الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الانتداب وبرميل الكتابة ويد الشيطان

الانتداب وبرميل الكتابة ويد الشيطان
7 يوليو 2010 20:35
منذ متى بدأت أعي كأس العالم؟ أظن بأن ذلك حدث مع دخول التلفزيون إلى بيت طفولتي وصباي. أقول ذلك على الرغم من أنني لا أحتفظ بذكريات خاصة حول هذه الكأس من تلك المرحلة، مقارنة مثلاً بمباراة محمد علي كلاي في الملاكمة، والتي استيقظنا منذ الفجر لمتابعتها. لست أنا وحدي، وإنما كل بيوتات الحي. أما ذكرياتي عن كرة القدم فتتعلق بما كان يحدث على الأرض في ذلك الحي: “المديفي” من خورفكان. لعلّ المباراة، أو المباريات التي أثارت مشاعر اللعب في صبانا، فكانت تلك التي تجري بين أفراد من البحرية البريطانية (في وقتها ما زالت بريطانيا العظمى منتدبة ـ لا أعرف من قبل من ـ على ساحل عمان) وشباب حيِّنا في أعالي المديفي، وكنا نحن الصغار نُحيط بالملعب الذي حُدد محيطه بالحصى، وكانت شباكه من “ألياخ” (شباك صيد) قديمة، تحيط به كما تحيط الغربان بامرأة تشوي السمك في الحوش. ولم تكن خورفكان وحدها التي شهدت مثل هذه المباريات بين البحرية البريطانية والأهالي، إذ أن البدايات الأولى لكرة القدم في قرى ساحل الخليج، أو التي كانت بنادر وقرى، حدثت على هذا النحو. بل إن المؤرخين لكرة القدم يكادون يجمعون على أن كرة القدم اختراع بريطاني صرف (وجهة النظر هذه لا يتفق معها الصينيون مثلاً)، ولكن المؤكد أن الامبراطورية البريطانية التي غربت عنها الشمس هي المسؤولة، عبر جنودها ورجال بحريتها الاستعماريين، عن نشر هذه اللعبة الفاتنة في بقاع مختلفة من الأرض. صراعات قيادية ولا يوجد أحد كالأطفال والصغار لديهم الموهبة الفائقة على التمثيل والمحاكاة والتقليد، هكذا وبسرعة نقلنا ذلك النوع من المباريات، إلى داخل الحي، إلى “البراحات” الجوانية منه، خلف المسجد أو إلى جواره، وفي الفضاءات الفارغة بين البيوت. وعلى الرغم من أن صغار ذلك الحي الصغير لم يكونوا كثيرين إلا أن المباراة أول ما تبدأ، تبدأ خارج الملعب. تبدأ من ذلك الصراع الخفي لقيادة الحي وتزعم صغاره. وعلى الرغم من أن الكل لديه رغبة حتى ولو داخلية في هذا “التزعم” الصبياني، إلا أن الأمور في الأخير تستقر على زعامتين متنافستين، والقيادة أبداً للزعيم الذي يسحق الزعيم الآخر. يبدو هذا المخطط وكأنه توصيف للتاريخ السياسي لكثير من مناطق العالم، لكني هنا لا أتحدث إلا عن لعبة صبيانية تشكل بعد ذلك شخصيات أفراد الحي. من هذا المنطلق انقسمنا نحن صغار حي المديفي إلى فريقين نتنافس في الملعب الترابي الذي اخترعناه بجوار المسجد. لن أستطرد هنا في روي كيف أن “حرب السكيك” بين الزعامتين الصبيانتين قد تقمّصت مفردات كرة القدم، وتحكمت في مجريات المباريات، لأن ثمة أمراً جذرياً في حياتي قد حدث بالتحديد هنا. كان قد مرَّ زمن على تعلّقي بالقراءة، سواء في تلك الكتب التي كان يحضرها أبي من أسفاره، أو في الصحف والمجلات والكتب التي أجمعها من قمامة جيراننا المدرسين المصريين أو الشوام، والتي يتخلصون من بعضها خاصة عند إجازاتهم الصيفية. القراءة إذا لم تصحبها الكتابة قد تقود إلى الجنون، القارئ دائماً يتخيل نفسه كاتباً، وإذا لم يستطع أن يكون ما تخيله يتحطم داخله، تماماً كما تتحطم الآبار من الداخل. وعلى ما يبدو فإن ضغط القراءة عليّ، خاصة في تلك السن الصغيرة، جعلني أحوِّل برميل كان بجانب الملعب الذي بجوار المسجد إلى سبورة أكتب عليها جملاً وأبياتاً ركيكة إما في مدح فريقي أو في هجاء الفريق الآخر. ولا شك عندي الآن في أن لذّتي أو شقائي ككاتب بدأ من على ذلك البرميل مع طبشورة بيضاء يصاحبها بعد ذلك “سخام” (فحم) أسود على جدران بيضاء. الشخبطة، يا لعظمة الشخبطات الأولى، إنها تشبه ظهور الملائكة على الأرض، أو لعب الشياطين في رؤوس الشجر. ولأن البرابرة قادمون دوماً. فإن فرق الأحياء المجاورة وقد سمعت بانتصاراتنا المظفرة تريد غزونا، هنا على أرضنا. لا، لن نتيح لهم ذلك، وإذا ما كانوا مُصرين على المعركة فلتحدث هناك في أرضهم. من هنا خرجنا كفريق من حي المديفي، كي نكون “دوليين”، في الأحياء الأخرى. ومن الحي المجاور أخذتنا هذه “الدولية” إلى ما بعده، حتى صرنا نعود إلى بيوت أهالينا في أواخر الليل، وقد امتلأت أقدامنا بشظايا الأحجار، والدماء تسيل على سيقاننا، ووجوهنا معفرة بالتراب على أثر الهزائم المتكررة، أو ضامرة من انتصاراتنا الهزيلة. لماذا يحب الشفاهيون المصارعة؟ الصراع والمنافسة هي التي تورث في مجتمعاتنا المعرفة. اللغز، كتقليد معرفي قديم هو صراع وتحدٍ. المخاصمة الفعلية أو المتخيلة، هي ما تقوم عليها نصوص ثقافتنا الدينية والدنيوية. فالشاعر عندنا يفتعل خصماً، أو عليه أن يفتعله كي يقول ما لا يُقال. وبعد ذلك في المدرسة تعلّمنا، أو حاولت أن تعلمنا بأن كرة القدم لعبة فنية وثقافية وتحتاج إلى دراسة، ولا أعتقد أننا حينها قد فهمنا هذا الدرس جيداً، أكثر من فهمنا أن درس “التربية الرياضية” جنة أمام ما تبعثه دروس الجغرافيا والكيمياء والرياضيات من ملل. وقبل أن أصل إلى مرحلة الثانوية، أتذكر بأن ملعبنا كان في وسط المدرسة ويفصل بين الصفوف الدراسية وغرف الإدارة. وكنت ما زلت حينها مطلوباً للعب بغض النظر عن مهاراتي الكروية، وفي يوم من الأيام، وبينما كانت حمى اللعب مشتعلة أردت أن أقذف كرة قوية نحو المرمى كي أحرز هدفاً (كأني سقراط مثلاً، أو.......) فإذا بالكرة تنحرف عن مسارها، وتقع في حضن الناظر محطمة زجاج مكتبه، وكل ما صادفها في الطريق من صعوبات. العقاب الذي نلته بعد ذلك من قبل الناظر على هذا الهدف الضال، جعلني أعيد نظري في أهمية الأهداف وتحقيقها. كما جعلتني أنصرف نهائياً عن التفكير بلعب كرة القدم. اللاعب الأسطورة لا تتوقف ذكرياتي حول الكرة هنا، ولكن وبدلاً من متابعة كتابة مقالات كهذه، فإنني أفضل حضور مباراة لكرة القدم ستجري في هذا الوقت. لا يزال لدي ربع ساعة، وبعدها سأقوم، عن ماذا أتحدث في هذه الربع ساعة؟ كنت قد تحدثت من قبل عن أن افتتاح المونديال في جنوب أفريقيا جعل الصحافة العالمية مشغولة بـ “الزعيم الروحي” لهذه البلد: نيلسون مانديلا. تحدثت، أو حاولت أن تتحدث عن كل جوانب حياته بما فيها الشخصية، وعلى الرغم من أن الصحافة لن تقوى أبداً على كتم رغبتها في فضح الآخرين، إلا أن مانديلا، والعبقرية عموما، تبدو صلدة أمام رغبات من هذا النوع، إذ ليس ثمة من عبقرية غير حافلة بالمتناقضات. وإذا كان لمانديلا هذا الحضور في المونديال الحالي، فإن المونديال يشهد كذلك، حضور شخصية إسطورية، وحافلة بالتناقضات كذلك. إنه اللاعب الأرجنتيني الشهير دييجو مارادونا، والذي يحضر المونديال هذه المرة كمدرب لمنتخب بلاده. مارادونا وفي أولى مباريات بلاده بالمونديال، ظهر بالبدلة الرسمية، وكان دائماً يقف على الخط، وحين تخرج الكرة من الملعب يركض نحوها. وفي مرتين رفعها بقدمه وأوصلها إلى يد لاعب الفريق المنافس، وفي مرة أخرى ركض نحو كرة زائدة، وأبعدها عن “جسد” الملعب. بعدما رأيته في هذه الصور، أحسست بأن هذا “اللاعب الأسطوري” كما يلقب دائماً، والذي انتشر في رأسه الشيب وفي جسده الترهل، يتحين الفرصة، كي يقفز ويخلع بدلته الرسمية البليدة ويركض خلف الكرة في الملعب كما كان يركض. وقبل أن تخذله وقائع الحياة، ويسقط في أخاديدها المرّة، ويخرج ليسقط من جديد. وكما هو الحال مع مانديلا، فلقد احتفت الصحافة بمارادونا، ساردة الكثير من الحكايات عنه، إلا أن حكاية واحدة ظلت هي المسيطرة. إنها حكاية “هدف اليد”. فلقد فازت الأرجنتين بمونديال 1986 والذي أقيم بالمكسيك، ولكن الأرجنتين لم تكن لتحرز ذلك لولا فوزها “التاريخي” على إنجلترا. وعن هذا الفوز تكتب إحدى الصحف: “الأكيد أن إنجلترا (في تلك المباراة) لم تواجه المنتخب الأرجنتيني بل واجهت لاعباً واحداً هو مارادونا” والذي كان “العقل المدبر وصانع الألعاب والهداف (...) وخلق متاعب كبيرة للإنجليز الذين جرّبوا كل الحلول لإيقافه”. المباراة التي كانت نتيجتها (2 ـ 1)، أحرز هدفي الأرجنتين فيها دييجو مارادونا، الثاني صنعه “بروعة كبيرة من منتصف ملعب الأرجنتين، إذ انطلق كالسهم وراوغ أربعة مدافعين ثم تلاعب باثنين وتوغل داخل المنطقة منفرداً بالحارس ثم موهه وسجل بكل ثقة داخل الشباك”. وإذا كان هذا الهدف قد اختير كأجمل هدف في تاريخ نهائيات كأس العالم، فإن الهدف الأول هو الأشهر والأفتن. فبعد وقت قليل من بداية الشوط الثاني، وعلى أثر لعبة مشتركة بين مارادونا وفالدانو، دفع الأخير الكرة داخل المنطقة إلى الأول الذي كسر مصيدة التسلل فانتبه الأخير إلى خروج الحارس الإنجليزي لالتقاطها فمد يده إلى الكرة ولكزها في المرمى. احتج الإنجليز بشدة على الهدف لكن الحكم التونسي بن ناصر (لعلّ هذه أشهر مساهمة عربية في تاريخ المونديال) لم يتراجع عن قراره وأكد شرعية الهدف. ولم يكن أمام الصحف الأرجنتينية في اليوم التالي إلا أن تكتب “إنها يد الله، بل إنها يد الشيطان، الشيطان الذي يعرف كيف يغفر لنفسه بسبب إنجازاته وعروضه الجيدة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©