الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريونوسُكيه أكوتاغاوا.. عرّاب القصّ الياباني

ريونوسُكيه أكوتاغاوا.. عرّاب القصّ الياباني
29 ابريل 2015 21:32
يمتاز أكوتاغاوا (1892-1927) بأنه من أشهر كتّاب اليابان الشباب في القرن العشرين، ويعد بجدارة رائد القصة القصيرة في بلاده، رغم أنه وضع حدا لحياته وهو في الخامسة والثلاثين. ويكفي لإدراك مكانته الأدبية العالية أنهم أطلقوا باسمه جائزة رفيعة المستوى، تمنح مرتين في السنة احتفاء بموسمي الربيع والخريف، وهي مخصصة لأبرز كتّاب القصة والرواية الواعدين من الجيل الصاعد. يتسم أسلوب أكوتاغاوا بالألق الشعري والكثافة والغموض، وهو يتمتع بتجربة غنية في إبداع قصيدة الهايكو، هذا الطراز الشعري الخاص باليابان. ويمكن أن أضيف هنا امتيازا آخر تفرد به بين أقرانه، وهو انشغاله بحكايات الماضي وإعادة صياغتها في ضوء علم النفس وتشكيلها برؤى عصرية وأسلوب جديد. وكم أتمنى أن نرى محاولات شابة مماثلة لذلك في أدبنا العربي الحافل بحكايات الماضي من شفاهية ومدونة، إضافة إلى ما كتبه زكريا تامر. سليل التنِّين ولد الكاتب في ساعة التنين من يوم التنين، في شهر التنين من سنة التنين.. ولذلك سماه خاله ريونوسُكِيه ومعناه «مساعد التنين» أو «عَونُ التنين». وبما أن أمه أصيبت باضطراب عقلي قبل أن يبلغ السنة من عمره، فقد تخلى عنه والده «توشيزو نيهارا»، ليتبناه خاله ويرعاه ويمنحه اسمه العائلي. ويشير الكاتب في إحدى قصصه المتأخرة إلى أن أمه «كانت وديعة هادئة في جنونها إلى أبعد حد، حتى إنها لم تكن لتعيره أي اهتمام». ولقد عاش الصبي في كنف خاله عيشة هانئة مريحة أتاحت له الانطلاق والنبوغ في دراسته، وقرأ كثيرا من الأعمال الأدبية الغربية، إضافة إلى قصص تاكيزاوا باكين، وهو من أهم كتاب اليابان في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكما كانت أسباب انتحاره غامضة، فإن حياته أيضا لا تخلو من غموض. ولا شك في أن إبداعه الغزير المتنوع أحاطه بهالة أدبية واسعة في بلده وفي الغرب معا. ومنذ البداية كان مضمون عمله الإبداعي حاملا أكثر من دلالة وتأويل، فهو يتراوح بين اليأس والضياع والأمل، الطموح والاغتراب والانكفاء، الفرح والتوجس والأسى، الجمال والقسوة والجفاف، تاركا للقارئ فرصة الغوص في ثنايا عمله وكأنه يجوس في غابة ملونة زاهية، تطرح أمامه مداخل ومستويات عدة. وأجمل ما في هذا الغموض العميق أن يجعل أعماله ندية جذابة، بعيدة عن الرتابة والملل. وهو يصف العمل الفني الجيد بأنه «يشبه جبل لوتشان، جبل ذو ملامح متعددة تغري بالنظر إليه من زوايا مختلفة: إنه بحر من الغيوم، والشلالات، والجروف الصخرية الحادة». وهذا ما نراه في معظم أعماله القصصية، ومنها» «راشومون، اللصوص، الأنف، في الغابة، العجلات المسننة».. وعشرات غيرها. تيارات جديدة أبدى أكوتاغاوا اهتماما مبكرا بالأدب الصيني ونبغ فيه، وترك وراءه ما يربو على مئة وخمسين عملا أدبيا بين قصة قصيرة ومقالة نقدية. وقد ترجمت قصصه إلى العديد من اللغات في العالم. ومن الطريف أنه قبل وفاته بنحو عشر سنين بدأ يرمز لمسكنه بـ «جاكيكوتو» Gakicutu وهو كهف لشبح مرعب في التراث البوذي يجوب العالم بكرش واسع وبلعوم ضيق، مسعورا بالجوع والعطش. ويشير هذا الرمز إلى أنه التهم مئات الكتب من روائع الأدب العالمي كأعمال دوستويفسكي وتولستوي، دو موباسان وستراندبيرغ وفلوبير وفيرلين، وصولا إلى نيتشه وإبسن وييتس وبرنارد شو.. وآخرين. وهو كاتب طموح ومفعم برؤى الإبداع والتطلعات المستقبلية منذ مطلع شبابه، وإن بدا سوداويا ساخرا. في 1913 دخل الجامعة الإمبراطورية لدراسة الأدب الإنجليزي، وتخرج في 1916. وفي سنته الجامعية الثانية أسس مع بعض زملائه جماعة «تيارات فكرية جديدة»، وكتب خلال تلك السنوات الأربع عدة قصص، ومنها قصة «الأنف» التي حظيت بإعجاب أستاذه ومثله الأعلى سوسِكي ناتسوميه الذي خصه بالثناء على تلك القصة، وفتح بذلك أمامه باب الشهرة والانطلاق. ثم كتب قصته «في الغابة» سنة 1922، بعد عودته من الصين حيث أمضى عدة أشهر مراسلا لإحدى الصحف. لكن تلك الرحلة أضرت كثيرا بصحته الجسمية والنفسية، ويبدو أنه عانى منها طوال السنوات الست التي عاشها بعد ذلك. وفي 1923 تلقى عدة طلبات للتدريس في جامعات متميزة، لكنه رفض ذلك ليكرس وقته للقراءة والكتابة. وفي المرحلة الأخيرة من حياته كانت تعتريه هلوسات مرضية، وكان يعيش متوجسا أن يرث الجنون عن أمه. ويروى أنه كان يعلق دائما على باب داره رقعة تقول: «مريض، شكرا للزائرين». القراءة أولاً كان يولي الكتاب أهمية بالغة تصل حد العشق الصوفي. ويشير البطل في إحدى قصصه المتأخرة إلى أنه يزور المكتبة للتطهر والبركة. ويقول عنه أحد دارسيه إنه لم يكن يعرف الناس في الشارع، إنما كان يقرأ الكتب ليستقي منها معرفة الناس وأحوالهم في الحب والكراهية والغرور... إلخ. وفي محاوراته مع الروائي المفتون بالغرب جونئتشرو تانيزاكي، يعلن أنه ليس ميالا للعمل الروائي وما يتطلبه من إسهاب في السرد ومعرفة واسعة بالناس وأحوالهم وتصرفاتهم. وفي حين كان تانيزاكي يرى أن مضمون الحبكة وسيرورتها هما الأهم، كان أكوتاغاوا يركز على بنية القصة ونسيجها الفني وأهمية المسحة العاطفية فيها. وهو يؤكد أن مبدع القصة لابد أن يكون شاعرا في الأساس، ثم يأتي دور المؤرخ في مرحلة لاحقة خلال كتابة الرواية. كانت موهبته مدهشة في القصة القصيرة، وغالبا ما يقتبس فكرتها من الماضي ويعيد صياغتها في ضوء علم النفس. ونلمس شدة إعجابه بدوستويفسكي وأعماله، وبخاصة في قصة «خيط العنكبوت» المقتبسة من حكاية مشابهة وردت في «الأخوة كارامازوف» عن امرأة كانت قد أعطت بصلة لمتسول، والتمس ملاكها الراعي إنقاذها لقاء هذه الحسنة، لكن أنانيتها أحبطت المحاولة وهوت عائدة إلى قرار جهنم. معظم قصصه توغل في أعماق النفس، وهو يقتبس الحكاية القديمة ويعيد صياغتها برؤيا جديدة لا تخلو من غموض، وغالبا ما تعاني الشخصية المحورية في أعماله من اضطراب عصبي، وقد تؤدي بصاحبها إلى الهلاك. ونستعرض بإيجاز فيما يلي نماذج من قصصه. لوحة الجحيم قصة مستوحاة من حكاية في القرن الثالث عشر، وتدور أحداثها بين رسام وإقطاعي طلب من الفنان أن يرسم له لوحة تمثل جحيم بوذا. لكن الفنان لا يستطيع أن يرسم شيئا لا يعرفه ولم يشهده عيان، وهذا ما أوقعه في حالة عصابية مصحوبة بسوء التصرف والتقدير. ولم يكن أمامه إلا الانصياع لإرادة السيد. وتبلغ القصة ذروتها حين يطلب الرسام المأزوم من السيد أن يقوم بإحراق امرأة جميلة، لعل الإلهام الفني يأتيه من معاينة المشهد الجهنمي. ويحقق له الإقطاعي رغبته، لكن المرأة الجميلة التي اختارها وقام بإحراقها هي ابنة الرسام ذاته، وهي صبية جميلة كانت تخدم في قصر المالك المستبد. ويرسم الفنان اللوحة غير مكترث بهول الجريمة، وحين ينتهي من إنجازها ينتحر. والسارد الذي شهد وقائع القصة وراح يرويها، هو خادم لدى الإقطاعي ذاته، لكنه لا يملك من أمره شيئا، إنما هو شاهد على كل ما يجري في القصر، ويبين أن الإقطاعي أمر بإحراق الفتاة انتقاما منها لأنها رفضت معاشرته، وانتقاما من أبيها في الوقت ذاته لأنه فنان عصابي مريض مشغول بفنه أكثر من اهتمامه بحياته وحياة ابنته. وهناك صور عديدة من أمثال هذه القسوة الضارية في أعماله. خيط العنكبوت كان بوذا يتجول حول الفردوس ذات صباح، ثم توقف لدى بركة ملأى بزنابق اللوتس. ومن خلال الزنابق المتناثرة على سطح البركة، راح يحدق إلى أعماق الجحيم المترامي في قرارة المياه البلورية الصافية، فوقع نظره على كَنْداتا، المجرم الخطير الذي كان يقتل ضحاياه بدم بارد. ولم يكن لهذا الآثم إلا حسنة واحدة: كان يسير في الغابة يوما فصادف عنكبوتا كاد يسحقه بقدمه، لكنه تلافى ذلك في اللحظة الأخيرة وابتعد عنه. وهكذا كان إنقاذ العنكبوت قارب النجاة لذلك المجرم. فقد تدلى خيط العنكبوت من الجنة حتى صار في متناول يده، فأمسك به وراح يصعد، ولم يكن بلوغ الفردوس أمرا سهلا. في منتصف الطريق أحس المجرم بالتعب، لكنه كان منتشيا بالنجاة، فراح يضحك جذلان طربا. وتطلع إلى أسفل فرأى عددا كبيرا من الخاطئين يمسكون بالخيط ويحاولون اللحاق به. خاف أن ينقطع الخيط ويهلكهم معا فصاح بهم مهددا، وعندئذ انقطع الخيط وتساقطوا جميعا في الجحيم. تأمل بوذا ما حدث بأسى، لأن ذلك المجرم الأناني لم يكن يفكر إلا بنجاته وحده، دون أن يعبأ بالآخرين. لعل القصة تذكرنا بنماذج من حكايات الأطفال في تراثنا الشعبي، لكن أسلوب الكاتب المبدع وخياله الشاعري الطليق، ومسحة الغموض التي توشي قصصه بوجه عام، تجعل نسيج الحبكة أجمل والمغزى أعمق. لوحة جبل الخريف يدور موضوع القصة حول لوحة فنية مرسومة بريشة «تا تشيه»، حيث تشكل في نظر الناقد الفني تحفة رائعة الجمال، وحين يراها جامع لوحات فنية وهو من أشد المعجبين بأعمال الفنان يحاول أن يشتريها بأي ثمن، لكن صاحبها يرفض بيعها. وحين تؤول تلك التحفة إلى الحفيد بالوراثة بعد خمسين سنة، يحصل عليها التاجر ويرى أنها درة مقتنياته. ويقوم الراوي وصديقه بزيارة التاجر لمشاهدة اللوحة، لكنهما يشعران بالخيبة لدى رؤيتها معلقة على الجدار، لأنها مختلفة تماما عن صورتها الخيالية في رأسيهما. وهذا ما يدعو التاجر إلى الظن أنها منسوخة، وأن لوحة الكمال موجودة في مكان ما. لكن الصديقين يتفقان أن لا وجود في الواقع لتحفة فنية بلغت حد الكمال، إنما هي من بنات الخيال، لأن الجمال المثالي لا يوجد إلا في أذهاننا. معظم قصص أكوتاغاوا تبدو مشحونة بهذا الغموض، حتى إن بعض النقاد يعدونه ذا أسلوب مراوغ. ويرى بعضهم أن هذه النظرة الملتبسة مردها حالته النفسية المضطربة، وخاصة أنه ورث الخلل العصبي عن أمه، ولم يكن له من دواء غير الأفيون، وهذا ما دفعه إلى تناول جرعة زائدة منه أنهى بها حياته. أود أن أشير في الختام إلى أن السؤال الذي شغلني طويلا في معاهد اللغة اليابانية، فضلا عن إعجابي بهذا الكاتب الرائد، هو لماذا كانوا يتحاشون إيراد نماذج من نصوصه في مناهج الدراسة. وكان الجواب في الغالب يركز على غموض أسلوبه. لكن بعض المعلمات أشرن إلى تماديه في الخيال واستغراقه في رسم صور سوداوية قاسية قد تؤدي بالقارئ إلى الضيق والكآبة والنفور. مساعد التنين ولد الكاتب في ساعة التنين من يوم التنين، في شهر التنين من سنة التنين.. ولذلك سماه خاله ريونوسُكِيه ومعناه «مساعد التنين» أو «عَونُ التنين».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©