الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر في الجهة الخامسة!

الشاعر في الجهة الخامسة!
26 ابريل 2012
في شعره الغارق حتى أذنيه بأسئلة الوجود، يصوغ الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم من القصيدة قنديلاً يهتدي به في عتمة ليله الوجودي، كأنه عجوز ابيضت عيناه من قلق السؤال فيما قنديله الشعري يحاول بنوره الشحيح أن يدلّ صاحبه على الحياة. كأنه بحار قديم يترقب حضورها الباهر على سيف الماء ليقطف برقها، ويحظى بوصالها، ويعود مبللاً بالشعر. أتحدث عن القصيدة هنا لا عن المرأة رغم الاقتران الواقعي والمجازي بينهما في قصيدة الشاعر، فالأنثى غالباً هي الشعر أو على الأقل محرضة عليه أو هي موضوعه الأبهى، لكن للقصيدة أنوثة من نوع آخر، وإذ تحضر تنفي ما عداها. على شاطئه الشعري العتيق هذا، يرسم إبراهيم محمد إبراهيم بـ”ريشة الضباب” مشاهد الروح الذاهبة في السؤال إلى أقصاه، في العروج بـ “سلم الكون” وجع القلب الباحث عن معنى الكينونة وهي تسوق قطيعها إلى سهوله لترعى، وتعطينا زبدة الشعر في بيت واحد أو قطفة أو ومضة يقولون إنها تشبه قصائد الهايكو اليابانية وأقول إنها تشبه تجليات النفَّري والبسطامي وابن عربي وغيرهم. تسبح في بحرهم، وتغوص في لغة غاصوا فيها، لـ “تعلّي سقف الانتماء” ولتحرس روح الشعر بالعربية الفصحى... وليس في مخططها هايكو ولا ما (يهيككون). ذات ألق غريب، ضرب برقُه روحَ الشاعر فأضاءت.. هَما على أرضه فأينعت، وكانت قبل الشعر محلاً.. فأخصبت. وكان في أرض الشاعر بذوراً لا حصر لها، فجاءت قصائده ألواناً شتى. فيها لكل همّ وطني أو إنساني متسع، ولكل حال مقال، ولكل مقال لغة، ولكل لغة أصابع، ولكل إصبع ما يتقنه من عذوبة القول. مذ عرف الشاعر فرح البروق الخفية ولذّتها الرائقة، تقلبت روحه على جمرها ونارها وحرّها وبردها. عايشها في كل الحالات والأحوال، واغترف منها ما شاءت له القصيدة وشاء له وعي يرتق الروح بخيط الكلام. بين الطوال المتمسكات بتفاصيلهنَّ وبرودهنّ وبين الصغار المكتفيات بكثافتهن وحسنهن يحلو حال الشاعر، الذي جمع محصولاً شعرياً ثراً يصعب عرض سنابله الملأى.. لكن لا بأس في تناول نوع من السنابل المنثورة في دواوين الشاعر الأخيرة: “سكر الوقت”، “ريشة الضباب”، “لن تفهموا” و”جبل الراهبات” و”سلم الكون”. بين الرؤية والرؤيا مذ رفع الشاعر مرساته وذهب إلى أفق الشعر لم يعد. قبضت عليه حورية الشعر وأعلنته كائناً معتقلاً من روحه في سجنها الأبدي. ولأن سجن الحب واسع طاب المقام للشاعر الذي وجد في الشعر بعض وجوده، لكن أسئلته عن الحياة والموت والمآلات والمصائر البشرية ظلت معلقة في عنقه مثل فأس عتيق. أحياناً يخلع فأسه ويحتطب، فتسقط بين يديه بعض النجوم، ثم سرعان ما يعيده الوعي إلى مكانه الأول: باحثاً عن نجمة وجوده. في بحثه المضني عرف، ورشف و... (إذا أردتَ أنْ تُرى... عليكَ أنْ تَرى)، يقول في ومضة بعنوان “وجود”. لكن مثل هذه الرؤية التي تحقق لصاحبها إمكانية أن يكون حاضراً وموجوداً لا تتحقق بسهولة، لا بد من المكابدة المعرفية، لا بد للروح من التشظي وراء المعنى الملغز. لا بد من إطفاء كل الأنوار الأخرى (حتى تبلغ العتمة أقصاها)، ومن ثم الاستئناس بنور القلب إو إشعال شمعته فقط، وعندها يتحقق للعارفين حلمهم الأزلي. بيد أن هذه المعرفة التي مناطها القلب، وهذا درس قديم من دروس العارفين، لا تكفي لتزيح عن روح الشاعر غربتها الوجودية، ولا أن تحرر الروح من سجن البدن. الغربة التي تتجلى في غير قصيدة وفي أكثر من شكل وصيغة وتحضر بكثافة عندما يحضر الزمن: لُعبةُ الآنَ فِعلُ الحياةِ على مسرَحِ الخَلْقِ .. يُتْقِنُهُ، من تَوَحّدَ في ذاتِهِ .. ورأى نفسَهُ بِعُيونِ الخليقةِ بِذْرَتَها لتَراهُ بِعينيهِ مِرْآتَها .. ولما يفيض بالشاعر إحساس الوحدة يلجأ إلى الطبيعة، يقترب من روح الكون ويهمس بين يديه بأمنياته التي من خلالها يتحقق بعض حضوره الذاتي في الحياة: تَمَنّيتُ لو أنني غيمةٌ أو صُنوبَرَةٌ كي أعودَ بِأحلى القصائدِ أنْثُرُها في الشّوارِعِ كي ترتقي سُلّمَ الروحِ أو تترَفّعَ عن هَفَواتِ الرّصيفِ وللتحقق الوجودي في الحياة شكل آخر لدى الشاعر؛ الموقف. لا بد أن يكون للإنسان موقفاً يدافع عنه، ويثبت عليه بجرأة إذا اقتضى الأمر، والمسألة ليست كلاماً يلقى هكذا على عواهنه، ولكي يكون القول فاعلاً: إذا أردْتَ أنْ تقولَ فاختَرِ الذُرى، وغادِرِ السُّهولْ. والمعنى يتجسد في صيغة أخرى أسمّيها العناد الجميل: (قِفْ/ كما أنتَ قِفْ.../ وسَمّرْ قوائِمَ عزمِكَ في الأرضِ، لا ترتَجفْ./ كما أنتَ ../ حتى تُسَلّمُ كلُّ القبائِلِ/ راياتِها لِعِنادِكَ../ أو تُسْتَفَزّ بِبَرقِ شِتائكِ من موتِها). رحيل الأسئلة.. ورحالها يسمي إبراهيم القصائد نوارس ويطلقها “إلى كُلّ الأشرِعةِ التي لا ترسو”، وإذ تحضر النوارس يحضر معنى الرحيل الذي يحتل حيزاً واضحاً في تجربة الشاعر. ولا تنحصر تجليات الرحيل في معناه التقليدي، الانتقال من مكان إلى مكان فقط، بل في معناه الفلسفي: الرحيل إلى الذات والسفر إليها، والرحيل إلى الآخر/ الإنسان، أو الآخر/ المرأة. وثمة رحيل إلى الآخر/ النقيض الحضاري والفكري، يتجلى في ديوانه “سكّر الوقت” الذي يمثل في المجمل صياغة شعرية ذات سوية جمالية عالية لتلك العلاقة بين العربي والغربي، في يومياتها، وأسئلتها الكبرى، وحيثياتها، وتفاصيلها الدقيقة التي يخيل للبعض أنها بسيطة فيما هي على درجة عالية من التعقيد. تمظهراتها على مستوى العلاقة مع الكون والطبيعة، فوارق القراءة الشعرية للمكان وجماله وما يجري على الأرض من سلوكيات لا تنمّ عن الحضور المشتهى للروحي والمعنوي. وهي لا تفلح فقط في التقاط جمال الطبيعة الخلاب في فيينا وتيه الشاعر بين غيومها وجبالها في رحلة عشق صوفي يزيدها الجمال شفافية، بل تفلح أيضاً في تجسيد البعد أو الفارق بين عالمين على مستوى حضور الإنسان وعلى مستوى القيم الاجتماعية والفكرية التي تحكم حركته في الحياة. القصيدة طويلة، وهي تحتل الديوان بالكامل ولكي يحظى المرء بحكمتها لا بد من قراءتها كلها. وثمة سفر ثالث: سفر في الأسئلة، وهو نوع من الرحيل الذي لا يتحقق إلا باستنطاقها، واكتناه غوامضها وعوالمها السرّانية وكهوفها البعيدة. وللسؤال في تجربة إبراهيم محمد إبراهيم حضور لافت، وواسع، ونوعي، حتى يمكن القول إن قصيدته تتأسس على السؤال في تجلياته الفلسفية والإنسانية والشعرية والإبداعية وحتى الاجتماعية. وللسؤال باب واسع: باب يقود إلى المعرفة مرة، وإلى الجهل مرات. ربما يأخذك من تلابيبك إلى الحيرة ويتركك في خضم بحر متلاطم تتحسس فيه روحك فلا تجدها. ربما يذرّيك كما فعل بالشاعر الذي، ناءت رجلاه برأسه فلم تعودا قادرتان على حمله، ويتركك واقفاً في حضرة الوهم أو المعنى المستحيل، وربما تتقطع بك سبل الإجابة منتظراً على باب لا وجود له. يمارس السؤال حضوره على المستويات كافة: في علاقة الشاعر مع ذاته وأناه وذاكرته، في علاقته مع وطنه، في علاقته مع الناس، في علاقته مع المرأة، في علاقته مع الطبيعة، في علاقته مع كل طقوس الحياة ومفرداتها الصغيرة والكبيرة، مع مرآته، مع فنجان قهوته، ومقهاه، وأصدقائه. في كل ما يؤثث المكان والزمان والذاكرة، يظل السؤال عتيقاً، جارحاً، وفي غالب الوقت: لا إجابة، إلا ما تمنحه له القصيدة من ألق، في هذا العناء الطويل: (إلى وجهتي/ والنخيلُ تُباركُ مسعايَ/ أمضي../ وتمضي النخيلُ../ إلى وجهتي،/ منذُ أيقَنْتُ أنّ العناءَ كثيرٌ/ وأنّ الرجالَ قليلُ./ إلى وجهتي،/ حيثُ لا وَجهَ/ إلاّ الذي في المرايا يُباغِتُني،/ كلّما قلتُ: سوفَ أُغيّرُ بعضَ ملامِحِ وجهي،/ فتأبى المرايا الجميلةُ/ أنْ تتغيّرَ أو يتغيّرَ فيها القَرينُ الجميلُ./ إلى وجهَتي المستحيلةِ/ أُرسِلُ مرساةَ قلبي../ فيُلقي بِمرساتِهِ،/ حيثُ أغرِسُ رِجلَيّ في أرضِهِ.. المُستحيلُ. سؤال الوطن لا تستوي علاقة الشاعر بوطنه في سَمْتٍ واحد، إلا من حيث الحب والانتماء. ها هنا يتطرف الشاعر في حب الوطن، يقوله رملاً ونخلاً ووجعاً وأملاً وحلماً بأن يكون أفضل: وطني يُزهِرُ، حينَ أكونُ بعيداً عنهُ... وإذا ما عُدتُ إليهِ، أزْهَرتُ بِهِ. أما في معنى الوطن، وما حوله، وما فيه، فالقول يتسع لكل المستويات المتخيلة أو الواقعية. والوطن في معناه يتسع أيضاً ليشمل كل الوطن العربي والإسلامي، وربما يكون للوطن مفهوماً عالمياً يتعلق بمفهوم الوطن ذاته لدى الشاعر الذي يغادر فكرة الوطن المتجسدة في التاريخ والجغرافيا ليصوغ مفهوم الكرامة الوطنية العالمية، تلك التي تسقط عندما يسقط الإنسان نفسه: يقولُ: كيفَ تَسْقُطُ الأوطانْ؟ أقولُ: حينَ يسقُطُ الإنسانُ في الإنسانْ، ويسألونهُ، أنْ يرفَعَ العَلَمْ. جدل الحياة والمَوتْ للموت ما يفعله في قصائد الشاعر. وهو موت حقيقي ومجازي: موت كامن في العام والخاص، في اللوحة كلها وفي التفاصيل. في الفراغ والعدم والقصيدة التي تتحول إلى “شاهد على قبره”. يأخذ الموت في القصيدة شكل حديقة، شارع، حي، مدينة، حالة، شاعر صديق رحل كما في قصيدة عبد الله العريمي: (في أوّلِ أرضٍ/ يشربُ قهوتَهُ فيها النورْ/ عانقَ شمسَ اللهِ/ وأشعلَ فيها الوجدَ/ وأرسَلها فوقَ بِلادِ العُربِ/ لعلّ حبيباً يِلمحُ فيها سحنتهُ.../ ذاكَ الشاعِرُ يُدعى عبدُ اللهِ/ وتلكَ الأرضُ المَنذورةُ للشّمسِ تُسمّى، صووووور). وللموت أو الموات الذي يجتاح روح الشاعر في بعض الأوقات أسباب كثيرة. الحياة سبب، موت العروبة وعريها أمام قضم بضعة من جسدها سبب، والحال العربية في عتمتها المنبتة عن تاريخها المضيء سبب، وسعد العربي الذي لا يعرف أمته سبب، والنخيل النائم على عطشه سبب، والوحدة التي تفتك بروح الشاعر سبب، والأنثى التي لا تفهم سبب، وتكرار الأشياء بلا معنى وبرتابة مزعجة سبب. وما أكثر الدروب التي تؤدي إلى الموت المعنوي، وما أقل السبل التي تدرأه. وللخلاص من الحال الموتية التي تتجسد أحياناً في المفاهيم التقليدية أو النظرة المألوفة للأشياء يبحث الشاعر عن معنى جديد، يضخ الروح في المألوفات، يرويها بندى الشعر، فتزهر لها معانٍ مختلفة، ومغايرة لما نعرف. إنه يذهب إلى صياغة الأشياء في تعريفات تخصه، يهبها من روحه وعندياته ما يعينه على فهمها، أو الاقتراب من جمال غائب ومشتهى. ها هنا، في تعريفاته، تصبح أشياء الكون وموجوداته وفقاً للصورة التي يرسمها خيال الشاعر أحلى، أو لعلها الصورة الذهنية التي ننجزها لما حولنا ونسبغ فيها ما نحب أن نراه في ما حولنا. إنه يعيد تعريف الحياة، والمرأة، والأرض، والإنسان، والحلم، والسجن، والنخل، فيذهب عميقاً في ما ينطوي عليه الكلام: أجدبُ أرضٍ، أرضٌ تسكُنُ فيها.... أخصبُ أرضٍ، أرضٌ تسكُنُ فيكْ. وللموت باب مفتوح على مصراعيه على الغياب والغربة. يلج الشاعر إلى غيابه مدبجاً برغبة القول. هنا يصلي الحرف، ربما يسجد لكي يعلي صبابة القلب في سدف الحنين إلى مكانها الأول: زُرْتُ المِرآةَ اليومَ، وما كانَ بها أحدٌ.. كم هو مضنٍ هذا الشعر؟ وما أكبر وحشة الشاعر!.. أعني وحشة الروح في اغترابها وهي تقول وحشتها في أقل ما يمكن من الكلمات. لكن في المقابل، وعلى الطرف الآخر، ثمة وحشة من نوع أنكى وأكثر حفراً في الروح والوعي: في المرآةِ رأيتُ الناسَ جميعاً، إلا وجهي.. يأتي هذا في قصيدة تحمل عنوان “زحام”. ها هنا تكون الروح في صفوة وحدتها، في قمة العزلة التي تصفو للشاعر وتنتخبه وحده سيداً لها من بين الوجوه الكثيرة التي تظهرها المرآة. في الحال العادية لا تظهر المرآة إلا ما نعرضه عليها، لكن يحدث في الشعر وفي الرحيل باتجاه الذات أن تعرض المرآة ما يخفى لا ما ينعكس على لوحها. وما يخفى هو الغياب الذي تتعدد مراياه الشعرية والإبلاغية التي تفصح عن أشكاله: (كأني على موجةٍ/ لا تؤوبُ إلى ساحلٍ../ كأنيّ وجهٌ/ بِلا وُجهةٍ.. أو خطىً في الهواء)... في هذا الانعدام الكلي، في هذا الموات، ربما يفلح الأمل في تعزية الشاعر. لعلها الحياة التي تتخلق في رحم الموت: (كما يَنبُتُ الورْدُ مُنتَفِضاً/ في اليبابِ،/ نُعَلّمُ هذي الحياةَ الحياةَ/ بِرَحمِ الرّدى./ لا تقُلْ: مَنْ أنا وسْطَ هذا الخرابِ؟/ تَوَسّمْ بِقَشّتِهِ غابةً ../ إذا فاضَ مِنكَ النّدى). وربما يفلح الحب أيضاً في إعلاء شأن الحياة، تطل برأسها لقطة هنا، قصيدة هناك، حلم ظل رياناً خضلاً لم يمسه السوء، يحضر شاي بالحليب هو رديف الامتزاج بين الليل والنهار ليقول الحبيبة أو الحب فتأتي هذه القطفة الرائقة: قولي.. كيفَ أُحِبُّكِ أكثرْ؟ وأنا المِلحُ الهالِكُ في بحرِكِ، مُنذُ خُلِقْتُ، وقلبِيَ يقطُرُ سُكّرْ. وربما ينجح التدبّر في خلق الله، وارتشاف الحكمة الثاوية فيه، في دحر ما تراكم على الروح من تعب الرحيل ووجع المسافة: (الكنائسُ/ تقرَعُ أجراسَها ../ والسّحابُ / تَفَرّقَ بعدَ أداءِ الصلاةِ/ وما زالَ قلبي يُصَلي ../ صلاةُ القُلوبِ/ على سُكّرِ الوقت لا تنتهي../ كُلّما دقّ ناقوسُ هذا البناءِ القديمِ/ تَذَكّرْتُ صوتَ الأذانِ بِمَكّةَ../ ثُمَّ تَوَضَّأتُ كيما أعَلِّقَ روحي هِلالاً/ بِمِئذَنةِ الكونِ فيها.. وأشْرَعْتُ صدري/ لِتَرحَلَ كُلُّ حمائمِهِ نحْوَها). وربما يستطيع التأمل في رزق يأتي على غير موعد أن يعيد له إحساسه بالجمال ويمنحه هذه اللقطة البارعة: أقذِفُ الخيطَ بِبَحرِ اللهِ كيْ يأتي من الرّزقِ أقَلُّهْ أسحبُ الخيطَ، فيأتي البحرُ كُلُّهْ. ربما تفلح هذه الأشياء الصغيرة، إذا ما نظرنا إليها بعين الشعر، في أن تغير الدعاء أو أن تضيء على معنىً غائباً عن فكرة الغربة. الغربة التي يجد فيها الغرباء، السائرين على طريق الحق بسبب وحشة الطريق وقلّة السالكين، سعادة وسلوى تجعلهم يطلبون من الله أن لا يحرمهم من غربتهم: (تدعو ألا يحرِمَها منّي اللهْ/ أدعو ألاّ يحرمني منها اللهْ/ ندعو اللهْ../ ألاّ يحرِمَ مظلوماً من مظلومْ/ أو أنْ يُخرِجَ أيَّ غريبٍ من غُربَتهِ/ حين تكون الغُربةٌ بيتاً/ يجمعُ في باحتِهِ كُلَّ الغُرباءْ). في حب كهذا، في غربة مشتهاة، تتعاقب صور لا آخر لجمالها، يضنّ الشاعر علينا بتلك التي انكشفت له خلف الحجاب خوفاً على جمالها من “زيغ الخيلاء” ويبوح لنا بأخرى يظهر جمالها باذخاً: في الحلمِ، رأيتُ حبيبة قلبي جالسةً فوقَ البدْرِ، مُدلّيةً رجليها.. فدعوتُ الله، بأنْ يبقى البدرُ على حالتِهِ.. ألا يُتَضاءلَ في الليلِ هِلالاً وتَقَعْ. في شعر كهذا، في بوح كهذا، في موت كهذا، في تجربة كهذه، لا يملك المرء، أعني القلب، سوى إطلاق السؤال عالياً: كيف لهذه الحياة أن تحتمل، بغير الشعر؟!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©