السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلال الضجيج

سلال الضجيج
26 ابريل 2013 22:14
«اضحك لنربح»: الموضوع برمته مكشوف تماما، لكننا لا نفكر فيه تماما لحظة حصوله، ولا نتذكر أصلا من أدخل هذه الموضة في نسيجنا النفسي. يسمونه حاليا «الستاند أب كوميدي»، وهو الكائن الذي يقف أمام الجمهور، ويشرع في الثرثرة بقصد الإضحاك. لعل أحد الشاطرين من قليلي الموهبة، في زمان عتيق، لم يعتمد تماما على ضحكات الجمهور، بل استأجر عدة أشخاص، ودسهم بين المستمعين، بقصد أن يضحكوا بعنف بعد كل نكتة أو قفشة يقولها، طبعا جماعته تبدأ بالضحك الهستيري، والهدف طبعا هو نقل عدوى الضحك إلى الجمهور من أجل إنجاح العرض قسرا. انتقلت هذه الطريقة إلى برامج الدعاية التي تروج للمنتوجات التجارية، ونجح الدكتور «أوز» في نقلها إلى البرامج الطبية، وصرت تسمع صرخات الإعجاب المشتراة، عند الترويج لمادة طبية، وخصوصا تلك المواد الخاصة بعمليات التنحيف، حيث تربح الشركات الملايين عندما تشتري أنت هذه المادة لمرة واحدة على الأقل. طبعا انتقلت هذه العدوى إلى معظم البرامج الترويجية، لجميع أنواع السلع. أنا –والحمد لله على قول أنا- أشعر بالاكتئاب إذا اضطررت لمشاهدة هكذا كائنات تضحك وتندهش وتطلق صوتيات الإعجاب على كبسة زر، لمجرد الحصول على قروش قليلة.. أنها تمثيليات من نوع صناعي، حيث البطل هو المروّج والقية جميعهم كومبارس من الدرجة العاشرة والنصف. هؤلاء المتكسبون الصغار لا يدركون كم أنهم يلحقون بالناس من الأذى، حينما يقنعونهم بشراء منتجات لا تستحق أي ذرة من الإعجاب، لكن الناس يثقون بالصوت والصورة الخارجة من الشاشة الفضية، وقد تكون بعض هذه المواد مضرة، يعني أن الشباب يشتغلون كقتلة مأجورين مقابل أمور تافهة. ??? كنا صغارا، وكنا فقراء البتّة، بمفهوم الفقر المفرط، وكانت مدينة ملاهينا وألعابنا هي بالتحديد مزبلة طنوس. لكننا.. ومع أننا فقراء، فقد كنا نسأم، كبقية الكائنات، من مدينة الملاهي تلك، فنتوجه للبحث عن ألعاب أخرى خارجها، تتناسب مع البيئة الاجتماعية التي نحيا فيها ولا نرزق، مع اشتراط المجانية الكاملة لهذه الألعاب طبعا. إحدى هذه الألعاب المجانية المبتكرة كانت بأن نحمل حجرا بحجم الكف ونطرق به طرقا قويا ومثابرا على كل عامود كهرباء نمرّ من عنده، فتتحول الحارة فورا الى سلّة من الضجيج المحض، وتتعالى الصرخات من أهالي الحارة، خصوصا إذا كنا نمارس هذه اللعبة الرائعة بعد الظهر، حيث الكثير من الناس نيام، من قلّة الشغل، على الأغلب. وهكذا كنا نهرب من عامود الى عامود تاركين الصرخات والشتائم المدوّية خلفنا بلا أسف، ونادرا ما كنا نتعرض لإلقاء القبض علينا، لأننا كنا نعرف مداخل ومخارج الحارات جيدا، ونقفز فوق سطوح البيوت الطينية المتقاربة، ونخرج من مكان آخر، وننتقل الى عامود آخر بكل رشاقة وسؤدد. كنا نستغرب لماذا يتضايق الأهل منا ويشتموننا، إننا مجرد صغار يلعبون. أما الآن، وقد اشتعل الرأس شيبا، أستطيع أن أضع نفسي أمام أهالينا المنزعجين، وأدرك حجم التلوث الصوتي الذي كنا نحدثه، لمجرد اللعب. وكم أنزعج حينما يتنطح أحد اطفال الحارة للموضوع ويشرع في الطرق على العامود المقابل لجمجمتي مباشرة، وأكاد أن أعلن عليه الشتم، إلا أنني أتراجع حينما أتذكر نفسي عندما كنت من جيله. يبدو أن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة، والحارة تنتقم مني... والحبل على الجرار. يوسف غيشان ghishan@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©