الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبداع النهايات المفتوحة

إبداع النهايات المفتوحة
31 أغسطس 2016 19:46
موزة آل علي تكمن أهمّية الجملة القصصية الأولى، التي يبدعها القاص، من كونها البداية التي تجذبنا إلى أجواء القصة، أو تنفرنا منها، لذلك يسعى القاص حثيثاً لحشد طاقة إيحائية عالية كي يشوّق القارئ للولوج إلى عالم القصة، حسب ما تذكر الناقدة وجدان الصايغ في دراستها: «تقنية الاستهلال والختام في القصة النسائية الإماراتية». هذا المدخل الأثير هو ما يسمى بالاستهلال، وهو المفتاح المحرك للقارئ لمتابعة القصة. وقد أشار البلاغيون القدامى إلى أهميّته الخاصة، فهو « أول ما يقرع السمع، فإن كان كما ذكرنا، أقبل السّامع على الكلام، فوعى جميعه، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه، وإن كان في غاية الحسن» (1). ويبدو أن جذب الانتباه والتشويق هما من أولى وظائف الاستهلال، ووفقاً لذلك فإن ميلاد النّسق الافتتاحي ليس عملية سهلة، وإنّما يخضع لمهارة القاص وإبداعه في طريقة الإخبار، والأسلوب، واللغة الإيحائية التي ينطلق القارئ من خلالها إلى المتن المركزي. وإذا كان المشهد الاستهلالي عتبة دخول، فإن الخاتمة هي عتبة الخروج، وتتميز عن المدخل، من حيث إن بلوغها لا يعني نهاية القص، مثلما تعني المقدمات والمطالع والعناوين بداية النصوص، لأن القارئ يظل مشغولاً بالنص بعد الخروج منه. فالخاتمة تغلق النص، ولكنّها لا تغلق اشتغاله في أذهان القراء (2). وتتخذ الخاتمة في القصة القصيرة شكلين: النهاية المغلقة؛ حينما تبلغ الأحداث نهايتها، بحيث تشبع فضول القارئ في معرفة النهاية، وتخمد ضجيج الفكر الذي يستولي عليه. النهاية المفتوحة؛ تفسح المجال للقارئ لكي يبحر في تأويلاته المتعددة، ليصل إلى نهاية مناسبة منطقية. رجل يبدأ المشهد في قصة (رجل) لفاطمة الكعبي (مجموعة مواء امرأة، ص 5-9)، بافتتاحية شائقة، وبحديث النّفس المكثف حول شخصية غامضة لا ندرك كنهها إلا بعد متابعة الأحداث: «أيبدو أطول قامة، أم هي ارتعاشة الضوء على وجهه أوهمتني بذلك، لم تستطع البرودة الناعمة لتلك الغرفة أن تخفف ضربات قلبي التي كانت بحجم طرقات الطبول، ولكن يده التي أرسلها إلى ظهري ليدخلني ويغلق الباب، كانت كافية لتكنس خوفي وتنظم فوضى خطواتي. تركني أتلمس هدوء الغرفة بحواسي المضطربة، وجلس غير بعيد يقلب صحيفة، مفسحاً لي هواء خالياً من نظراته لاستعادة أنفاسي وسكينتي، لكني شعرت بعينيه تتوهجان لهفة، وبجسده يبعث ألحاناً تدعوني إلى أغنية ما....». في هذه الافتتاحية ارتكزت القاصة على الوصف، وصف الشخصية جسدياً: (طول القامة، يده، عينيه، جسده..) ، والوصف النفسي لحالة الخوف والقلق والارتباك الذي سكن أعماقها: (ضربات قلبي، خوفي ، فوضى خطواتي، حواسي المضطربة، أنفاسي..). هذا الغموض الذي أحاط بمشهد الاستهلال سرعان ما تبدد بالعودة بنا خطوة إلى الوراء، لنتعرّف عن طريق الارتداد الفني» الفلاش بلاك» تفاصيل الحدث الذي يبدأ برسالة يرسلها هذا الشخص إلى البطلة، ويطلب منها عدم التأخر عنه، فتهرع لملاقاته دون أن تبالي بصراخ أبيها العجوز الذي يتوعدها بالقتل إن خرجت في هذا الوقت، ثم تصل إليه ويبدأ الحوار ونشوة الحديث، والشّوق الذي يغمر قلبيهما، وكل منهما ينضح لهفة للآخر، إلى أن جاءت الخاتمة متضادة تماماً مع الاستهلال المفرح حيث «اصطدمت أصابعها بجسد امرأة خشن، ذهبي اللون، كان يحيط بنصره الأيسر بقوة، فتراجعت مذهولة، وكأنّ الخاتم لدغني، واتسعت عيناي على آخرهما، وسرعان ما غصتا بالبكاء... سحبت عباءتي، وخرجت وأنا ألهث تاركة باب تلك الغرفة مشرعاً على رجل، لا أعرف لماذا كان يصيح باسمي». انتهت القصة بمفارقة عجيبة خالفت أفق توقع القارئ، وبخاتمة غير متوقعة لتلك الفتاة التي طالعتنا عبر الاستهلال، مغتبطة مقبلة على الحياة. مرافئ الضياع أما قصة ( مرافئ الضياع) لنجيبة الرفاعي فيبدأ المشهد الاستهلالي بوصف سردي واضح، ويدخل في نسيج الاستهلال فرح البطلة بوفاة أبيها، بعد سلسلة من المعاناة والقسوة التي تجرعتها من هذه العلاقة الأبوية الجافة: «تتأملهم وهم ينتحبون، ترتجف ضلوعهم الكاذبة بنشيج مصطنع، يحاولون أن يتقنوا دور الحزن، فتفضحهم لمعة عيونهم الفرحة.. يلتفون حول سريره ويحولقون، يحثونها على الصبر ولا يعلمون أنها كانت تعشق هذه اللحظة منذ زمن بعيد..شعور بالخطيئة يتلبس ضميرها وهي تنظر بسعادة إلى ذلك الجسد المسجى، جسد تعرفه منذ زمن بعيد، إنه أبوها، لكنها لم تشعر يوماً بنعيم هذه الصلة الروحية، ولم تنل من هذه الرابطة سوى القسوة والخوف من المجهول، تمنت لو لم يكن يوماً في حياتها، لو تتلاشى أنفاسه وصورته وشخصه، بمعجزة إلهية تنقذها من قيده الأبوي.. وأتتها النهاية كما أرادت.. وبسرعة». (مجموعة أول خطوة في الحلم، قصة مرافئ الضياع، ص 79 - 84). ثم تتابع تفاصيل الأحداث اللّاحقة عن طريق الارتداد الفني «الفلاش باك»، حينما تعود بذاكرتها إلى الوراء لتسترجع قسوة والدها واستبداده عليهم، بدءاً بأختها الكبرى التي زوجها رغماً عنها، إلى أن جاء دورها مع عريس في الخمسين من عمره، وحينما رفضت رماها تحت أقدام زوجته الثانية لتعمل خادمة في بيتها، ونادلة توزّع كؤوس الخمر على أصحابه، ثم مات نتيجة جرعة كبيرة من الخمر، لم يقو عليها جسده المنهك، وبعد وفاته تدخل في سلسلة أخرى من حياتها، في علاقات محرمة مصيرها السجن والعار، وتنتهي القصة بخاتمة مفتوحة تحتمل كل التأويلات، وتترك للقارئ فرصة ليشارك الكاتب في وضع نهاية متوقعة منطقية: إنها الآن تمشي .. لا تعرف على أين .. تقطعت خيوط علاقاتها، ولفظها كل من يعرفها، أضحى اسمها نجاسة يتبرأ منها الجميع.. تهرب من تحت قدميها كل الدروب الواضحة.. تلمح شاباً يتبعها، يبحث هو الآخر عن مرفأ.. يقترب منها تلتحم روحاهما الضائعة ثم يغيبان...». عصافير المساء يأتي المشهد الافتتاحي في قصة (عصافير المساء) لفاطمة المزروعي مكتنزاً بمعاني الحزن والكآبة لفتاة كسيرة، موجوعة، أنهكتها أعاصير المحن، وألوت عنقها الأشجان: «أراحت ظهرها على الوسادة، وجسدها يئن بصوت مسموع، ترجمه صوتها المبحوح الذي خرج إلى حيز هذه الغرفة الصغيرة التي اقتيدت إليها رغماً عنها.. تمد يديها إلى وجهها، تدرك مسبقاً أية آثار قد تركها الزمن عليه، تلك الملامح التي خطت الثلاثين عاماً بقليل.. تخفض عينيها ونظراتها الكسيرة، الغائرة، تكاد تستغيث من هول ما أصابها في تلك المدة، إنها الآن شبه ميتة على فراش المرض، تتجرع سكراته بهدوء مميت، أحلامها تآكلت خلف جدران ذلك المنزل وأجوائه الخانقة ...». (ليلة العيد، عصافير المساء، ص 56 - 58). تصف الساردة الحالة النفسية التي تمر بها الفتاة. وسط أجواء تعمها الكآبة والسأم، وسلسلة من الإحباطات التي فجرت في أعماقها ألماً لا يمحى.. ومع مجريات الأحداث نكتشف أن والدتها- مصدر الحنان والاهتمام- فارقت الحياة، والرجل الذي اختارته لتكمل معه مسيرة حياتها قد رفضه والدها دونما سبب، أغلقت في وجهها أبواب الحياة، وانسحقت رغباتها وآمالها تحت أقدام المقربين المحيطين بها، وتخلى عنها الجميع حتى أخوتها. ثم يأتي المشهد الختامي الأخير من سلسلة الأوجاع والتنهيدات، لينتهي بخاتمة مفتوحة تترك للقارئ مجالاً للتأويل والتفسير ليشارك الكاتب في وضع نهاية مأساوية للفتاة كالموت، الجنون...الخ. «اليوم تجتر آهاتها وحدها، كم كانت تخشى الوحدة، بكت، كانت تتوق إلى والدتها كثيراً، حتى تحتضنها إليها، أحاطت بها آلاف الدوائر المظلمة، كانت تخرج من دائرة إلى أخرى أكثر عتمة..عام بأكمله، سجنوها في أشد الزنزانات قسوة، جعلوها تذوق مرارة الحرمان وتتذوقه، بأقدامهم وطئوا أرضها الخضراء التي جاهدت أعواماً لتزرع فيها الورود والزهور.....رأت والدتها وجهها الناصع بالبياض، عيناها الصافيتان، ابتسامتها الحنونة، فأسرعت تجري نحوها بسعادة، وسقطت في حضنها، وهي تصرخ : « أماه خذيني معك، أريد العيش مع هذه العصافير...لم تجبها والدتها، إنما ابتسمت بحنان، وهي تضمها أكثر وأكثر، وشعرت بالفرح، أدركت بأنها لن تعود إلى عالم البشر أبداً، ولا إلى قسوتهم...». الرجل يقدّم القاص حارب الظاهري في قصة ( الرجل) نسقاً افتتاحياً مشوقاً، وبلغة شعرية كثيفة، حيث يجسّد صورة رجل مهيب في منزل يعج بالأفراد ( الزوجة، الأبناء، الأخوة، الأخوات) وكل منهم يهذي بالأماني، وينتظر مستقبلاً مترعاً بالمسرة، وحافلاً بالثراء والغنى. ينتهي المشهد الافتتاحي لنلج أجواء القصة ونتابع الأحداث، فنكتشف أن غياب الأب بموته أو –كما ذكر في القصة – بوجوده غير المرئي، هو الباعث على الفرح، ودخول عالم الحرية، والخلاص من القيود والضغوط. « أكان يوماً مشهوداً، تهامست به العصافير الجائعة التي غادرت أعشاشها، تاركة نتاف ريشها تحت ظلال الأشجار الوارفة، بينما ضوء الشمس يتخلل الهواء برعونة جامدة. وعالم الرجل هو منزله المتصلب على أرض جرداء. اليوم يصادف العشرين من عمر المنزل المديد. وبابه موصد بثقل من حديد. قامة الرجل معجونة بشكل بربري مخيف. وجهه يتشرنق حول ساحة السنون المتعبة. وصوته الجهوري بدأ يتهتك. يقال بأنه بدأ يتلاشى من جوف ذلك المنزل. إلا أنّ هناك قولاً آخر بأنه مازال موجوداً بينهم، لكنهم لا يرونه. اجتمعت الأسرة كلها القاطنة في المنزل، وأعلنوا هذيانهم المطبق بالأماني ...» (حارب الظاهري، مجموعة مندلين، قصة الرجل، ص 63). وبعد هذا الاستهلال المكتنز بالآهات المكبوتة، والقهر الدفين خلال سنوات طويلة، يبدأ التفكير بخطوات جريئة لبداية صفحة مشرقة في حياتهم.. تبدأ الخطوة الأولى بتحطيم صورة ذلك الأب، ثم التفتيش في صناديقه عن الثروة التي حرمهم منها.. وتجري الأحداث لنصل إلى المشهد الختامي، حيث تتحول الأماني والرغبات المكبوتة إلى سراب مخيف حينما يتراءى أمامهم بوجهه المكفهر، وقد استغرقتهم المفاجأة، إذ لم يتوقعوا استيقاظه من جديد. إن هذه المفارقة بين الاستهلال والخاتمة تضفي على القصة طابعاً مشوقاً، حيث تباغت القارئ بأحداث غير متوقعة: « تصلب فجأة كالمارد ..لوح بعصاه الخرافية.. فتساقطوا الواحد تلو الآخر، يخشون النظر في وجهه الصلد، تهوي العصا على رؤوسهم.. قال وهو يقهقه كالمحارب القديم: سأبيد هذه الأموال اللعينة في الحال ...» (ص:66 - 67 ). نجد بنيتي الاستهلال والخاتمة قد وظفتا توظيفاً دلالياً يشيان بأحداث القصة، ويؤثران في ذات القارئ، ونستشف في هذه القصص سمة التنويع في إيراد الاستهلال والخاتمة، فهما يتطابقان ويتجانسان معاً، أو قد يتضادان تماماً، أو قد تأتي الخاتمة مفتوحة، تنمو من نسيج القصة وأحداثها. ................................. (1) القزويني: الخطيب، الايضاح في علوم البلاغة، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، منشورات دار الكتاب اللبناني، ص 591. (2) صالح: عالية، البناء السردي في روايات إلياس خوري، أزمنة للنشر والتوزيع، ص 250. مفارقة بتسليط الضوء على القصة الإماراتية، بأنساقها الافتتاحية والختامية، كميدان تطبيقي، فإن ثمّة ملامح تتميز بها تلك الأنساق، فمنها ما يتجانس استهلالها مع خاتمتها، بأحداث متوقعة وواضحة، ومنها ما لا يشي استهلالها السعيد بخاتمتها المحزنة أو العكس، بمفارقة تكسو القصة طابعاً فنياً مميزاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©