الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليالي عربية كالحة!

ليالي عربية كالحة!
24 ديسمبر 2009 00:21
دأب مهرجان دبي السينمائي الدولي ومنذ انطلاقته الأولى قبل ست سنوات على الاحتفاء بالسينما العربية وتخصيص مساحة مهمة لهذه السينما المشتتة جغرافيا بين الوطن والمهجر كي تعبر ـ مشهديا على الأقل ـ عن أحلامها الملونة وعن أزماتها الداكنة أيضا. احتفاء مهرجان دبي بالسينما العربية هذا العام جاء أكثر زخما مقارنة بدوراته السابقة، ومرد هذا الزخم قد يعود إلى تشابك وتعدد الأزمات السياسية والاجتماعية وحتى الفردية التي وسّعت خارطة “الهمّ التعبيري” ـ إذا صح الوصف ـ أمام المخرجين العرب في مغتربهم الواقعي والافتراضي كي يطلقوا العنان بعد ذلك لأفلامهم الطويلة والقصيرة والوثائقية لتنطق بلسان الكاميرا عن مرادفات الوجع والقلق والذكريات الصامدة في الشتات. استطاع المهرجان هذا العام ومن خلال قسم (الليالي العربية) أن يثير مواضيع ساخنة وراهنة حول الوجود العربي في المهجر وحول المواهب السينمائية الشابة والباحثة في أوطانها عن المكبوت أو المغيب اجتماعيا وسياسيا كي تنبش في خفاياه وأسراره وتفتح من جديد شهية الجدل حول قيمة السينما كحالة من الرصد المتواصل والانتباه الجمالي والمعرفي لقضايا المكان ولجروح الزمن العربي العصي على الاندمال. ففي فيلم مثل: “بعد السقوط” يناقش المخرج العراقي هينر سليم المقيم في فرنسا وبأسلوب يمزج بين الروائي والتسجيلي الحالة المتأرجحة بين الفرح المؤقت والحيرة الطويلة التي تنتاب مجموعة من العراقيين الذين يعيشون في المنفى مباشرة بعد سقوط النظام السياسي في العراق. أسئلة المستقبل أما المخرج نبيل بن يضر المقيم في بلجيكا فيحكي في فيلمه: “البارونات” قصة ثلاثة أصدقاء عرب يعيشون في العاصمة البلجيكية بروكسل ويمجدون فكرة الكسل والتسكع والانغماس في الحياة البوهيمية، ولكنهم سرعان ما يصطدمون بإملاءات الواقع وقسوة الظروف المحيطة فيبدأون في الخروج تدريجياً من أسر النشوة المؤقتة والبحث عن إجابات لأسئلة المستقبل الحارقة. ويتجول فيلم: “أولاد الأرز” للمخرج سرهات كرادي في الوقائع الحياتية المتناقضة للشاب اللبناني طارق المقيم في أستراليا والذي يدخل في صدامات عنيفة مع العصابات واللصوص والشرطة من أجل تحقيقه أحلامه المؤجلة دائما في منفاه الجديد. واحتوى قسم (الليالي العربية) على أفلام تسجيلية كثيرة اقتنصت اللحظات المؤلمة والمؤثرة في مناطق التوتر الدائم في فلسطين والعراق ولبنان، ففي فيلم “الرصاص المصبوب” يتناول المخرج الإيطالي ستيفانو سافونا المشاهد البصرية المؤلمة للحصار الإسرائيلي على غزة، من خلال حكايات صادقة وصادمة لمواطنين عزل يسكنون سجنا واسعا تتناسل فيه القسوة وتنبت في ساحاته أعشاب البؤس والعذابات المرة. ويرتحل المخرج الإسباني فيرمين موغروزا في فيلمه: “حاجز الصخرة.. موسيقا تضرب الجدران” إلى فنون الراب وعالم الموسيقيين الفلسطينيين الذين يقاومون انتكاسات الوضع الإنساني في فلسطين من خلال الموسيقا والألحان الراقصة التي تتشكل كلوحات بصرية ومنصات سمعية تتعالي فوق ضجيج الحرب المتواصلة وتعيد التذكير باللحظات المتوهجة في الحياة. ضد النسيان وبالتعاون مع نادي “المشهد السينمائي” بدبي والذي تديره المخرجة الإماراتية نائلة الخاجة خصص المهرجان ليلة مستقلة لعرض أربعة أفلام لبنانية تناوبت بين الشكل الروائي القصير وبين النمط الوثائقي لتنقل إلى المتفرجين الحساسيات الإبداعية الجديدة لأصوات لبنانية شابة في بلد طالما أبتلي بمرض الطائفية وعدوى الانفجارات والذعر العالق في الروح، رغم بضاعة الأمل التي ما زال يدخرها المواطن اللبناني المأهول بالحلم كما بالانكسار، والموعود بمستقبل جديد كما بالذكريات العتيقة والمقاومة للنسيان. الفيلم الأول في البرنامج والذي حمل اسم: “بكرا ستة ونص” يحوم حول فكرة الهجرة، ومغادرة الجحيم الأرضي التي ساهمت ظروف عدة في استمراره كحالة وجودية متأزمة، جعلت من لبنان أشبه بالوطن الهش أو المؤقت، وطن يفيض بالغربة، ويخترع المنفى كما لو كان هذا المنفى هو الخلاص الأخير من خطيئة الجغرافيا والتاريخ. ويمعن الفيلم الذي أخرجه جيل طرازي في طرح الأسئلة الشائكة حول التأقلم والاستمرار في العيش وسط هذا الجحيم، وبين حلم الهجرة المحفوف هو الآخر بالأقدار والحظوظ المتأرجحة، حيث نرى الشاب فريد ـ يقوم بدوره حسين مقدم ـ وهو يخبر الجميع بسفره في الغد الساعة السادسة والنصف للعمل في الخارج، وفي ما يشبه الاحتفال الأخير يقوم فريد بممارسة كل طقوسه السابقة دفعة واحدة كي لا يغادر المكان بذاكرة ناقصة وبرغبات مكبوتة، فيقوم باصطحاب أصدقائه إلى ملعب كرة السلة ثم إلى البحر وأخيرا إلى سهرة ليلية صاخبة تتحول إلى ليلة من الخيانات والصدمات والانتقام الشخصي الذي تمارسه حبيبته وأصدقاؤه معه بعد تقينهم من سفره، ويوغل الفيلم في رصد هشاشة العلاقة التي تربط فريد بالمكان وبالشخوص المحيطين به، ومن ضمنهم أمه التي كانت علاقته بها أشبه بالرباط المبتور والجبري بحكم الوجود في مكان مشترك لا أكثر. حب وحرب الفيلم الثاني والذي حمل اسم: “ما شفت الحرب ببيروت” لم يغادر هاجس الاحتجاج والتمرد الذي غلّف الفيلم الأول ولكنه وعلى شيء من البحث والتحليل النفسي أراد أن يترجم خطابه الخاص من خلال اللعب على مصائر الشخوص التي وجدت في الحرب شكلا من الانتحار الأنيق ومداعبة الكارثة بالانغماس فيها وتحويلها إلى طقس يومي ومعيشي لا يمكن الفكاك من أسره. يتناول الفيلم الذي أخرجته ميريام الحاج لحظات ما قبل الحرب الأهلية من خلال قصة المخرج المسرحي “زياد” الذي يعيش حالة من التمزق العاطفي بين زوجته وبين الممثلة “آنا” الذي يعشقها بصمت ويقسو عليها أثناء التدريبات كي لا ينهزم أمام هذا العشق المفاجئ والمهيمن، تتناوب المشاهد في الفيلم كي تؤكد على حالة الرتابة والتكرار التي تشبه انتظار الكارثة والتأقلم معها، يعود المخرج إلى منزله بعد انتهاء البروفات المسرحية ويتعامل مع زوجته وكأنها جزء مكمل لعناصر المنزل، وعندما يمارس معها الحب يفعل ذلك بعنف ووحشية وكأنه ينتقم من هواجسه وخطاياه النفسية، يصور الفيلم حالة الكآبة التي تلون الشخوص وتصبغ ليل بيروت بصمت قاحل تقطعه صفارات الإنذار أحيانا، وأحيانا أخرى أصوات البشر الحانقين والقابعين خلف شبابيك مذعورة، وخلف أبواب مغلقة على الخوف والحيرة. “ما شفت الحرب ببيروت” يطرح وببساطة مركبة فكرته الفلسفية حول التأثر المرضي بالمكان، وكيف يمكن للأمكنة الخانقة والمنذورة بالويلات أن تجرف قاطنيها إلى هاوية نفسية عميقة ومليئة بالشروخ والعواطف الخرساء التي تعجز عن تحرير ذاتها من حالات النبذ والإقصاء الذاتي. الفيلم الثالث في البرنامج استند إلى الطابع التسجيلي وحمل عنوان: “عن أولئك الذين رحلوا” وهو من إخراج علي حمود الذي حوّل شريطه السينمائي إلى ما يشبه المانيفستو البصري الذي يحمل توقيعات صوتية دون أن يرصد وجوه وانفعالات المتحدثين، ترتحل كاميرا المخرج إلى الأمكنة التي شهدت موجة من التفجيرات العنيفة في لبنان بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهي التفجيرات التي أخذت ضحاياها الأبرياء إلى صمت مطبق وأخير، وكان على المتحدثين في الفيلم استعادة تفاصيل اللحظات الأخيرة لما قبل الانفجار، واسترجاع اللحظات الحميمة التي جمعتهم بأقربائهم الذين رحلوا وتركوا بصماتهم وصورهم وذكراهم في حلق الرواة الذين غصوا بالحنين كما بالألم، واستبدت بهم التفاصيل المزدحمة والغائبة للموتى، وكأنهم يتشبثون بالحكي لعله يعيد بعث الميت من مرقده البعيد، أو لعله يعيد الحياة لبلد يبجل الموت ويبدو مثل مقبرة هائلة تصرخ كل يوم: “هل من مزيد”؟! يتجول الفيلم في بانوراما الموت هذه، ويجعل المدينة تتحدث بلكنتها الخاصة والخاوية في ذات الوقت لأنها مدينة مذنبة ولا تستطيع أن تدافع عن ذنوبها ووحشيتها، تقول الكاميرا ويقول الرواة، ولكن صمت الموت هو الذي يختم أخيرا على بؤس المشهد ومأساويته. في انتظار المجد الفيلم الأخير في برنامج “ليلة لبنانية” والذي حمل عنوان: “لحظة أيها المجد” اتخذ مسارا موضوعيا مختلفا بعض الشيء عن الأفلام السابقة، حيث يذهب وبأسلوب تجريبي متمازج مع الشكل الوثائقي إلى تفاصيل الزمن الجميل والمحزن أيضا في حياة المطربة اللبنانية الراحلة “وداد” التي لم تأخذ حقها من الشهرة رغم قدراتها الغنائية الكبيرة والموازية لقدرات فيروز وأم كلثوم وصباح وفائزة أحمد، وتقول مخرجة الفيلم شيرين أبوشقرا عن شخصية فيلمها: “وداد أصبحت إحدى أفراد عائلتي وجزءاً من شخصيتي. أنا أستحضرها دائما رغم غيابها، لقد كنت من محبي أغنيتها الجميلة “بتندم” التي لحّنها وكتبها سامي الصيداوي، بعد الخلاف الذي نشأ بين الفنانة الراحلة والموسيقار الراحل توفيق الباشا الذي كانت قد تزوّجت منه في منتصف الخمسينات... غير أنه لم يتسن لي معرفة باقي أغنياتها، فدفعني فضولي إلى البحث عن صاحبة هذا الصوت العذب... فكان أن وجدتها امرأة ذكية وقوية لا تلهث وراء الشهرة... هذا الأمر زاد من تعلقي بها حتى صارت بنظري أهم مطربة عربية على الإطلاق... وداد تختلف عن غيرها بأغنياتها التي لا تعتمد على النواح والبكاء، بل تقدم نموذج المرأة المتماسكة”. يتناول فيلم “لحظة أيها المجد” وفي ثلاثين دقيقة حياة هذه المطربة اللبنانية التي ظلمتها الظروف الحياتية والفنية في ذلك الوقت، هو شريط كما قالت أبوشقراء بمثابة تحية للمطربة الراحلة التي لم تأخذ حقها وسط جيلها من الفنانين، وتحية لكل النساء في العالم اللاتي لم يأخذن حقهن، وجاء الفيلم أقرب إلى مختبر سينمائي للتجريب والبحث في إمكانيات السينما الوثائقية التي يمكن مزجها بأشكال تعبيرية أخرى مثل فن التحريك وإدخال النسق الروائي في أزمنة الفيلم المختلفة وذلك لكسر حدة الواقعية المحزنة في هكذا أفلام، وكان للفنانة وداد هي الأخرى دور في التقليل من حدة الحزن المشهدي من خلال المرويات والحوادث الذي استعادتها ذاكرتها الحاضرة وبتعليقات ساخرة حول الرجال الذين مروا بحياتها، وحول جذورها اليهودية التي ساهمت بشكل كبير في التقليل من فرصها في الاستمرار والنجاح. اشتهرت وداد في أربعينيات القرن المنصرم، وبدأت الغناء في التاسعة من عمرها عندما كانت تقلد كبار المطربين في إذاعة لبنان الرسمية في تلك الفترة، ولكنها لم تذهب بعيدا في طريق المجد لأنها لقت معارضة شديدة من أسرتها ومن أزواجها الثلاث بعد ذلك والذين منعوا مشاركتها في أفلام مصرية وبمشاركة كبار الفنانين أمثال فريد الأطرش ومحمد فوزي وأنور وجدي وفاتن حمامة. من أشهر أغانيها “بتندم” و”صبحتوا ولا رد عليا” و”ولا قلبي ولا بعرفك” و”ويسلملي الفهم” و”يا ناعم”، وتعاونت مع مجموعة ملحنين منهم فيلمون وهبي وزاكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي. تمتع صوتها بالدفء والقوة والشجن الذي لا يتنازل عن كبريائه رغم الأسى العميق الذي رافقها في محطات حياتها المختلفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©