الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطاغوت.. طوفان شامل

الطاغوت.. طوفان شامل
31 أغسطس 2016 19:42
حنا عبود من رواية أميركا اللاتينية، الواقعية السحرية، نستخلص قانوناً للطاغوت، وهو أنّه عندما يكبر الديكتاتور تطول يده لتصل إلى كل شيء، فيصبح بإمكانه حجز أي شيء عن أي شيء، وعندما يرى البشر أشياء وأدوات... يتحوّل إلى طاغوت، فليس الطاغوت حكراً على الميدان السياسي، بل قد يكون في أي ميدان، حتى في علاقة الأب بأبنائه، أو الأم بأبنائها، وقد حظي الطغيان بقسط كبير من الأدب، ولو نظرنا في الأدب الروسي، وهو من الآداب النموذجية في تصوير الطغيان الشمولي، لوجدنا التاريخ الذي طالب بكتابته إمام عبد الفتاح إمام في كتابه (الطاغية)، معروضاً في هذا الأدب، ولو عرضاً ضبابياً، بحيث تستثنى شخصية القيصر، وينصب الاهتمام على المكاتب والإدارات، وما (موت موظف) لتشيخوف سوى لمحة كاشفة أكثر من مئات الصفحات (التاريخية)، فالأدب الروسي، قبل الثورة، يتعامل مع الاستبداد، خاصة مع الاستبداد الاجتماعي بوضوح أكبر بكثير من الإشارات البسيطة التي تدل على الطغيان السياسي، لكنه بعد الثورة، يتحول إلى أدب صريح يقدم الصورة البشعة للطغيان الشمولي، ويكفي القول إن رواية «نحن» لزمياتين، كانت وراء كثير من الروايات الأوروبية والأميركية اللاتينية. كلمة طاغوت شاملة لكل شيء تقريباً، فلا تقتصر على العسف المادي أو الاجتماعي، بل تمتد لتصل إلى الأدب والفن وحتى الأحلام، ففي روما كان هناك ديوان اسمه ديوان الأحلام، يسجل فيه الحالمون أحلامهم، ويأتي المبصرون ومفسرو الأحلام، فمن كان حلمه جميلاً نال جائزة، ويعدم من كان في حلمه شؤم أو شيء من الشؤم، وكان صاحب الحلم المشؤوم يقتل نفسه حتى يحمي وطنه. وبهذا يكون الديكتاتور دون الطاغوت بكثير، إذا اقتصر على الإمساك بالحياة السياسية وحدها. إن الطاغوت طوفان شامل لا توجد ظاهرة لا يكون له فيها أثر: الأدب والفن والفلسفة والتربية والتعليم والتلفاز والرسم والنحت والفن والصحف والمجلات وملصقات الشوارع والقضاء والشعر والرقص والدبكة في الساحات العامة والخبز والبن والشاي... وتقنين المواد التموينية، مع أنها متوافرة عند الدولة، لينشغل الشعب بالحصول على هذه المواد، فتصبح بديلاً عن السياسة والثقافة، وعلى هذا لم يكن فرانكو طاغوتاً، أي لم يكن معتمداً أيديولوجية قمعية معينة، ولم تكن له صور معلقة على الحيطان وطريق المطار وأشجار الحدائق، مثل شاوشسكو وأمثاله... فقد كان له برنامج محدد، استلم إسبانيا، وكانت دماراً، وتركها وهي الثامنة بين الدول المتقدمة، ولم تكن له أعمال كيدية سوى أنه كلف المساجين الشيوعيين ببناء الكنائس، لقاء إطلاق سراحهم، كان فرانكو مستبداً، لا لنفسه، ولا لأسرته، على عكس من ظهر في العالم بعده مثل بول بوت وبينوشيه... وعسكر الانقلابات في الوطن العربي، وهم أصحاب أحلام مشؤومة دمرت أوطانهم، فكان فرانكو ديكتاتوراً في ميادين معيّنة. الطاغوت لون واحد، أما الديكتاتور فله الكثير من الألوان. على أثر احتلال الكويت في العصر الحديث، عمد عبد الغفار مكاوي إلى طرح أسئلة «بعدد حبات الرمل»، عن الاستبداد والمستبدين، وهذا ما جعله يعود إلى النصوص العراقية القديمة، حتى حمورابي وقوانينه، للوقوف على «جذور الاستبداد» الذي جعله عنواناً لكتاب لا نظن أن القارئ يخرج منه بجواب مريح، على الرغم من الحماسة الدافعة، والعلم العميق الذي عرف عن الباحث المرهف، فهو نفسه يخرج حائراً من هذا التكرار للاستبداد، ألا يعرف المستبد أن نهايته محتومة؟ ألا يعرف أن التاريخ سيفنيه كما أفنى مَن سبقه؟ ألا يدرك أن الشعب سوف يلعنه ويلفظه؟ صحيح أن المؤلف يصرح بأن التاريخ لا يكرر نفسه، ولكن القارئ يخرج بانطباع أن مكاوي في قرارة نفسه يرى أن هناك تكراراً في التاريخ. وعمّم الاستبداد إلى حدّ وصل به إلى آلاف السنوات قبل الميلاد. وهكذا يقع في تضارب بين اعتقاده أن أحداث التاريخ لا يمكن أن تتكرر، وبين ظاهرة الاستبداد التي تتكرر باستمرار. كتاب «الطاغية» لإمام عبد الفتاح إمام، الذي غاص إلى العمق الفلسفي، يقدم مناقشة عميقة وشاملة لكثير من جوانب الطواغيت، والآثار السلبية التي تتركها فترة حكمهم. فنحن هنا أمام كتاب متكامل، ويمتاز بدراسته لأنواع الطغيان والاستبداد، والتفسير الفلسفي من أيام أرسطو حتى اليوم. وقد أعرض عن ذكر الدكتاتوريين والطواغيت المعاصرين، لكنه وبكل جرأة طالب بكتابة تاريخ يتخصص بهؤلاء الذين اعتبرهم علة البشرية، والعقبة الكبيرة في وجه السلم الاجتماعي. ولا نشك في أنه الأقدر على تنفيذ هذه المهمة. العباءة والخنجر ننتهي من قراءة كتاب «جذور الاستبداد»، أو سواه، من غير أن نحصل على طريقة عملية ومقنعة للتخلص من الطاغوت، فالحلول المشار إليها كلها استراتيجية على المدى الطويل جداً، لكننا نرى، مع تقديرنا لكل الحلول، أن التاريخ لم يثبت إمكانية الخلاص من الطاغوت من دون الإجهاز المباشر أو المؤامرة، أو ما يسمّى في الروايات التاريخية «العباءة والخنجر»، فهي الطريقة الأنجع والأسرع، فحتى لو احتج الشعب بكامله ضده، لما غيّر ذلك شيئاً، لا هو يزاح، ولا تصرفه يتحسن. وسوف نقدم مثالين قديمين، ظهر منهما مصطلح «العباءة والخنجر»، لأن القتلة خبؤوا خنجرهم تحت العباءة، عندما دخلوا المجلس، وهي الطريقة الأمثل للخلاص من الطاغوت. رومولوس كان جباراً حتى على أقربائه وأنسب أنسبائه، قتل أخاه كما قتل قابيل أخاه هابيل، لسبب تافه جداً، أراد تجديد النسل فسطا على النساء السابينات، ولم يكن يقف في وجهه أحد، وصار مجلس الشيوخ شكلياً، كل قراراته عبارة عن إرادة من الطاغوت فقط، ثم عرف أحد الشيوخ من أحد المبصرين والمنجمين أن الكسوف حاصل لا محالة، وحدد له ظهيرة اليوم الذي ستغرق روما في ظلام دامس، لمدة ليست قصيرة. فأشاع الرجل الخبر، وعندما حلّ اليوم الموعود أدخل كل عضوٍ خنجراً تحت عباءته إلى المجلس، وانتظروا حتى حلّ الكسوف وعمّ الظلام فانقضوا على الطاغوت ريمولوس وأخذ كل واحد قطعة من جسده وخبأها تحت عباءته، فلما سئلوا عن رومولوس أجابوا بأن الآلهة أخذته إلى السماء، ولما أرادوا أن يقيموا له التماثيل قالوا لهم بأن اسمه صار «كويرينوس»، وليس «رومولوس»، وبذلك قضوا على اسمه كما قضوا على شخصه، إذ كانوا قديماً يربطون بين اللغة والسحر، وحتى اليوم يذكرون غائباً، فإذا هو يحضر بعد قليل، كأن ذكر اسمه في اللغة هو ما استحضره. يوليوس تكررت الطريقة في حكم يوليوس قيصر، الذي سعى لإعلان الربوبية، جرياً على العادة القديمة للأبطال والقادة العسكريين، وأدرك مجلس الشيوخ خطورة ذلك، وكيف ستؤول الأمور، فعمد إلى العباءة والخنجر، وقضى عليه بالطريقة ذاتها، سوى أن الجثمان بقي في مكانه، برائعة النهار، ومن دون حدوث كسوف. وفي العصور الحديثة تكررت الطريقة، لكنها هذه المرة حصلت علنية مع الطواغيت الجدد في القرن العشرين، وبناء على تفويض دولي قضي على أمثال رومولوس، مثل بول بوت وعيدي أمين. أما في حال عدم الوفاق الدولي فإن الطواغيت تكون موضع مساومة، فقد تجري دماء غزيرة قبل أن يهتز عرش طاغوت. والغريب أن الظاهرة ذاتها موجودة في أميركا اللاتينية، كما في آسيا وأفريقيا، ولكن ليس هناك اليوم أدب يضاهي أدب أميركا اللاتينية في تصوير شخصية الطاغوت. في الأدب السياسي من رومولوس وحتى بينوشيه، وحتى آخر طاغوت في العالم، هناك ظاهرة واضحة هي أنهم جميعاً، أو لنقل معظمهم، عسكر، لا يعرفون النبل. ومن النادر أن يكون الطاغية ملكاً، أي تربى على الآداب الملكية، أو جاء من أسرة عريقة في التقاليد النبيلة، فالطاغية لا يكون نبيلاً أبداً. ولا يهم ماذا يقال عنه، فكل مساوئ العالم رمتها الثورة الفرنسية على لويس السادس عشر، بينما هو أطيب وأنبل وأعظم... وأضعف ملك عرفته أوروبا، فقد باع أملاكه وما ورث من العائلة لتسديد عجز الميزانية التي كانت تنفق على الثورة الأميركية، وعندما تكون بلادٌ أوروبية خلواً من حاكم، كما حصل في إسبانيا، كانوا يناشدون الأسر الملكية الأوروبية أن ترسل لهم ملكاً، لا عسكرياً، من أسرة نبيلة لا من أسرة عسكرية. وكان التشريع اليوناني الأول في العالم الذي يمنع أي أذى لأي ملك أو نبيل، لأنه في حال تقيده بالتقاليد النبيلة يخطئ ولا يخون، ولكن هذا القانون نفسه يبيح قتل كل من يتحوّل إلى طاغوت، بل إن من يقتل الطاغوت يقف أمام المحكمة، لا ليحاكم، بل ليحقق القضاة له أي مطلب، على ألا يكون مخالفاً للتقاليد النبيلة. من الصعب أن نقتنع أن الطاغوت يمثل إرادة «طبقية»، أو أنه يقوم بتنفيذ «حتمية تاريخية»، مثلما حاولت الماركسية إقناعنا بذلك، كما في كتاب «أنتي دوهرنغ» لإنجلز، أو كما بسط ذلك بسطاً مطوّلاً جيورجي بليخانوف «دور الفرد في التاريخ». فالطاغوت يلمّ حوله كل من لا يملك مؤهلات دخول المجتمع الراقي، إن المشوّهين والسيكوباتيين والمهمّشين والمهرّبين (لا ينمو التهريب في ظل أي حكم، كما ينمو في حكم الطواغيت) هم أشد مؤيدي الطاغوت. ولا ننسى طبعاً أن الجبناء أو الذين يعتقدون أنهم يحافظون على كرامتهم بـ«مسايرة» الطاغوت من الطبقات العليا والتجار، وكل من ليس بيده قوة مادية يقاوم الطاغية بها... يقفون إلى جانب الطاغوت، على كره وخوف. أما الرعاع وجماعات المافيا فيكثرون ويتكاثرون في عهد الطاغوت، الذي تبيّن أنه يشرف مباشرة عليهم وعلى أمثالهم، ثم إن نابليون الذي يحتجون به، وصاحب القانون الشهير، لا يمكن أن يعتبر نموذجاً معمماً على علاته، لأسباب كثيرة ليس مجالها هنا، وظروف الثورة الفرنسية بعد عهد الإرهاب تختلف عن ظروفها قبله اختلافاً كبيراً. ونظن أن تفسير تشيرنيشيفسكي للسلوك البشري أقرب إلى إقناعنا من قسر الأحداث التاريخية لخدمة النظرية الطبقية، فالأنا المتضخمة، المغامِرة تعويضاً لنقص كبير في أعماقها، والمنطوية على الخواء الثقافي وعلى جبن متأصل وخوف دائم تكمن وراء الطواغيت.في كثير من بلدان أوروبا انتهى أدب الطواغيت، أو صارت الطواغيت خفيّة كطواغيت كافكا، لكنهم تكرروا كثيراً، مثل أغنية الشيطان، في العالم الثالث، وهو أدب يقرّ أن الطاغوت، لخوائه الثقافي، ولبعده عن التقاليد الإنسانية النبيلة، يعمد إلى مسح معالم العملة الاجتماعية فلا تعود صالحة للتداول، فإذا كانت هناك شخصية ذات وزن اجتماعي أو سياسي أو ذات أصل نبيل... عمد الطاغوت إلى الخلاص منها، حتى تصير كلمة أصغر موظف أمني أقوى من أي كلمة ثقافية أو فكرية أو فنية... في عهد الطاغوت تموت القيم النبيلة، في انتظار العباءة والخنجر. وما نخشاه أن يكون صاحب العباءة والخنجر طاغوتاً جديداً، فتعود الصخرة، ويعود سيزيف. خنجر التاريخ التاريخ لم يثبت إمكانية الخلاص من الطاغوت من دون الإجهاز المباشر أو المؤامرة، أو ما يسمّى في الروايات التاريخية «العباءة والخنجر»، فهي الطريقة الأنجع والأسرع، فحتى لو احتج الشعب بكامله ضده، لما غيّر ذلك شيئاً، لا هو يزاح، ولا تصرفه يتحسن، والخشية أن يعتاد الشعب على الانصياع للطاغية، فنحتاج وقتئذ إلى علم نفس اجتماعي يحلل لنا الوضع العجيب. العالم الثالث في الوطن العربي، ظهرت كتب عديدة، ربما كان «طبائع الاستبداد» من أوائلها، فأحدث هزة كبيرة جداً، ولقي قبولاً حسناً، وأحدث تغييراً في النظرة إلى الطواغيت المتذرعين بالقداسة، ولم يفرّق الكواكبي بين الطاغوت والمستبد الذي يوجد في كل مكان، بينما الطاغوت منحصر جغرافياً في العالم الثالث، أو الجنوبي أو الشرقي... منذ أيام أرسطو والآداب اليونانية. نصف أو ربع دكتاتور أبدع أدباء أميركا اللاتينية في تصوير ألوان الدكتاتوريات والطواغيت، حتى أنك تجد أحياناً صورة لنصف دكتاتور أو ربعه، ولكنك في دول أخرى لا تجد سوى طاغية لا يتجزأ، ولا يزاح بالصلاة ولا بالسحر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©