الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه أدونيس.. بومة منيرفا

وجه أدونيس.. بومة منيرفا
29 ابريل 2015 21:05
بين علي أحمد سعيد إسبر وبين أدونيس، مسافة ضبابية وهلامية، يقلق بها الوجه السّاهم والجسور في صلابته الواثبة والممهور بحزمات تأملاته المتأهبة أو المستأنفة لديمومة الاختراق والاقتحام... الوجه الدائري، المتوقد حكمة - حيث الحكمة طفلة ضالة في أنقاض الحرب-، المأهول بالصمت الضاج، الوجه الجرس الذي يدق في ساعة القيامة. كيف يمكن لوجه الاسم المستعار (أدونيس) أن يعدم حياة وجه الإسم الأصلي (علي أحمد سعيد)؟ وكيف لوجه الاسم الأصلي أن ينصرف وينسحب ويحتجب عن الضوء، مطبقا بصمته على أفق منسي ومهجور.. فالأفق المضاعف يستأثر به الوجه الطارئ للإسم المندلع كنبات سحري، النبات الذي سيسطو ضوؤه، وتفغم رائحته الجهات.. لا يهم إن كان الشاعر هو ذاته من اختار لنفسه لقب «أدونيس»، ما يهم هنا هو كيف تنزاح كينونة المسمى الجديد عن كيميائها الأصلية، وكيف يحتل هذا المسمى الآخر، مكان الساكن الأوّل... و كأنّ علي أحمد سعيد هو الإنسان هنا، وأدونيس هو الشاعر. هل يضطلع لقب أدونيس بوظيفة قناع مثلا؟ وعلي أحمد سعيد هو الوجه الحقيقي؟ كيف يستطيع القناع إذا أن يسلب الوجه حياته الأولى، ويزج بها في أفق حياة ثانية متموجة ومحتدمة، ذات خطورة تحدق بها الويلات والكوارث والصدمات من كل حافة؟ بالأحرى، كيف يتناغم الإثنان، الأصل والغريب، الثابت والمتحول، السابق واللاحق، في وجه واحد؟ لا يمتلك الشاعر، وجها وسيما فعليا، يضاهي به الجمال الخرافي لأدونيس كما في الأسطورة الكنعانية/ الفينيقية أو الإغريقية/ الرومانية. طبعا أدونيسية أدونيس لا تحتكم إلى الخلفية المادية للتوصيف، بل تنزاح بالصورة نحو المضمر الرمزي الثري للمعنى، وهكذا يكون الجمال المقصود، هو ما ينتجه الشاعر من دهشة مجازية أو ما يخلقه من فن... إن كان أدونيس في الأسطورة قد أضرم الولع بجماله السحري في قلوب آلهات الحسن، أفروديت أو فينوس أو عشتروت مثلا، التي وقعت في غرامه وظلت تطارده وتحميه، فمن يطارد الشاعر حقيقة غير ظلاله، فيما هو منصرف لصيد مجهول، خارج اللغة والمعنى. ضد الشعر وضد الأدب. هل يمتلك أدونيس الشاعر وجه صياد، كما يمتلكه أدونيس في الأسطورة الإغريقية؟ مجازيا سيكون السؤال بليدا، لأن الشاعر صياد بشكل من الأشكال... لكن، واقعيا، يمتلك أدونيس وجه طبيب جراح. جراحة ماذا؟ جراحة الأمراض المزمنة والمعقدة. تلك مفارقة إذا ما استندنا من جديد إلى طرس الميثولوجيا، فأدونيس الذي سيخرج ذات يوم في غفلة من أمر (افروديت) ويصيب خنزيرا بسهمه، سيصرعه الخنزير (مارس متنكرا في جسم خنزير)، بجرح تأبد نزيفه وتحول إلى نهر (دم الجرح الذي نشأت منه زهرة الخشخاش)... ثمة نهر دم إذن يحيل على أدونيس ووجهه، وكأن البلاد السورية وتاريخها هو ما يتناحر في هذا الإسم/ الوجه الغريب والمريب... ليس وحدها البلاد السورية، بل التاريخ العربي (قديمه وحاضره ومستقبله)، من وريد محيطه، إلى وريد خليجه. هل يسبق وجه أدونيس شِعره؟ أم شِعره يلاحق وجهه؟ أم كلاهما يلاحقان بعضهما البعض؟ ثمة ما يجعل من وجه أدونيس، علامة تتواشج في صخرتها بروق وجوه قرينة، مهما بدت نائية في تشكلها الصارخ أو الموهوم، أو كيفما كانت قريبة حدّ التطابق الإستعاري أو الإيحائي... فالممعن في الوجه الناهب لليقظة في الصورة سيتخطى أشباح وجوه منهمرة كما لو في دهليز يصل غرفة الكواليس بركح المسرح بدءا بالمكزون السنجاري وسان جون بيرس...، ليقف لحظة التباس إذ يعنّ له برق جبران خليل جبران مثلا، تستدعيه قوة الثراء الرمزي للمفرد بصيغة الجمع، إذ أن الحالة الأنطولوجية لعملهما الأدبي والفكري هنا، مجازفة حضارية بكل ما تزدهر به الحافة التاريخية الشاهقة من خطورة وقسوة وفزع. كيف أخطأ هذا الوجه الذي يبتهج له الخراب، طريق السقوط بشكل عمودي بين كتفي صانع كونشيرتو؟؟؟ أي نعم شعر أدونيس يخط موسيقاه الغامضة والخاصة خارج الغنائية، والشاعر هنا يتماهى مع الموسيقيّ، في أكثر من غرفة من الغرف المتناسلة إلى ما لانهاية في خيال قصيدته، لكن هذا الوجه أراه خُلق ليكون لصانع كونشيرتو بالفعل وليس محض مجاز... لا أتخيل موسيقيّا فقد شَعره بالكامل، وإن كان أدونيس قد حافظ على كثافة ما، إيحائية، من شَعر رأسه، فالفضل يرجع للرياح السّحرية المندلعة من قريته «قصابين»، هي وحدها ما يحرّكه ويموّجه... يوائم وجه أدونيس، وجهٌ متخيّل من اختراع رؤيا شعره، هو وجه مهيار الدمشقي، مهيار الذي تحلّق بجعات أغانيه خلف الشاعر في ترحالاته شمالا وجنوبا كرسائل بريد الحرب، فيما تعدّد مرآة صباحه سُدُم كل من دمشق وبيروت وباريس وجنيف وبرنستن وبرلين...الخ، السُّدُم التي تحول بينها وبين وجه الطفل المريب، الذي قطع مسافة ماراثو نية من قرية قصابين إلى مدينة جبلة في مارس 1944، كي يتجاسر على طلب إلقاء قصيدة وطنية أمام رئيس الجمهورية «شكري القوتلي». ليس محض اعتباط أن يحدث هذا الأمر في مارس بالذات، ومارس هو من صرع أدونيس في الحكاية الميثولوجية، ما من مارس لا تستيقظ فيه أزهار الخشخاش في قرية قصابين، هي الأزهار التي تخضب وجهه أو الهواء خلفه أنّى ألقى قصيدة في محفل... وجه أدونيس مهياريٌّ، بمعنى المجابهة الضارية والمضيئة لغسق الحصارات المتعاقبة، شبيه إلى حدّ بهيج ببومة منيرفا التي لا تحلّق إلا ليلا وفق توصيف هيجل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©