الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجواهري «يهدهد» جياع الشعب لكي تنام!

الجواهري «يهدهد» جياع الشعب لكي تنام!
7 يوليو 2010 20:33
تجتمع في “تنويمة الجياع” طرافة وسخرية يعجز عن حملها الشكل التقليدي الذي كُتبت به، واللغة التي تشيع في شعر الجواهري، لكنها تعبر عن التحامه بقضايا عصره ومشكلات مجتمعه، وحياة وطنه، حتى ليمكن لمؤرخي الأدب أن يرصدوا من خلال شعره أبرز منعطفات العراق والعالم العربي وأحداثه ووقائعه. لكن تعبير محمد مهدي الجواهري (النجف 1900 ـ دمشق 1997) عن تلك المعايشة تتم بطريقة خاصة، ميَّزته، وعكست في الوقت نفسه مزاجه الحاد، أو ما اعترف به في ذكرياته لاحقا بأنه كان منذ طفولته “يفور فورة ويستوي، فورة ساخنة قوية ثم سرعان ما أستوي فأعود إلى طبيعتي”. تلك الفورة والمزاج الحاد ستظهران في صوره ولغته وإيقاع قصائده، ما يذكّرنا بابن كوفتِه: المتنبي، وإيغاله في التعبير عن أحاسيسه، لا سيما في مواطن الغضب والتعارض الدائم مع الخارج، وهو ما خلق الشعرية المميزة لكليهما بين عشرات الشعراء المعاصرين لهما.. والتي تتأسس على ما أسميه (إعادة إنتاج التقاليد الشعرية) التي تتيح للشاعر إظهار مزاياه وقدراته التعبيرية؛ فنعثر على خصوصية الجواهري مجسدةً في تلك التقاليد من جهة، وإنعاشها بمستجدات الموضوعات والأساليب، وهو ما وهبه ميزة المعاصرة والقرب من التحديث بمعناه الموضوعي والرؤيوي الذي أرى أن تنويمة الجياع قد جسّدته بدءاً من عنوانها المفارق لمحمولها الدلالي؛ فهي غاضبة محرّضة؛ لكنها موصوفة بالتنويمة التي تهدهد بها الأم رضيعها ليخلد للنوم، مغنيةً بعذوبة ورقّة، ستصبح مفارقة ساخرة عند اقتراضها عنوانا لقصيدة كهذه. ولتجسيد معاصرته يختار الجواهري مجزوء بحر الكامل؛ فتتردد التفعيلة مرتين فقط مع زيادة في التفعيلة الثانية ما يفرض التدوير في الكثير من أبياتها القصيرة ـ واستمرارية البيت واحدا غير مشطور ـ فبدت في القصيدة خفة إيقاعية تناسب جو التنويمة، والتكرار الذي سيكون عصب القصيدة (نامي جياع الشعب نامي)، كما ساعدت القافية الميمية على الإيحاء بالنوم أيضاً، وخففت إيقاع القصيدة وانضباطها العروضي. السخرية.. الداكنة! يمكن وصف السخرية التي تقوم عليها قصيدة تنويمة الجياع بأنها داكنة أي أنها ذات لون غامق، يغلّفها من الاستهلال حتى النهاية، محافظا فيها على صوت السارد أو المتكلم في النص؛ فهو سارد مفارِق لما يروي في المصطلح السردي الحديث: يستنكر الجوع ويدعو للانتفاض على أسبابه ومسببيه، لكنه يتحدث بخطاب صانعيه ولسانهم، فهم ينصحون الشعب بألا يصحو، وأن يكتفي بأن يشبع ـ كما يحلم ـ في المنام! النقد السياسي المتهكم تمثله (تنويمة الجياع) بجدارة، والمفارقة هنا ليس في التهكم المهيمن على القصيدة كلها دون إعلان عن هدفها الجديّ الذي سنتعرف عليه مجمَلاً، بل في السخرية المرسلة عبر بنية شعرية تقليدية وفخامة بنائية هي جزء من الهيبة التي يعطيها الشكل التقليدي للنص، وانضباطه الموسيقي المعهود في التفعيلة والقافية الموحدة. دلالياً يظهر جياع الجواهري مدعوين للنوم؛ لأن نومهم مطلب يريده الحاكم وسلطته، والمبررات واردة بتهكم مُر منها توفير الأمن للجميع والرزق، ومنها نوال المُشتهى في الحلم، وتبدل حال الناس وواقعهم المرمز بالمستنقعات والبيوت المتداعية والجوع والقمع. وتساعد بنية التكرار التي ظهرت أولا في استهلال النص (نامي جياع الشعب نامي) واستمرت كلازمة إيقاعية في الإيحاء بجو التنويمة، فهؤلاء الجياع ليس لهم سوى الحلم يشبعون فيه، والنوم ليخدروا أصواتهم ويسكتوها كي لا يثيروا غضب الحكام. النبرة الانتقادية تتضح أيضا في فضح الشاعر لخطاب الآخر المتسلط، وهو موجود في النص كمقابل ومناوئ للجياع الذين انحصر صوتهم في النوم وشبعهم كذلك، ولم يقدم لهم الحاكم سوى زَبد الوعود مدافاً بعسل الكلام، ويستمد الشاعر من الخيال أمكنة بديلة لواقعهم، فالزرائب تغدو مبلطة بالرخام، والمستنقعات زخّارة بالورود، وصوت البعوض أنغاما كسجع الحمام.. أسلاف النص وإطاره تعود القصيدة إلى الفترة الملكية التي كان فيها الجواهري معارضا عبر صحيفة تغلقها الرقابة، فيصدرها باسم آخر، ويضج داخله الشعر المحرض فيلقيه على الجموع؛ فتتحول التجمعات إلى تظاهرات عارمة أو تثير الاحتجاج والجدل. ذلك الانفعال الذي يبدأ شخصياً أو ذاتياً لتتسع دائرته ويصل حدود الجماعة، يعيدنا إلى المتنبي: إضافة إلى الجزالة اللفظية والتراكيب، فهو يحضر من خلال وجود (أنا الشاعر) بقوة وتمركز لافت، لعل تأكيده بيّنٌ في قول الجواهري في تحدي الطغاة: أنا حتفهم ألج البيوت عليهم.... كما يجسّم مهمته الشخصية التي أسندها إلى نفسه راعيا للشعر أو ربّاً للقوافي كما ادعّى سلفه المتنبي (أنا الصائح المحكي..) فيقول: أنا الذي أعطى القوافي حقها، و: أنا الذي صان القريض... تحمل (تنويمة الجياع) صدى لسلف قريب هو الشاعر معروف الرصافي (الفلوجة 1877 ـ بغداد 1945) القائل في قصيدة مشابهة رؤية وأسلوبا وسياقاً: يا قومُ لا تتكلموا إن الكلام محرَمُ ناموا ولا تستيقظوا ما فازَ إلا النوّمُ ودعوا السعادة إنما هي في الحياة تَوهّمُ من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو مكَرمُ فليُمسِ لا سمعٌ ولا بصرٌ لديه ولا فمُ لكن المقاربة التناصية للقصيدتين سترينا تفوق نص الجواهري بحرارته وصوره الموغلة في الخيال، والاستعارات التهكمية البعيدة عن المباشرة التي وسمت أجزاء من تنويمة الرصافي بسبب حرصه على تصوير خنق الحريات في الفترة ذاتها، ما جعله ينصح بأن يغدو الناس كما عبّر ببلاغة التمثال الثلاثي القديم: لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم. لقد أخذت التنويمة مكانةً في الشعر السياسي العراقي، وانضمت إلى المكتبة المختارة من شعر الجواهري نفسه، بمصافّ: يا دجلة الخير، وقف بالمعرّة، وأخي جعفر، وخلّفتُ غاشية الخنوع ورائي، وسلام على هضبات العراق، وتكريم هاشم الوتري، والثورة العراقية، والفرات الطاغي، والمحرقة، وأي طرطرا، وأزح عن صدرك الزبدا، ورثاء عدنان المالكي، وبريد الغربة، وأم عوف، والمقصورة، والمحرقة، وأرح ركابك، وباقٍ وأعمار الطغاة قصارُ.. ومثيلاتها التي تصلح شواهد على أحداث مدوية لم يعشها الجواهري هامشياً أو على استحياء، وهو ما أراده لحياته أيضاً، حيث لم يكن الجواهري يرى في الحياة إلا تلك الرحلة التي يقولها الحكيم الصيني بحركات ثلاث: ولادة، فعذاب، فموت. وبذلك يعرّفنا على مزاج تَحكّم في طبيعته طوال حياته، هو عدم الرضا الذي يعدّه المهتمون بالطبائع من أكثر المشغّلات الشعرية والبواعث الإبداعية. لقد ظل يرى الحياة بعيني ذلك الطفل الصريح ابن العاشرة؛ فقال في ذكرياته: “رغم مقاربتي التسعين فأنا في حقيقتي ذلك الطفل الذي لم بتجاوز العاشرة.. وكل كياني المتضارب، المتصاعد المتنازل المتخالف المتناقض يقوم على هذه الحقبة الأولى من حياتي”. وهو ما جعل اختيار التنويمة ذات دلالة رؤيوية أيضاً.. فما يسمعه الطفل هو هذا التنويم والتبرير اللذين يرسلهما الآخرون له ويريد الطغاة أن يعاملوا الشعوب على أساسه. يصف الجواهري نفسه بأنه مثل صلّ الفلاة، الصل الذي يقول المعجم إنه حية لا تنفع معها الرّقْية، لذا تتحمل العطش وتزهد بالفيء والراحة. يقول في ذكرياته “ولدت فوق أرض ملحية عطشى بالرغم من أنها على مقربة ميل أو ميلين من الفرات... فانفتحت نظرتي الأولى على أفق الصحراء الممتدة إلى الأبدية، وتعلمت أول ما تعلمت التحمل والزهد الذي يميز صلّ الفلاة..”. وهذا ما جعله يصطدم دوما بالمحظورات والممنوعات وصانعيها، حتى خلد لنوم أبدي، بعيدا عن وطنه في أواخر شهر كهذا منذ ثلاثة عشر عاما. من التنويمة: نامي جياعَ الشعب نامي حرستكِ آلهةُ الطعامِ نامي فإن لم تشبعي من يقظة، فمن المنامِ نامي على زَبَد الوعودِ يداف في عسل الكلامِ نامي تزرْكِ عرائس الأحلامِ في جنح الظلامِ تتنوري قرصَ الرغيف كدورةِ البدر التمامِ نامي تصحّي! نعم نوم ُالمرءِ في الكُرَب الجِسامِ نامي إلى يوم النشورِ ويوم يؤْذنُ بالقيامِ نامي على نغم البعوضِ كأنه سجعُ الحمامِ وتغازلي والناعماتِ الزاحفاتِ من الهوامِ نامي على الخُطب ِالطوالِ من الغطارفة العظامِ نامي تطفْ حورُ الجِنانِ عليكِ منها بالمُدامِ نامي فما الدنيا سوى جسرٍ على نكدٍ مُقامِ نامي ولا تتجادلي القول ما قالت حذامِ نامي جياع الشعب نامي لا تقطعي رزقَ الأنامِ لا تقطعي رزقَ المُتاجرِ والمهندسِ والمحامي نامي تريحي الحاكمينَ من اشتباك والتحامِ نامي، إليك تحيتي وعليكِ نائمةً سلامي!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©