الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اسطرلاب الحضارات..

اسطرلاب الحضارات..
26 ابريل 2012
هل يعرف أحدكم مَنْ هي مجان القديمة؟ سؤال خطر في ذهني، وأردت أن أجعله فاتحة قراءتي هذه عندما شاهدت معرضاً لحضارات العالم السبع يقام الآن على أرض جزيرة السعديات بأبوظبي تحت عنوان “كنوز ثقافات العالم”، لذا لابد أن أستهل قراءاتي لهذه الحضارات بسؤال مهم: من هي مجان القديمة؟ سؤال خطر ببالي فصار أحجية مقصودة، أردت منها أن تجعلك تتبع قراءتي هذه حتى تعثر على المعنى. مجان القديمة.. هي أرض جاورت البحر والرمل، عرفها الماضي، وازدهى بها الحاضر، لعبت دوراً مهماً في تطور الحضارات في الشرق الأوسط، على مدى أكثر من 7000 سنة. اكتشفت في باطن أرضها لقى، ومسكوكات، ويرجع تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، من أقصاها إلى أقصاها توحدت ثقافة أهلها، عاداتهم وسيماء وجوههم، رؤاهم، مشاعرهم التي نبضت بتلك الآثار العميقة في دلالتها فاستحقت أن نقول فيها إنها ضاربة في أعماق التاريخ. قبل أن أدخل إلى أرض مجان عبر التاريخ وأقلب ماذا أعطت تلك الأرض تفاجئني ثلاثة رموز لابد من كشفها، رموز مستها يد حانية، طبعت عليها بصماتها فاستحقت أن تكون في صدارة استقبال الآتين: قلم، ومسبحة، وعصا. أما القلم فهو ما يسطر من بدائع. أما المسبحة فهي عمق التفكير ورقة الوجدان والتأمل. وأما العصا فهي الإشارة والدليل على الآتي. تلك الرموز الثلاثة هي الهوية الثقافية الراسخة التي أشارت إلى بواطن التراث على أرض مجان القديمة. إنها قلم ومسبحة وعصا الشيخ زايد رحمه الله والذي أحب أرض مجان القديمة فجعلها على يديه أرض دولة الإمارات العربية المتحدة. كانوا قديماً يسمونها مجان القديمة ثم سميت بالإمارات المتصالحة أما اليوم فهي دولة الإمارات. عندما تريد أن تدخل معرض “كنوز ثقافات العالم” ترى القلم الذي كان المغفور له الشيخ زايد رحمه الله يوقع به، حيث روى عبدالرحيم السيد الهاشمي أنه كان يتأكد دائماً من وجود هذا القلم إلى جانب الوثيقة التي يريد الشيخ زايد التوقيع عليها. أما المسبحة “المسباح” فهي رمز للهدوء والتأمل، صغيرة في حجمها “شاهولها” من جسدها، وزينتها ثلاثة خيوط وحباتها 33 حبة وما بينها حبتان مسطحتان، كأنها قطرات لؤلؤ منثور، كانت يوماً ما، تتنقل بين أصابع الشيخ زايد رحمه الله. أما العصا ممشوقة بمهابة ووقار حاملها وبطرفها المنحني كانت كف الشيخ زايد رحمه الله قد طبعت عليها، وبطرفها المدبب كان قد رسم بها حضارة وشيد مدناً. ثلاثة رموز كان الشيخ زايد رحمه الله قد أهداها لعبدالرحيم السيد الهاشمي، رموز تحمل رؤية سردية عن دولة كاملة. لابد من قراءة هذه الرؤية هنا: ماريا تيريزا من “الفاية” إلى “حفيت” إلى “جبل البحيص” إلى “مدفن القطارة” إلى “مويلح” إلى “دبا” إلى “مستوطنة الرميلة” إلى “مليحة” تتعدد اللقى، وتشير إلى عمق حضارة نهضت على هذه الأرض عملة “ماريا تيريزا” بقطر 4 سم وبوزن 27 جراماً. استخدمت هذه النقود الفضية في منطقة الشرق الأوسط على مدى أكثر من قرن كعملة رئيسية للتجارة مع الهند والصين. تعامل بها تجار الإمارات كونها مصنوعة من الفضة، والغريب فيها أنها من مسكوكات الامبراطورية النمساوية المجرية 1780م، وسميت باسم الامبراطورة ماريا تيريزا. وجه امرأة ممتلئ وشعر منسرح للخلف وكتابة بالحرف اللاتيني يحيط باستدارة العملة وفراغان اثنان أسفل الرسمة وأعلى الرأس وتحت الرسمة كتب F.6، وعلى الوجه الآخر شعار الامبراطورية بصقرين متجاورين وأسد نافر ومخلبي صقر وجناحين يملآن الفراغ وسنة السك 1780م. مهر العروس ترى قلادة من ذهب مع لؤلؤة مزخرفة 171 جراماً من متحف العين الوطني. حلية يقدمها العريس كمهر هي “مرتعشة”، ذهب من الهند، ولؤلؤ من الخليج. خنجر من فضة وجلد بطول 29 سم، خنجر في حزام يتمنطق به صاحبه، تحفة في الصناعة ودقة في الرسوم والصياغة، كل رسمة على الخنجر وانحناءة في جسده داخل غمده نجد براعة في الأداء وجمالاً في التعبير. من أرض مليحة تأتينا الأسرار، الخفايا، الحيرة، من جاء بالعملة “تيترادراخما” وهي كما قيل أول عملة انتجت محلياً، ولكن لماذا تحمل صورة الاسكندر الأكبر، والوجه الآخر كتب عليه اسم الحاكم “أبي إيل” ولأن العملة محلية لابد إذاً من استبدال اسم الإله زيوس اليوناني إلى الإله شمس عند العرب كونهم يعبدونها. منذ 150 سنة قبل الميلاد كانت الخيول رمزاً للمكانة الاجتماعية، وعندما يدفن الرجل يرافقه لجام حصانه، وربما يدفن جمل معه. في مليحة، المركز التجاري آنذاك، كان لجام الحصان ذهباً، وصنبور الماء فضة، أي مجتمع ذاك، وأي ثروة وتجارة كان يعيشها. أوعية وأوانٍ من جبل البحيص تعود إلى 1100 ق. م. مفخورة بعناية ولاتزال الخطوط تزينها، دقة الترتيب وجمال الصفة، أوعية منحوتة من صخرة واحدة وأخرى مفخورة من كلس، أما المنحوتة من الحجر فكان لتخزين السمن فيه، أما ذاك الخزفي والمفخور فهو لتخزين الحبون. حجر جبلي وعاء ينتهي بمصب لسكب سائل زيتي، وعاء منحوت من حجر جبلي، لا يخلو من نقوش زينها صاحبها، والغريب بالأمر أن وعاء الحجر الصابوني من جبل البحيص يقترب من مادته “حجارته” وفي نقشه من وعاء من الحجر الطري مع مصب من مستوطنة الرميلة والعين وكلاهما لتخزين الزيوت حيث لا مسامات في هذا النوع من الحجارة المنحوتة. وقبل ألفي عام من الميلاد، كان هناك نصل سيف من البرونز جاء من مدفن القطارة بالعين وبطول 143سم، سيف من جنوب شرق الجزيرة العربية، من وقت مبكر من الألفية الثانية قبل الميلاد مدفون مع صاحبه. نتساءل لماذا يدفن السيف والجمل ولجام الفرس مع صاحبها الميت؟ هل تراه التصورات الخيالية مهماً لحماية صاحبها في الآخرة كما حماه السيف حياً، أما المقبض فلم يتبق منه شيء عدا الثقوب في جسد نصل السيف وهي دليل على أن ثمة مقبضاً ربما من قرون الحيوانات أو العظام أو الخشب كان مثبتاً في النصل. منحوتات أم النار ومن جزيرة الهيلي وأخرى من أم النار تأتي المنحوتات قبل 3000 سنة. خرزات من العقيق المزخرف، كلها من المدافن حيث الهيلي في العين وثمة رفات ما يقرب من 700 شخص على مدى العديد من الأجيال تأتي تلك الخرزات وتأتي تلك الجرة من أم النار، جرة نقل السوائل ربما أتت إلى أم النار من جنوب العراق حيث كانت أم النار مركزاً تجارياً قبل 4300 سنة. أرض مجان القديمة ذلك هو الاسم الذي جاء في المصادر المسمارية في بلاد الرافدين، وأرض مجان القديمة كانت مصدراً للنحاس إلى بلاد الرافدين لبناء المعابد والقصور، حيث لا وجود للنحاس في أرض الرافدين. ذلك هو لغز التسمية، هناك في اللغة المكتوبة لأهل بلاد الرافدين. أرض الجنوب ومن شرق الجزيرة العربية القديمة إلى جنوبها: سبأ، حضرموت، حمير، قتبان، ممالك متناحرة على البخور والمرّ، وهما عطران غاليا الثمن، تعطر بهما المعابد ومنازل الأثرياء، ولا ينموان إلا باليمن وسلطنة عُمان وجنوب الصومال، وكان عرب جنوب الجزيرة العربية يتاجرون بهما. مبخرة من حجر كلسي 100 ق. م. من موقع الحيض بن عقيل في اليمن بارتفاع 23 سم وبعرض 13.65 سم. رسم عليها رمز الهلال وكتب عليها بالحرف العربي “شاريخان” وبخط قتابي وهي إحدى اللغات الأربع المنتشرة في جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام ويوحي نقش الإهداء بأن هذا الموقد “المبخرة” كانت في معبد أو ربما في قبر الشخص الذي تحمل اسمه. من اليمن جنوب الجزيرة العربية سوار من ذهب، من وادي بيجان، يحمل نقشين من العربية الجنوبية القديمة على الجانب الداخلي “المخفي”: يت، ردم، تنايت. أسماء شخوص، مصبوبة بعناية، ميم مقلوبة وحرف كالفأس وآخر كالهلال ودائرة ودائرتان مربوطتان. من الشرق الأوسط الإسلامي، تأتي أيقونات ميزت الفن الإسلامي، أربعة أنواع مختلفة من الزخارف وهي الخطوط والنباتات والهندسة والتصوير. تجتمع هذه الأنواع الأربعة تارة وتنفرد تارة أخرى حيث تظهر كل واحدة منها على حدة أو مشتركة مع واحد أو أكثر من الأنماط الأخرى على مجموعة متنوعة من السطوح. يبقى فن الخط مهيمناً على الفن الإسلامي بمصاحبة فن الأرابسك، وربما يعود هذا الاهتمام بالخط العربي كون الإسلام يعتبر الكتابة مظهراً دينياً مقدساً، كون معجزة القرآن هي القراءة والكتابة. ارتفعت الخطوطية إلى أن تمازجت مع المعمار الهندسي الإسلامي، ولهذا نرى في اللغات الفارسية والتركية في إيران وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندسية وتركيا اعتماد الخط العربي والزخرفة والأرابسك معياراً للجمال. اسطرلاب فلكي اسطرلاب نحاسي من مصر الإسلامية، كتب عليه بخط عربي، يحدد الوقت واتجاه مكة المكرمة، وحل المشاكل الفلكية: “فالله خير حافظاً”. آية خطت على جسد الاسطرلاب. يحتوي جسم الاسطرلاب على حافة خارجية كما أنه مسنن على السطح الأمامي. الأرض تدور ومركزها مكة المكرمة، ثمة عتلة، ودوائر كتب عليها بالعربية غير المنقطة. وصندوق أقلام من شمال العراق “الموصل”، نحاس أصفر مرصع بالفضة والنحاس الأحمر: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله وعليه توكلت”، بلا نقاط. جوانبه دوائر مزخرفة تحاكي الكواكب في مواطنها ليلاً ونهاراً. لماذا لا تخلو المصنوعة الإسلامية من الخطوطية، الألف واللام يمتدان من أعلى إلى الأسفل حيث يلتصقان بالحروف الأخرى. ابريق من الفضة من دمشق أو من القاهرة، نحاس محفور ومطعم بالفضة والذهب، اشتغلت أيدي الصانع لأيام حيث يخط الكتابة العربية بخط الثلث المصقول مع أطواق متوالية وهي من النمط الكوفي الخشن كلمات موجهة إلى سلطان لم تعرف اسمه، كلمات.. كلمات. لماذا الكلمات على الكوز “الإبريق”؟ فليحفظ الله مولانا السلطان، الملك، الحكيم، المجد، العادل. عندما يسكب الماء على يديه، لابد أن تقع عيناه على الكلمات التي تدعو له بالبقاء والحفظ. نماذج تصويرية مبهجة، الكركي الطائر، والنوافذ الدائرية وكلمات الدعاء وزهرة اللوتس، والانحناءات الزخرفية المتقنة. مصباحان لمسجد من مصر زجاج منفوخ، مزخرف بالمينا والذهب، تحيط بآيات قرآنية اختيرت بعناية.. سورة النور “الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة في مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار”. طوق من الكتابة يحيط بالمصباحين، واسم سيف الدين شيخ الناصر الراعي لفن العمارة في القاهرة، لون ذهبي كالنور، وحروف من جسد المصباحين وانحناءات في غاية الشفافية، حيث يرسم الضوء حروفاً منعكسة على الجدران. وللأسلحة الإسلامية جانب في معرض “كنوز ثقافات العالم” أشكال الانصال المتنوعة والخناجر والسيوف، فولاذ قاس يمتد حتى رأس مدبب، فولاذ خط عليه أجمل الحروف، نقوش من آيات القرآن الكريم، وأسماء وألقاب الحكام أو التضرع إلى الله. مقابض من الذهب يرصع العاج، دوائر من الورد ونقوش تزين رأس الخنجر، والنصل يحمل البسملة زينة مباركة، أما رأسه المدبب فهو على نوعين، رأس تتساوى عنده طولا الحدين يمينه وشماله، ونصل يطول فيه أحد الحدين على الآخر الذي يقصر وينحني فيشكل استدارة جميلة، أما المقبض، مقبض كالسيف، منحن ومغلق. مقبض كاليد، ممتدة ومفتوحة. بين لقى أرض الإمارات ومصنوعات ومصوغات النتاج الإسلامي نجد وشائج كثيرة، أهمها الزخرفة، واللامتناهي في الأشكال، والابتعاد عن التصوير الجسدي، والحروفية والتطعيم بالذهب واللؤلؤ والتشجير واستخدام الدوائر والمستطيلات والمثلثات. عالم واحد لحضارات متعددة. سبع حضارات اجتمعن ضيفة على حضارة تقام على أرض أبوظبي وهذه أولها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©