الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان.. كائن لغوي

الإنسان.. كائن لغوي
31 أغسطس 2016 19:36
سعيد بنكراد لم تولد اللغة من رحم النفعي في الوجود الإنساني، كما تشير إلى ذلك الكثير من بداهات التبادل الاجتماعي. فليست حاجات المعيش اليومي هي أساس وجودنا فيها، فقليل من إيماءات الجسد وحركاته كفيل بتلبية جزء كبير من هذه الحاجات. فلن يموت المرء جوعاً ولن يَعرى في بلاد يجهل كل شيء عما يقوله لسانُها، ولكنه لن يستطيع أبداً تكثيف انفعالاته الداخلية الأكثر تجريداً والكشف عنها وتبليغها اعتماداً على ما تقوله هذه الإيماءات. إن اللغة وحدها قادرة على القيام بذلك، فهي أداة لرصد حالات النفس والفصل بينها، وهي غطاء لمجمل الأهواء فيها، وهي أيضاً وأساساً ما مَكَّن «الإنسان» من تنظيم تجربته في انفصال كلي عن زمانه وفضائه، وهي ما مَكَّنه من استيطان فسيح المتخيل والمحتمل والممكن والمستهام. إننا نوجد بشكل سابق على ولادتنا في خطاب من سبقونا. فلا شيء فينا وفي العالم يمكن أن يُستبطن ويُخزن أو يطفو إلى السطح خارج لفظ اللغة وتركيبها ودلالاتها، ولا شيء في الوجود يمكن أن يُدرك أو يُكشف عنه خارج تقطيعاتها المفهومية. إن اللغة ليست مجرد غطاء عرضي، إنها في المقام الأول نظام يُفرض على ما يمْثُل أمام الحواس سديمياً متعدداً متنافراً يسير في كل الاتجاهات. لقد كانت اللغة دائماً شاهداً على قدرة الإنسان على خلق التراكم في الرموز وفي ما يقوم مقامها في انفصال كلي عن محيط طبيعي «صامت» لا يتكاثر إلا في نسخ مادية يشبه بعضها بعضاً. فبواسطة التجريد الرمزي أصبح العالم «دالاً» في الذاكرة من خلال اللفظ والشكل واللون والامتداد لا بالمادة وحدها. بل قد يكون الأمر أعمق من ذلك، فقد استدخل الإنسان العالم واستبطنه وفق ما تبيحه ممكناتها، ومنها استمد صوره واستيهاماته واستعاراته الدالة على القوة والصفاء والطهارة والنقاء. وهي صور مجردة في النفس، ملموسة، بحكم حالات التناظر، في الخارج وفي مجمل العوالم الممكنة. سحر البيان تلك حكاية الإنسان مع كل الرموز، فالأداة في اليد ليست غريبة عن اللفظ في النفس، فكلاهما يشير إلى لحظة انعتاق الكائن البشري من إسار الطبيعة ليُحلق بعيداً في عوالم هي من صنع اللغة وحدها، «غابة من الرموز» (بودلير)، مزيج من الحقائق والأوهام والاستيهامات، وكل ما يمكن أن يأتي به التمثيل الرمزي بعيداً عن إكراهات الواقع. يتعلق الأمر بـ «سحر البيان» و»غواية الكلمات» و»الخلق الشعري»، أو يتعلق، بما هو أبعد من ذلك، بأساطير أرَّخت لنشأة الكون وفصلت القول في زمنيته، ولكنها لم تكن، في حقيقتها، سوى تشخيص مفصل لاستعارات أفرزتها لغة الإنسان نفسه، دلالة على رغبته في استعادة ما خفي عنه وما نسيه وما غطى عليه الدهر. وهو ما يعني أن اللغة ليست مجرد أداة للتعرف، إنها جسر يصلنا بالعالم الخارجي لكي نُعيد صياغته داخلها، فهي «مثوى الإنسان وبيته» (هايدغر). إنها لا تعيرنا وَحَداتها وتركيبها، بل تفرضهما علينا لنقول ما تود هي قوله من خلالنا. فنحن لا نوجد في الكون باعتبارنا وعيا «حافياً» يواجه عالماً بلا ذاكرة، بل نأتي إليه من خلال ما تراكم داخلها من معارف وخبرات. ذلك أن العين لا تُمسك بالحسي في الأشياء، بل تُسرب إلى الذهن ما يأتيها من خارجها في صيغة تمثيل لساني (رمزي) هو منطلق التجريد المفهومي والتحكم الرمزي في ما استعصى على الإحاطة به في وجوده الأصلي، ما كان يسميه كاسيرير «الأشكال الرمزية»، تلك الواجهة البرانية التي تَعَلم من خلالها الإنسان كيف يتعرف على نفسه ومحيطه في ما هو أبعد من انعكاساته في الطبيعة. فنحن نعيش داخل الطبيعة في تماس مباشر مع أشيائها وكائناتها، إلا أن سلوكنا تجاه هذه الكيانات لا يُستمد من أشكالها أو وظائفها، بل يعود إلى التصور الذي نملكه عنها، ومن خلاله نستحضرها في كل تجاربنا. إننا نتداولها ونفصِّل القول فيها من خلال علامات دالة عليها. وقد تكون هذه العلامات أغنى من الأشياء التي تحل محلها، إن «شجرة اللغة» أغنى في الذاكرة الثقافية والدينية من «الشجرة الحقيقية»، فالأولى هي «الأصل» و»الخلد» و»المعرفة» و»الاستنارة» و»البيعة» و»الخصوبة»، وكثير من صفات نجهلها في ثقافات ولغات أخرى. ولو لم يكن الأمر كذلك لما انتابنا الخوف والرهبة من كائنات لا تُرى حقيقة ومجازاً، من قبيل الغول والجن والعفاريت والشياطين وكائنات أخرى تعيش بين ظهرانينا في الثقافة، لا في الوجود الواقعي. وتلك هي قوة اللغة وذاك سلطانها، إنها هي ما يروض الوجود الطبيعي، وهي ما يوجه الحواس ويُؤنسنها ويميز بين حالاتها، إنها حاضرة في مدار الرؤية، وفي ما يحدد مناطق السمع والشم واللمس والذوق. وهي حاضرة كذلك في صياغة كل الانفعالات التي يجب أن تُترجم لفظاً لكي تستقر في الذاكرة ويتميز من خلالها هذا الحس عن ذاك. ودونها لن يكون «الحسي» فينا سوى منافذ خرساء لا تعي ولا تدرك إلا ما يأتي إليها بعيداً عن كل الوسائط. فنحن نشم العطور ونتذوق ملذات الطعام ونَهيم فرحاً بما يأتي من الألوان أو تشمئز رؤانا أمامها وتنكسر، إننا نفعل ذلك دائماً استناداً إلى سلسلة من التصنيفات الدلالية المودعة في اللغة، لا استناداً إلى خاصية من خاصيات الحواس. فهذه المنافذ هي التي تصطدم بالعالم حقاً، ولكن الوعي الثقافي عندنا هو الذي يميز بين خاصياته. يتعلق الأمر بأسنن للتعرف والتمييز والتنويع، ودونها سيتساوى كل شيء في النفس وفي الطبيعة. يصدق هذا الأمر على الحواس، ويصدق على التسميات أيضاً، فالاسم ليس تعييناً لشيء، بل هو في المقام الأول فصل وتمييز وتنويع ثقافي، بل هو في أحيان كثيرة نعت «يصف» و»يحكم»، لا مجرد أداة «تعين» و»تميز»: إن الشهيد أكثر من كائن فقد الحياة، والشجاعة ليست هي التهور، والنَّهْد موجه لعوالم الإغراء، أما الثدي فللرضاعة وحدها. لذلك لا نتعلم «الكلام» لكي نُشبع حاجات الحسي والغريزي في الذات، بل نفعل ذلك لكي نتعلم كيف نفكر من خلال رموز صوتية بدونها سيظل العالم موحشاً غيرَ قادر على استيعاب الخيرات الرمزية التي صاحبت الوجود الإنساني في الأرض. فكل شيء يتم داخل اللغة ووفق قوانينها، كما لو أن الجوهر الإنساني أودع داخلها: صفاته وأفعاله وأسماءه والمعاني التي ينتجها وكذا الأحكام والتصنيفات. فنحن نستعمل اللغة في «غفلة من أسرارها» (المسدي)، ونستعملها من أجل صياغة معاني هي في الأصل موجودة قبلُ، ولا نقوم سوى بتحيين بعض الوجوه منها (فوكو)، أو الإحالة على بعض تجلياتها استجابة لسياقات لاحقة لما سبق أن راكمته. وتلك هي الروابط بين ما ورثناه عن السلف وبين ممكنات الإبداع عندنا في الحاضر. النسق اللساني من هذه الزاوية، ومن كل الزوايا أيضاً، لن يكون الإنسان سوى «اللغة التي يتكلمها، ذلك أن الثقافة ليست شيئاً آخر غير ما يكشف عنه النسق اللساني الذي يتضمن كل الأنساق. فحتى عندما يتوهم الإنسان أنه يتكلم، فإنه يكون في ذلك محكوماً بالقواعد التي تنتظم وفقها العلامات التي يستعملها أداة لكلامه. إن معرفة هذه القواعد معناه معرفة المجتمع، ولكنها تعني أيضاً معرفة التحديدات السميائية لما كان يسمى قديماً البنيات الذهنية، أي التحديدات التي تجعل منا فكرا»(1). «فالأساسي في الوجود هو اللغة دائماً، أما الباقي فمجرد ثرثرة»، بتعبير يونيسكو (2). وهي صيغة أخرى للقول، إن الإنسان والمجتمع والإنسانية جمعاء كلها منتجات لسانية، أو هي حاصل ما كان يسميه إيكو «تجارة العلامات» (3). وقد يكون ذلك مبرراً للقول إننا نولد وننمو ونندحر داخل اللغة ومن خلالها نقيس كل شيء في حياتنا، «فتعرفنا على العالم وعلى الآخرين وعلى أنفسنا وثيق الصلة بتعلمنا للكلام «(4). وهنا أيضاً تكون اللغة أقوى وأوسع مدى من مرجعها، ذلك أن «الكلمات فيها لا تدل على شيء، بل تُشير إلى شخص يفكر في هذا الشيء» (فاليري). وتلك هي الحالات التي تفصل بين الكائنات: إن المذكر دال في كل السياقات على القوة، أما المؤنث فرديف للضعف في كل السياقات أيضاً، ولن يكون التمييز بين المرأة والرجل سوى صياغة «نحوية» لتبرير «غلبة» الأول على الثاني. وهو ما يعني أيضاً، أننا لا نمسك، من خلال اللغة، بوجود الشيء في العالم، بل نبحث عن معناه داخله. فهذا العالم ناطق في اللغة لا في ما يؤثثه، وقيمة الأشياء مستمدة من موقعها ضمن تجربة الإنسان لا من تربتها في الطبيعة. وذاك مصدر تنوع الدلالات وتعددها، وذاك أيضاً مصدر تنوع الحاجات الإنسانية وتنوع أشكال إشباعها. وهو أمر يتجلى في الطريقة التي تُدبر من خلالها اللغة مستويات المعنى داخلها. فهي لا تُغطي النفعي في الحياة إلا عرضاً، أما المتعة فيها فتعشش في المجازات والمعاني الثانية، وفي ما يروق العين وتصيخ له الأسماع. وفي هذه الحالة أيضاً ستكون اللغة هي مستودع كل الدلالات، التقريري المباشر منها والاستعاري الضمني. الأول مشترك بين كل الناس، والثاني موحى به ضمن مقامات بعينها. فنحن نحتفي بالتعرف على أشياء العالم وتجاربه المباشرة، ولكننا ننتشي أيضا بصرخة شاعر يتغنى بهالات الكحل في عيني امرأة أو بشلالات ضوء يستحم فيها وحده بعيداً عن أشعة الشمس. هل يتعلق الأمر بإمساك الوجه الثقافي للوجود وحده باعتباره أساس ظهور دلالات لا راد لقضاء المتعة فيها؟، أم هي فقط محاولة لتخليص الشيء من وظيفيته وإدراجه ضمن سيرورة تدليلية تستحضر تجربة أخرى تصاغ في انفصال عن الواقع، أو تتبلور خارج قوانين النفعي فيه؟ إن الحالتين معاً من طبيعة واحدة، فكلتاهما تتم عبر صيغ التمثيل ذاتها. إن التمييز بين «التعيين» المباشر وبين «الإحالات» الدلالية المضافة يتم داخل اللغة وحدها، لا استناداً إلى طبيعة المنتجات الممثلة فيها، فكل «تمثيل هو في الأصل تأويل»، أي صياغة وجود جديد. وهو ما يؤكد أن «وراء الصوت الذي يتحدث إلينا تختفي ثقافة موجودة بشكل سابق، هي التي أسست قوانين التأويل وعلمتنا كيف نستمع إلى خزان التقليد الثقافي باعتباره صوتاً» (5)، أي باعتباره ثقافة تتجلى من خلال لغة هي منطلق التنويع في الدلالات. لقد وضع الإنسان جزءاً من نفسه في كلماته وأشيائه وسرب الانفعال إلى محيطه فاتسعت دائرة الرمز فيه فكان هو «أساس المعنى المزدوج» (6)، كما يؤكد ذلك ريكور. فقد يكون الفلاح هو من اخترع المنجل لغايات نفعية، ولكن للشيوعي يعود الفضل في تحويله إلى رمز تعلقت به نفوس الملايين من البشر. ....................................................... هوامش 1- أومبيرتو إيكو: العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، المركز الثقافي العربي، 2007 ص 274 2- ذكره إيكو في: العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه ص 27 3 - أومبيرتو إيكو: العلامة، ص 203 4 - H G Gadamer : L’art de comprendre/‏ Ecrits II، éd Aubier، 1991، p.61 5- أومبيرتو إيكو: العلامة ص 211 6- Paul Ricœur :De l’interprétation، Essai sur Freud ، éd Seuil، p. 17
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©