السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من تحرير باريس إلى تحرير بنغازي!

من تحرير باريس إلى تحرير بنغازي!
12 يوليو 2017 19:38
في هذا الظلام العربي البهيم، قد تفاجئك أحياناً بعض بقع الضوء. قد تفاجئك بعض الفتوحات الرائعات التي ما كنت تحلم بها حتى في المنام. من بينها تحرير إحدى عواصم العرب العريقة، قصدت مدينة بنغازي، من براثن الإخوان المسلمين الداعشيين القطريين أو المدعومين من قبل قطر. كلنا يعلم أن قناة الجزيرة سُخرت كلياً لإسقاط النظام السابق ليس حباً في الحرية ولا غيرة على الشعب الليبي، وإنما حباً في الإخوان المسلمين، وتصميماً على وضعهم على رأس ليبيا بأي شكل كان. وما فتاوى القرضاوي النارية في بداية الثورة الليبية إلا أكبر دليل على ذلك. فقد دعا علناً إلى القتل وسفك الدماء. وصبت تصريحاته الزيت على النار وأشعلت البلاد. وأعطت دفعاً كبيراً لقوى الإسلام السياسي لكي تنقض على السلطة وتعيث فساداً في الأرض. وهكذا تحولت ليبيا إلى فوضى عارمة وميليشيات أصولية مرعبة تصفق لها قناة الجزيرة وتقدم لها التغطية الإعلامية وكل البروباغندا المشحونة على مدار الساعة. وهكذا ساهمت مساهمة فعالة في تمزيق ليبيا وتشتيت شعبها في الدول المجاورة وشتى أنحاء الأرض. كم عانت ليبيا من الآلام المبرحة على مدار السنوات السابقة ولا تزال؟ كم تعذبت وتعذب شعبها؟ على هذا النحو حلت البلية والطامة الكبرى بشعب عربي أبي وكريم وعريق حضارياً. على هذا النحو حل الاستبداد اللاهوتي الأسود محل الاستبداد العسكري للقذافي. فقلت هما أمران أحلاهما مر. هذا هو الربيع العربي بنسخة الجزيرة ويوسف القرضاوي. إنه ربيع إخونجي! ما أجمله هذا الربيع! ما أرقاه! تحسدنا عليه شعوب الأرض كلها. وسبب ذلك هو أن أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة هو ذاته إخونجي بالفعل كما تشير كل الدلائل والشهادات المنقولة عنه. هذا بالإضافة إلى وزير خارجيته حمد بن جاسم الذي كان يتصرف وكأنه الحاكم بأمر الله إبان الانتفاضات العربية. كان يصول ويجول ويتبختر كالطاووس بغية تجييرها كلها لمصلحة جماعات الإخوان، من تونس إلى سوريا إلى ليبيا، وبالطبع مصر! لقد حاول بكل إصرار وغباء أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. رحم الله نزار قباني: ذروة الموت أن تموت المروءات  ويمشي إلى الوراء الوراء. كهوف التاريخ تصوروا الوضع: مصر أم الدنيا ومعقل النهضة العربية والحداثة الفكرية منذ أكثر من مائتي سنة، يريدون أن تُحكم من قبل نظام إخوان مسلمين! مصر الحضارة من أيام محمد علي ورفاعة رافع الطهطاوي وحتى طه حسين ونجيب محفوظ وجابر عصفور وعشرات الآخرين، يريدون إخضاعها لنظام متخلف خارج من كهوف التاريخ المظلمة ومضاد لجوهر العصر. هل هناك غباء أكبر من هذا الغباء؟ والحال ما كانا يدعمان في كل بلدان الربيع العربي إلا القوى الإخوانية وجماعات الإسلام السياسي. وهذا جهل ما بعده جهل وتعبير عن ضعف بصر وبصيرة. لماذا نقول ذلك؟ لأن كل هذه المليارات التي ذهبت هباء منثوراً كان يمكن أن تعمر بدلاً من أن تدمر. كان يمكن أن تدعم القوى الإسلامية المعتدلة الرشيدة المستنيرة بضوء العقل، هذا بالإضافة إلى القوى الليبرالية والوطنية التحديثية. كان يمكن أن تدعم قوى النهوض العربي الإسلامي: أي القوى التي تمشي في اتجاه حركة التاريخ، لا تلك التي تسير عكسها تماماً. مأساة بل وكارثة أن تهدر أموالك في الاتجاه غير الصحيح. نقول ذلك ومشاعرنا مع شعب قطر ومثقفيها، فهم إخواننا وأشقاؤنا وأهلنا، مثلهم في ذلك مثل بقية الشعوب العربية. ولكن كان من الأفضل لقادتهم دعم حركات التقدم والاستنارة في العالم العربي لا قوى الرجعية والجمود. هذا كل ما نريد قوله لا أكثر ولا أقل. رحم الله شاعرنا وفيلسوفنا الكبير أبا العلاء المعري إذ يقول: يسوسون الأنام بغير علم وينفذ أمرهم ويُقال ساسة فأف من الزمان وأف مني ومن زمن رئاسته خساسة على أي حال لنفرح قليلاً بعد طول عناء ومعاناة، بل ويأس وقنوط. فغياهب الظلام المتراكمة علينا ابتدأت تنحسر والأمور أخذت تنفرج. لقد انتصرت حركة التاريخ أخيراً وتنفسنا الصعداء وقلنا: في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». صدق الله العظيم. نعم لقد تحررت بنغازي من براثن القوى الإخوانية الظلامية مثلما تحررت باريس من براثن القوى النازية والفاشية. وأعترف بأن خطاب الماريشال حفتر ذكرني بخطاب الجنرال ديغول في شهر أغسطس عام 1944 عندما دخل باريس فاتحاً محرراً. كلاهما تبدو عليه علامات الرضى والارتياح الكبير بعد نضال طويل ومرير.كلاهما حقق أمنية العمر بتحرير مدينة عظيمة من براثن الإجرام والمجرمين. ما أجمل هذه اللحظة! ما أحلاها! تكاد تشمها شما أو تتذوقها تذوقاً وأنت تسمع كلمات خليفة حفتر وشارل ديغول. كلاهما لا يكاد يصدق أنه حقق أمنية العمر: تحرير مدينة كبيرة وعاصمة تاريخية عريقة. كلاهما يعرف حجم التضحيات والدم المراق من قبل «قوافل الشهداء» بحسب تعبير خليفة حفتر قبل التوصل إلى هذا النصر المبين. ولكن في النهاية كما قلنا لكم: لا يصح إلا الصحيح. في النهاية ينهزم الباطل وينتصر الحق. «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا». هذا الباطل الذي كان يتلفع بثياب الدين انكشف أمره وضعفت حيلته وبدا على حقيقته العارية: مجرد باطل أعمى يتاجر بالدين والدين الحق منه براء. إنه يريد العودة بالشعوب العربية إلى الوراء «أو وراء الوراء» كما يقول نزار قباني، وهي تريد التقدم إلى الأمام. أكثر من خمسة آلاف شخص سقطوا في معركة تحرير بنغازي. أكثر من خمسة آلاف شهيد من الأبطال الميامين. تحية لهم جميعاً. فقد دفعوا ثمن حريتنا نحن أيضاً. هذا بالإضافة إلى أكثر من 150 مثقفاً ومثقفة من محامين وأطباء وصحفيين إلخ. كلهم اغتيلوا من قبل الجماعات المتأسلمة التي أشاعت جواً من الرعب في كل أنحاء المدينة بعد عام 2012-2013. هل رأيتم فيلم جان بول بلموندو: «رعب يخيم على المدينة». رائع. ومعلوم أن سُنة الاغتيال موجودة في صميم المشروع الإخواني منذ بداياته الأولى مع حسن البنا، فقد أسس الجهاز الخاص أو التنظيم السري لهذا الغرض. ولكنه كان يتبرأ علناً من الاغتيالات التي يأمر بها سراً. وفي النهاية ذهب ضحيتها هو شخصياً. وما ظالم إلا سيبلى بأظلم. ماذا بعد؟ والآن ماذا سيحصل في ليبيا؟ بما أني لست محللاً سياسياً مختصاً في الشؤون الليبية، وإنْ كانت ليبيا مني في القلب، فسوف أعتمد على آراء وتحليلات من هم أذكى مني أو أكثر دراية وخبرة في الموضوع. فأنا «رجل مستطيع بغيره» كما يقول المعري. ومن بينهم الدكتورة هيلين رافان المختصة في الشؤون الليبية وعضو «مركز الاستشرافات المستقبلية والأمن في أوروبا». تقول لنا هذه الباحثة ما معناه: تحرير بنغازي من قبل الماريشال حفتر يمثل ضربة موجعة لميليشيات مصراتة التي كانت تشتغل ضد حفتر من داخل بنغازي ذاتها. ومعلوم أن ميليشيات مصراتة هي الأقوى في البلاد كلها. ولكن مصراتة أصبحت الآن محاصرة بعد أن سيطر حفتر على آبار البترول في مارس الماضي وبعد أن انتصر في معركة بنغازي قبل أيام. وهكذا أصبح مسيطراً على الشرق الليبي كله، إضافة إلى بعض المدن الاستراتيجية في الجنوب الليبي. وهذا الشخص الذي كانوا يعتبرونه مجرد ضابط متقاعد فاشل عاجز عن تحقيق أي شيء، إذا به يفاجئ العالم كله بانتصارات ساحقة ومذهلة. ينبغي العلم بأنه مدعوم بشكل قوي من قبل الإمارات العربية المتحدة ومصر. وبالتالي فظهره مسنود جيداً. لقد أحاطه هذا الانتصار الكبير بهالة من المجد ليس فقط في أعين الشعب الليبي وإنما أيضاً في أعين العالم الخارجي، من روسيا إلى الغرب كله. ولكن ينبغي عليه ترسيخ هذا الانتصار، فتحرير المدينة شيء واستتباب الأمن فيها شيء آخر، وذلك لأن فلول الظلاميين سوف تحاول مناوشة جيشه وزعزعة الاستقرار في المدينة، وربما شهدنا في الأيام والأسابيع القادمة موجة من الاغتيالات والتفجيرات داخل بنغازي، فهذه هي عادتهم التي يبرعون فيها دائماً. إنهم يضربون غيلة وتحت جنح الظلام. أما المرحلة الثانية التي يحلم الماريشال حفتر بتحقيقها، فهي السيطرة على مدينة «درنة» التي عانت مثل بنغازي من طغيان الإخوان الدواعش وبقية الظلاميين. فقد عاثوا هناك أيضاً فساداً في الأرض. وللعلم، فإن «درنة» هي من أجمل مدن ليبيا إنْ لم تكن أجملها بإطلاق. بل إنها من أجمل مدن العالم. لا ننسى بأنها عاصمة الجبل الأخضر، جبل المجد والجمال الساحر الخلاب. عذراً وألف عذر من مدينة «البيضاء» عروس الجبل الأخضر وعاصمته الحقيقية. ماذا تريدونني أن أفعل؟ إني عاشق ولهان ولا أعرف أن أختار. وبعد «درنة»، ربما فكر الماريشال في تحقيق الأمن والأمان في جنوب البلاد وتنظيف تلك المنطقة من المتطرفين الإرهابيين. في الواقع البلاد كلها بحاجة إلى تنظيف. انتبهوا جيداً إلى هذا المصطلح الهائل: «التنظيف». إنه يذكرني ببيت المعري: ثوبي محتاج إلى غاسل وليت قلبي مثله في النقاء وربما ذكرني ببيته الآخر أيضاً: الأرض للطوفان محتاجة لعلها من درن تغسل تحية لأبي العلاء المعري! تحية للعبقرية العربية في أعلى ذراها تجلياً. لكن دعونا نعود إلى صلب الموضوع. فأنا شطحاتي شطحات.. ينبغي العلم بأن مختار بلمختار الملقب بالأعور والجزائري الأصل لا يزال يسرح ويمرح في تلك الربوع. والمدعو هو شيخ الجماعة الإسلامية المسلحة، والجماعة السلفية للدعوة والقتال، وأمير كتيبة الملثمين في تنظيم القاعدة، ومؤسس كتيبة «الموقعون بالدماء». وبالتالي، وهذا يعني أن معركة الماريشال حفتر ضد الجهاديين الظلاميين لم تنته فصولاً بعد. ثم ينبغي عليه بعدئذ القيام بحملة ضخمة على الغرب الليبي وعاصمته طرابلس التي هي عاصمة البلاد كلها. فهل سيتجرأ على ذلك؟ إذا ما فعل فسوف تحصل مجزرة حقيقية كبرى لأن المليشيات في الغرب الليبي مدججة بالسلاح. وبالتالي فقد يتحاشى ذلك حفاظاً على سمعته الدولية، ولكن في كل الأحول فبعد كل هذه الانتصارات التي حققها لن يتوقف في منتصف الطريق. وإنما سيحاول أن يصبح زعيم ليبيا المقبل. وبما أن الشعب الليبي تعذب كثيراً في السنوات السابقة وعانى ما عاناه من حكم المليشيات وتعسفها الاعتباطي، فقد يرى فيه مخلصاً ومنقذاً من براثن الفوضى والضياع والمعاناة التي تفوق الوصف. فتاوى تدمير ليبيا كلنا يعلم أن قناة الجزيرة سُخرت كلياً لإسقاط النظام الليبي السابق ليس حباً بالحرية ولا غيرة على الشعب الليبي وإنما حباً بالإخوان المسلمين، وتصميماً على وضعهم على رأس ليبيا بأي شكل كان. وما فتاوى القرضاوي النارية في بداية الثورة الليبية إلا أكبر دليل على ذلك. فقد دعا علناً إلى القتل وسفك الدماء. وصبت تصريحاته الزيت على النار، وأشعلت البلاد. وأعطت دفعاً كبيراً لقوى الإسلام السياسي لكي تنقض على السلطة، وتعيث فساداً في الأرض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©