكثر مما كنت أتوقع”، ويضيف “تشير العشرات من الدراسات التي أجراها علماء النفس وعلماء الأعصاب والتربويون ومصممو الشبكات إلى النتيجة ذاتها: عندما نستخدم الإنترنت فإننا ندخل عالماً يُشجِّع على القراءة العابِرة، والتفكير المتعجل الذي تتخلله لحظات كثيرة للترفيه والتسلية، والتعلُّم السطحي”. بل إن للإنترنت دوراً أخطر من ذلك، يضيف الكاتب، يتجلى في ممارسة نوعٍ من الإثارة الحسية والمعرفية- المتكررة والقوية والتفاعلية والمسببة للإدمان- التي تَبَيَّن أنها تؤدي إلى تغيرات ذات وتيرة سريعة على مستوى شِعاب الدماغ ووظائفه. مُشَتِّتٌ ممتازٌ للانتباه يقدم كار في مؤلفه عصارة بحوث مركبَّة توضح مدى تأثير الإنترنت على طريقة بحثنا عن المعلومة والوصول إليها. ويَعتبر الكاتب أن “الإنترنت مصمَّمٌ ليكون نظاماً غير متواتر، فهو اختراعٌ قائمٌ في جزءٍ كبير منه على تشتيت الانتباه”. ولا يخفي الكاتب امتعاضه الشديد من التأثير السلبي الذي أحدثه الإنترنت على مستوى علاقة الإنسان بالقراءة، إذ يقول “في الخيارات التي تبنيناها حول كيفية استخدامنا للإنترنت بشكل شعوري أو لاشعوري، رفضنا التقليد الفكري المتعلق بتركيز الإنسان بشكل منفرد على ما يقرأ، وقد كان ذلك من بين الأخلاقيات التي اكتسبناها فيما مضى من خلال احتكاكنا اليومي بالكتاب”. ويسترسل الكاتب قائلاً “باعتباري إنساناً شديد الولع بالكتب قبل ظهور الإنترنت، لا أملك سوى الاعتراف أنه أضحى من الصعب عليَّ في الوقت الراهن تخصيص وقت للقراءة بشكل جعل معدل قراءتي أقل من أي وقت مضى. وصارت ساعات استخدامي للإنترنت تفوق بكثير الوقت الذي أقضيه في قراءة كتاب ما. إلا أنني ما زلت على الرغم من ذلك قادراً على التركيز على محتوى الكتاب بمجرد البدء في قراءته”. ويخاطِب كار القارئ مُحذِّراً “كن حذراً من تأثير الإنترنت عليك!”. فهو يرى أن كل نقرةٍ على شاشة الحاسوب تجعل قدرة الدماغ ووظائفه تتراجع على نحوٍ ما”. ولا يرى الكاتب واقع الإنترنت سوداوياً في مجمله، بل إنه يحتفي في الوقت نفسه بعدد من الإنجازات والنجاحات التي كان للإنترنت الفضل في تحقيقها، وفي تعزيز عددٍ من القيم الإنسانية الحميدة مثل التعاون والدعم المعنوي والتعاطف الحضاري مع القضايا الإنسانية السامية، بالإضافة إلى الابتكار. فمَن المصيب من هذين الكاتبين؟ أعتقد أن كليهما على صواب. فإذا كان هذان الكتابان يعرضان معادلةً ينبغي حلُّها، فإنه يتعين علينا أن نجيب عن سؤال ما هو مقياس الذكاء الأكثر أهمية بالنسبة لنا لتقييم مدى صحة كل طرحٍ على حدة. هل يتعلق الأمر بتأثير الإنترنت على الناس على المستوى الفردي، أم على المستوى الجماعي؟ أمران أحلاهما مرٌّ خلاصة القول، نحن نشكل جميعاً أحد الجسور الانتقالية إلى جيل آخر. ونحن أيضاً جزءٌ من تجربة ضخمة تُجرى على مستوى واسعٍ ولا ندرك بعد نتيجتها. بيد أنه يبقى لنا ما يكفي من الوعود للإحساس بنوعٍ من الارتياح والتحلي بقدر من المرونة والانفتاح لترك هذه التجارب تمضي قدماً ولو على حساب استنزاف أوقاتنا الثمينة، كما يقول شيركي. ولا بد من الجزم في الوقت ذاته أن كار صائب هو الآخر، فباستخدامنا للإنترنت نقوم بتغيير طريقة عمل أذهاننا وآلية اشتغال وظائف أدمغتنا، شئنا أم أبينا. ومع ذلك فإننا لم نتجاوز بعد تلك العتبة الأولى التي ستكون مُقدِّمةً لتطور عميق وجذري يصعب التنبؤ به. عن “لوس أنجلوس تايمز”
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©