الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عجز المؤلّفة

عجز المؤلّفة
1 أكتوبر 2008 22:09
كان يقف أمامي فارداً قامته بلا اكتراث وفي يده سيجارة مارلبورو جديدة، وعلى الفور أمسكت بورقة وقلم وبدأت بكتابة الفقرة الأولى: ''الرجل حبيبي يقف أمامي بعد أن أطلق شعر رأسه الذي استطال حتى كتفيه وقد أمسك بين إصبعيه سيجارة مارلبورو جديدة''· ثم أخرج ولاعة فضية من جيبه وقرّبها من إصبع المارلبورو التي تشبثت بها أسنانه فكتبت: ''ها هو ذا يخرج ولاعته الفضية التي أهديته إياها قبل عام من الآن وذلك في عيد ميلاده الثاني والثلاثين ويرفعها إلى فمه كالوردة، يشعل بها سيجارته ويدخنها على مهل بالطريقة ذاتها التي يشعل بها حواسي حينما يسحبني ويضمني بين ذراعيه''· سعل لمرتين أو لثلاث وبصق على الجدار ولكني لم أدون ذلك لأنه لم يكن شيئاً ضرورياً يستحق التدوين· وفي غياب القمر وبرودة الليل الطويل، اتجه صوب النافذة وبدأ يدندن بصوته الأجش أغنية شعبية قديمة وأنا أدندن على الورقة التي اندلق فيها صوت فيروز: ''هالأوضة وحدا بتسهر و بيوت الأرض تنام وتحت قناديل الياسمين انت وأنا مخبايين''· عندما انتهى من نوبة التدخين والغناء شرب كأساً باردة وخرجت كلمة أح من فمه رخيصة وبشكل فاضح قبل أن يتجشأ ببطء، لم أدون ذلك أيضاً لأنه بدا أمراً كريهاً وغير لائق وكاد يسبب لي الغثيان· تثاءب بطريقة فظة أصدر في نهايتها صوتاً مزعجاً أقرب إلى عواء طرزاني وهو يهرش رأسه وأسفل بطنه المتهدل وكان يجب أن أكتب شيئاً فدونت التالي: ''ها هو النعاس يدب في عينيه المنهكتين فيطبق جفنيه ويعيد فتحهما من جديد ليتحول بياضهما إلى لونٍ أحمر حزين''· نهض باتجاه غرفة النوم فتبعته بهدوء وحذر كي لا يشعر بي وأنا مستغرقة في تدوين الحدث: ''حبيبي المنهك ينهض من مكانه بهدوء ويمشي باتجاه غرفة النوم التي لم تكن تبعد سوى خطوات قليلة''· عندما دخل إلى الغرفة لكز جسداً طرياً ومستلقياً على السرير المزدوج وهو يصرخ: - هيا انهضي وحضري لي شيئاً آكله· فكتبت: ''ورغم أنه لم يذق لقمة واحدة منذ الصباح إلا أنه لم يكن يشعر بجوع، لذا ألقى برأسه المثقل على الوسادة وحاول أن يستسلم للنوم غير أنه لم يستطع''· لكز الجسد المستلقي للمرة الثانية قبل أن يقرص الذراع بقوة فتأوهت المرأة التي إلى جانبه ونهضت بصعوبة ليبرز انتفاخ بطنها فيما هي توبخه: آااي·· يا مجرم· نهرها بانفعال وعصبية: انهضي وكفي عن هذا الشخير المزعج، لم أتزوج بكِ لأجل الفراش فقط، بل لتخدميني أيضاً· غير أن المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي لم تكن تشخر في منامها جرحتها إهانته ورفضت أن تنصاع لأمره فاحتدم بينهما شجار عنيف تبادلا على إثره شتائم نابية بدأها هو بقوله الحمارة بنت الحمار، ولأن المشهد كان ممتلئاً بضجيج لا يطاق قررت أن أتجاهلهما وأنا أحاول أن أكتب: ''كان حبيبي يتقلب على سريره لكي ينام''· لكني شخبطت عليها لأكتبها بشكلٍ أكثر دقة وأنا أركز على الورقة: ''وفي محاولة جادة منه للنوم، تقلب حبيبي على سريره ثم على الكنبة، لكن أنهاراً من الأرق بدأت تتسرب من جسده مما جعله يقفز من موضعه قفزة هائلة ليتجه بعدها إلى الكوميدينو حيث وضع هاتفه المحمول وضغط على عدة أرقام بشكل سريع وحاسم''· كان الزوجان لا يزالان يتشاجران عندما جذبها من ذراعها العارية ببطش وقسوة ليوجه إلى وجهها الجميل صفعة عنيفة أودت بها خطوة إلى الخلف حيث فشلت في التشبث بالكرسي الخشبي فارتطم رأسها به وبدا أن الدم الذي ينزف بغزارة سيلطخ ثوبها الأبيض الجميل بلونٍ أحمر بشع· كان غاضباً جداً وبدأ بتحطيم كل ما أمامه دون أن يتوقف عن هيجانه الحيواني للحظة، قال كلاماً كثيراً عن الماضي وعن أوهام الحب وعن دبلة الخطوبة وسفالة أبيها وإخوتها وقيمة أثاث المنزل والوظيفة الحقيرة والراتب الأكثر حقارة وعن معنى الوطن وعن فاتورة الكهرباء وحذائه البالي وموبايله المسروق وزوجة صديقه المثيرة والملائكة التي تلعنها كل يوم حتى تصبح· بدا سكراناً ولم أكن متأكدة من حقيقة سكره وإلا كنت قد دونته دون أدنى مواربة، ومع ذلك قررت أن أختبئ أسفل السرير خوفاً من أن يصيبني بأذى شبيه بالذي أصاب المرأة الشاحبة، في تلك اللحظة مرق صرصور ضخم من أمامي فذعرت بشدة وكدت أصرخ ولكني كتمت صرختي المفزوعة وتمنيت لو أغلق عيني وأفتحهما ويختفي كل هذا المشهد المروع معه· في أسفل ذلك الظل القاتم والذي كانت تفوح منه رائحة بصل أخضر وبراز أطفالٍ رضّع كتبت: ''كان الهاتف لا يزال يرن بإصرار، يرن دون توقف، يرن بتسول وشفقة، وعندما شعر حبيبي باليأس وقرر إغلاقه استجاب الطرف الآخر للنداء لكن دون أن يصدر عنه أي صوت· بدا وكأن الحبر سينفد، وكأن أحرف الكتابة قد صارت باهتة فهززت القلم عدة مرات قبل أن أواصل: ''همس في أذنها بشاعرية أخاذة، همس لها بصوته الذي يسيل عذباً كالموسيقى وكالإنسانية المفرطة''· توقفت لأفكر بالذي ينبغي أن يبوح به بعد أن رُفعت السماعة، في الوقت الذي كنت أحاول فيه تجاهل نحيب المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي بدأت تنزف من الأسفل أيضاً وهي تئن وتطلب النجدة لأنها ستموت إن لم يلحقوا بها، طرأ لي أن أتخيل المشهد التالي، فكتبت عبارته المتوسلة إليها: _ تعرفين بأني متعب·· وبأني مريض عندما أفتقد عينيكِ·· وبأن كل هذا يحدث لأني أحبك· كنت سأكتب ذلك، كنت سأكتبه قبل أن ينتهي الحبر، كنت سأكتبه لأتخلص من ألم الكتابة عنه، لكني لم أستطع أن أدوّن شيئاً من كلامه، ولم أستطع أن أصل إلى نقطة النهاية، خيل إلي بأني أسمع أغنية أعرفها جيداً وكانت تصدر من بقعة ما من الغرفة، كان الصوت الأجش قريباً جداً وكان لرجلٍ يختبئ أسفل السرير إلى جانبي وهو يردد منتحباً: ''هالأوضة وحدا بتسهر وانت و أنا مخبايين مخبايين مخبايين''· كنتُ أبكي! رصاصات تائهة رشا عبد اللطيف الربيعي أكدس حفنة من حنين قديم في جراري التي ورثتها ذات حرب، وأزيل عن المرآة التي دائماً تزور ملامحي تجاعيد أيامي· يحيلني بكاء أخي الصغير إلى حمامة ترفرف بجناحيها المكسورين لتلهيه عن حماقات بيضاء يصر على ارتكابها وقتما يشاء· اليبت الذي يأوينا لا يسع أحلامي، رغم أنه يسع الجميع سواي، ولهذا أحلم دائماً بالبراري، أخي الصغير يضحك من سذاجتي وينعتني بالطفلة، لأنه دائماً يعتق أسئلة كبيرة يخبئها في حـقـيـبـته المدرسية ويشير إلى نجمة في أعالي الكلام يسميها أرضاً أخرى يعيش عليها أصدقاؤه الآخرون، وكلما حاولت أن أقنعه بألاَّ وجود للآخرين إلا في خياله الصغير، يقول لي: أنت لا تفهمين شيئاً· ويبدأ يحدثني عن أصدقائه الذين لا يزورونه إلا في الليل وعندما ينام الجميع لأنهم يخافون الكبار، ويشحذ حديثة بنظرات واثقة من صحة حكاياته، أخي الصغير بارع في ارتجال الأحلام، ولكنه دائماً يجرحني بشروده الملائكي حين لا يعجبه الحديث فيوهمني بالواجب المدرسي· المسافة بين مدرسة أخي والبيت مئتا متر وخمس شظايا عمياء، واحدة لم تميز بين حتفها وهدفها فأصابت طفلة عمرها سبع سنين وثلاث زهور، والثانية انتحرت قرب شباك جارنا العجوز بعدما رأته لا يقوى على تسخين إبريق الشاي وهو يستمع إلى بلبله المفضل فيروز وهي تصدح (نسم علينا الهوى·· من مفرق الوادي)، الراديو -كما يقول جارنا- صاحب لا يمل صاحبه· أما الثالثة فقد أعجبتها صورتها في زجاج شباكنا العلوي المظلل حتى إنها صافحت نفسها في المرآة فانكسر زجاج النافذة، أما الرابعة -وكانت أخبثها- فقد شعرت ببرد قارس فاختارت قلب مدرسة التربية الوطنية ملجأً لها، أما الخامسة فأذكر أنها مرت من فوق المنازل هادئة دون أن تثير ضجه لتسقط ميتة في البستان الذي زرعنا فيه أحلامنا وطفولتنا الهرمة دون خسائر تذكر سوى كسر بسيط في إبريق كبريائنا فسالت مع الجدول الصغير الذي كنا نغسل به حماقاتنا ونحن أطفال صغار· في الطريق الى المدرسة يجرجر أخي جثة براءته خلفه، ويودعها عند رصيف ماكر· يعرف أنه سينساها هناك، يبحث عن ظل تلوذ به من شمس المكائد التي ترسل رسلها الناريين ليحرقوا سنوات شاحبة ندخرها ليوم أسود، ولهذا كنت أبلل شعره الكستنائي كل صباح بماء النسيان بينما كان يدلني دائماً على براري الفقدان ويلتصق بي مثل أرنب طيب مذعور وسط صحراء شاسعة· أخي الصغير الذي خبر الحروب كمحارب ''فايكنغ'' قديم عمره آلاف الجروح والكدمات كان لا يكره المدرسة ولكنه لا يحب الواجبات المدرسية عدا حصة الرسم، وكلما حاولت أن أعلمه أن يرسم منظراً طبيعياً كان يرسم أشلاء دبابة ميتة ويترك قربها بوصلة تشير إلى هزائمنا التي دائماً نخبئها عن عيون الصغار رغم أننا ندرك تماماً أنهم يعرفون كل شيء· ذات صباح ذهبي كشعر المرأة التي أرسلت رسلها الناريين، قشرت له فضة ندمي وغافلته ورسمت في دفتر رسمه حمامة بيضاء اعتنيت بريشها الناصع ومنقارها الذي يشبه مشبك الشعر الذي كنت دائماً ارتديه حينما كنت بعمره فاجأني في اليوم التالي فرسم قناصاً يتربص لتلك الحمامة· حينها فقط احمرَّ حبُّ الشباب في وجنتيه، وحمل عربات أيامه التي يجرها قطار العمر إلى مجاهيل لا يعرفها أحد سواه، بعد عشرين موتاً عاد أخي الصغير وقد فضح النهار فضة رأسه وحنَّى النحيبُ قامتَهَ بالرثاء، وعلمته المحطات المحشوة بالفقدان ألاَّ سبيل إلى الفردوس إلا أن يكون الحوذي الذي يقود عربة ذكرياته نايا شاسع الانتظار، أو سرب أوز أو معطوب الأماني لكي يعبر برزخ جهنم الذي نسميها -نحن العراقيين-بالعمر· جلس قرب المرآة حدق طويلاً بها ولم يدرك أنها زوَّرت ملامحَهَ مثل كلِّ مرة، لكنه قال لي: عليك أن تصغي للمرايا أحياناً فهي تكشف النوايا، تركني أفتش خرائط أحزاني عن نصف شبر يكفي لهذه الروعة، يكفي لهذه اللوعة دون أن يكترث ثم قال: ''لقد تأكدت أن الأصدقاء الذين كانوا يزورونني قبل خمسين جرحاً ماتوا، يا الله كلهم ماتوا'' - كيف تأكدت من ذلك؟! - رأيت نجوماً كثيرةً تسقط من جيوب الأصدقاء التي تشكو جيوبهم صداع الإفلاس، لكنني تاكدت أكثر حينما رأيت نجمتين تسقطان من عينيك وهما يتلألآن· حادث اصطدام قصة: غراهام غرين ترجمة: رافع الصفار 1 صباح يوم الثلاثاء، استدعي جيروم إلى غرفة المدير خلال فترة الاستراحة بين الحصتين الثانية والثالثة· ولم يكن خائفا من المشاكل، لأنه كان (حارسا) وهو اللقب الذي ارتأى صاحب المدرسة ومديرها أن يطلقاه على الأولاد المميزين والموثوق بهم في المرحلة الأساسية، بعدها تتم ترقيتهم إلى لقب (راعي)، وأخيرا وقبل مغادرتهم المدرسة ذات الامتيازات العالية، وعلى أمل أن تكون وجهتهم إلى (مارلبورو) أو إلى (فريق الركبي)، يحصلون على لقب (صليبي)· وكان السيد (ووردزورث)، مدير المدرسة، جالسا خلف مكتبه وقد بدت عليه علامات التوجس والارتباك· وعندما دخل جيروم الغرفة تكون لديه انطباع بأنه ربما يكون سبب هذا الخوف· بادر المدير إلى القول: إجلس يا جيروم· هل الأمور جيدة في مادة المثلثات؟ ـ نعم·· أستاذ· ـ تلقيت اتصالا تلفونيا من عمتك، وأخشى أن هنالك أخبارا سيئة· ـ نعم·· أستاذ؟ ـ والدك تعرض لحادث· ـ أوه· نظر المدير إلى جيروم باندهاش· أضاف قائلا: حادث خطير· ـ نعم·· أستاذ؟ كان جيروم يحب أباه إلى درجة الجنون· وكما يعيد الإنسان خلق الرب، فإن جيروم أعاد خلق أبيه·· من مجرد مؤلف أرمل غير مستقر الى مغامر غامض يجوب أصقاع الأرض·· نيس، بيروت، مايوركا·· وحتى جزر الكناري· والآن يبدو أن والده قد تعرض لوابل من رصاص رشاش أوتوماتيكي· كان السيد ووردزورث يلعب بالمسطرة فوق المكتب· كان تائها لا يدري كيف يواصل حديثه· قال: انت تعرف أن أباك كان في نابولي· ـ نعم·· أستاذ· ـ عمتك تلقت اتصالا من المستشفى اليوم· ـ أوه· قال المدير وهو في حالة يأس تام: كان حادث طريق· ـ نعم استاذ؟ كان جيروم على يقين من أنهم لن يطلقوا على الحادث اسما آخر· وبطبيعة الحال فإن الشرطة هي التي بدأت بإطلاق النار، أما بالنسبة لأبيه فإن التضحية بحياة الإنسان هي الملاذ الأخير· ـ أخشى أن يكون أبوك في حالة خطيرة جدا· ـ أوه· - في الحقيقة يا جيروم أن أباك توفي بالأمس··· ومن دون أن يتألم كثيرا· ـ هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟ ـ عفوا، ماذا قلت؟ ـ هل كانت الإطلاقات موجهة إلى قلبه؟ ـ لم يطلق أحد عليه النار ياجيروم· لقد سقط عليه خنزير· وتقلصت عضلات وجه المدير، كما لو أنه كان على وشك أن يضحك· أغلق عينيه وأعاد تشكيل ملامح وجهه بشيء من التجهم وقال بسرعة: ـ كان والدك ماشيا في أحد شوارع نابولي عندما سقط عليه خنزير· حادث مريع حقا··· على ما يبدو أن الناس في الأحياء الفقيرة من مدينة نابولي يحتفظون بالخنازير في شرفات البناية· وكان هذا الخنزير في الدور الخامس، ولعل زيادة وزنه أدت إلى تهدم الشرفة، فسقط الخنزير على أبيك· عندها نهض السيد وردزورث من مكتبه وتوجه إلى النافذة معطيا ظهره لجيروم· قال جيروم متسائلا: وماذا حدث للخنزير؟ 2 لم يكن ذلك تبلدا في الأحاسيس من جانب جيروم حسب التفسير الذي ذهب إليه السيد وردزورث عندما نقل لزملائه الطريقة التي تلقى بها الفتى خبر وفاة والده· كان جيروم يحاول رسم المشهد الغريب للوصول إلى التفاصيل الصحيحة· كما أنه لم يكن من النوع الذي يمكن أن ينهار سريعا، بل على العكس من ذلك كان فتى شديد التأمل، ولم يحدث له طوال فترة وجوده في المدرسة الإعداية أن وجد نفسه في موقف يكشف له حقيقة الوضع العبثي والمضحك لوفاة والده، بل ظلت واعتبرها هو جزءا من أسرار الحياة· لكن في فترة لاحقة، خلال الفصل الأول له في المدرسة الثانوية العامة، عندما حكى القصة لأحد أصدقائه المقربين، بدأ يدرك طبيعة التأثير الذي يمكن أن تتركه لدى الآخرين· بعد تلك المواجهة صار يُعرف من قبل الجميع وبشكل لاعقلاني وغير عادل باسم (خنزير)· ولسوء حظه لم تكن عمته تملك شيئا من حس النكتة· كانت هناك صورة لأبيه مكبرة وموضوعة على جهاز البيانو، رجل ضخم حزين الملامح يرتدي بذلة سوداء ذات حجم غير مناسب، في مدينة كابري، يحمل بيده مظلة (كي تحميه من ضربة الشمس)، وصخور (الفاراغليون) تشكل خلفية الصورة· في سن السادسة عشرة، كان جيروم يدرك تماما أن الصورة لمؤلف كتب (شروق الشمس والظلال) و (متسكعون في الباليرك) أكثر مما هي لعميل في المخابرات· رغم ذلك كان يحب ذكرى أبيه، فهو ما يزال يحتفظ بألبوم يضم صور الكارتات التي تسلمها من أبيه خلال رحلاته المتعددة (بعد أن عمل على نقل الطوابع منها إلى ألبوم آخر)، وكان يتألم كثيرا عندما يسمع عمته تروي وفاة والده للغرباء· وغالبا ما تبدأ قصتها قائلة: حادث اصطدام مريع· أخي رحالة كبير· كان على الدوام يحمل فلتر الماء معه بدلا من شراء قناني المياه المعدنية لتوفير مبلغ لا بأس به من المال· وكان دائما ما يقول إن الفلتر يوفر له على الأقل نفقات مشروبه· ولعل في هذا ما يدلل بأنه كان رجلا حريصا وحذرا، فهل تتوقع بالله عليك وبينما هو يقطع شارع دوتور مانويل بانوتشي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك أن يسقط عليه من السماء خنزير· لم يكن والد جيروم كاتبا متميزا، ولكن غالبا ما يحدث بعد موت الكاتب أن يبادر أحد المهتمين بالكتابة إلى الملحق الأدبي لجريدة التايمز يعلن عن نيته بكتابة السيرة الذاتية للأديب المتوفى ويسأل عمن يستطيع أن يزوده برسائل ووثائق تخص الكاتب، أو اية قصة أو حكاية يمكن أن يبعثها الأصدقاء والأقارب· وبطبيعة الحال فإن معظم السير الذاتية لا تظهر أبدا مما يدفع المرء إلى التساؤل فيما إذا كان الأمر برمته لا يتعدى أحد أشكال الابتزاز الخفي، أو أن الكاتب المزعوم للسيرة قد وجد في ذلك سبيلا لإنهاء دراسته في كنساس أو نوتنغهام· وجيروم، على كل حال، باعتباره محاسبا مرخصا لم يكن يفقه شيئا من عالم الأدب والأدباء· وكان في الحقيقة يبالغ كثيرا في حجم الخطر الذي يتهدده بسبب الحادثة الغريبة التي أدت إلى موت أبيه· لهذا بدأ يلجأ في الفترة الأخيرة إلى التدرب على أفضل طريقة في سرد القصة من أجل التقليل من العنصر الفكاهي فيها إلى الحدود الدنيا الممكنة· وبالطبع من غير الممكن أن يرفض في تقديم المعلومات، ففي مثل هذه الحالة ومن دون شك سيلجأ كاتب السيرة إلى عمته التي سوف تسرد له كل التفاصيل دون أدنى تردد· وقد توصل إلى طريقتين· الأولى تسرد التفاصيل بطريقة متأنية وهادئة من شأنها أن تجعل الحادثة الرئيسية (موت والده) شيئا ثانويا، إذ إن خطر الانفجار بالضحك يكمن دوما في عنصر المفاجأة، ولهذا فهو في طريقته هذه يبدأ بالتحدث بصورة مملة ومضجرة قائلا: ـ هل تعرف شيئا عن نابولي ومبانيها السكنية الشاهقة الارتفاع؟ قال لي أحدهم مرة إن سكان نابولي يشعرون في نيويورك وكأنهم في مدينتهم، تماما كشعور أهل تورين وهم في لندن، لوجود النهر في كلا المدينتين كما تعرف··· عم كنت أتحدث؟ آآآ·· نعم، نابولي·· بالطبع· ستصيبك الدهشة بالتأكيد عندما تعرف ماذا يضع الناس في الأحياء الأكثر فقرا في شرفات البنايات، لا·· لا·· ليس الغسيل كما هو متوقع·· بل أشياء مثل بعض الحيوانات كالدجاج··· أو حتى الخنازير· يمكنه الآن أن يتخيل مستمعه وقد اتسعت عيناه وتألقت· ـ هل لديك أدنى فكرة عن الوزن الذي يمكن أن يبلغه خنزير كهذا· أنا لا أعرف بالضبط، ولكن حدث أن شرفة في الدور الخامس قد انهارت تحت أحد هذه الخنازير، فاصطدمت بشرفة الدور الثالث قبل أن يسقط الخنزير إلى الشارع· كان والدي في طريقه إلى متحف الهايدروكرافيك عندما سقط هذا الخنزير عليه، فتوفي في الحال· ربما كانت هذه محاولة فذة في وضع الموضوع الممتع ضمن إطار ممل· الطريقة الثانية تتسم بالإيجاز الشديد: ـ لم يكن موته طبيعيا بل قتله خنزير· ـ وأين حدث هذا؟ في الهند؟ ـ لا في إيطاليا· ـ غريب، لم أعرف أبدا أن الايطاليين يهوون مطاردة الخنازير· هل كان أبوك مولعا بلعبة البولو؟ ومع مرور السنوات، ليس مبكرا جدا ولا متأخرا جدا، وبعد أن تعامل مع الموضوع، باعتباره محاسبا مرخصا، حسابيا وبالأرقام واستخرج النسبة والمعدل، قرر أن يتزوج من فتاة مليحة الوجه في الخامسة والعشرين من عمرها، أبوها يعمل طبيبا في (Pinner)، واسمها (سالي) وكاتبها المفضل هو (Hugh Walpole)، وتعشق الأطفال منذ أن حصلت وهي في الخامسة من عمرها على دميتها الأولى التي تحرك عينيها وتذرف الدموع· وكانت العلاقة بينهما هادئة وخالية من الانفعالات العاطفية مما ساعد على بقائها واستمرارها لأنها ببساطة شديدة لم تكن تتعارض مع حساباته وأرقامه· ظلت مسألة واحدة تقلقه كثيرا· حبه الكبير لأبيه، وتشبثه بهذا الحب وخوفه من أن تهتز صورة هذا الحب لو أن سالي لم تدرك تماما جوانب الموضوع وانفجرت بالضحك عند سماعها لقصة وفاة والده· وسيكون من المحتم أن تسمعها عندما يأخذها إلى العشاء مع عمته· وقد حاول في بضعة مناسبات أن يحكي لها القصة بنفسه، بما أنها كانت متلهفة لمعرفة كل شيء عنه· ـ هل كنت صغيراً عندما توفي والدك؟ ـ فقط تسع سنوات· ـ أمر محزن· ـ كنت في المدرسة عندما نقلوا لي الخبر· ـ وكيف كان وقعه عليك؟ ـ لا أتذكر· ـ لم تخبرني أبدا كيف حدثت الوفاة· ـ حادث طريق··· وحدث الأمر بسرعة· ـ وماذا عنك يا جيمي (صارت تدعوه بجيمي)، هل تقود بسرعة؟ ولم يتمكن من الانتقال إلى الطريقة الثانية التي تتحدث عن مطاردة الخنازير· وكانا يخططان للزواج في مكتب للتسجيل وقضاء شهر العسل في (توركوَي)، وقد تجنب جيروم أخذ عروسه إلى عمته حتى الأسبوع الأخير من موعد العرس· وعندما حلت الليلة التي تلتقي فيها عروسه بعمته لم يكن على يقين فيما إذا كان قلقا وخائفا على ذكرى أبيه أم على حبه· وجاءت اللحظة بأسرع مما كان يتوقع، عندما سألت سالي وهي تلتقط صورة الرجل صاحب المظلة: ـ هل هذه صورة والد جيمي؟ ـ نعم يا عزيزتي، ولكن كيف عرفت ذلك؟ ـ له نفس عيني وحاجبي جيروم··· أليس كذلك؟ ـ هل أعارك جيروم كتب أبيه؟ ـ لا لم يفعل· ـ حسنا، سأهديك مجموعة منها بمناسبة عرسك· أجمل كتبه كانت حول رحلاته· أما المفضل لدي فهو (زوايا وخبايا)· كنت أتوقع له مستقبلا باهرا، لكن حادثة الاصطدام تلك قتلت كل شيء· ـ أمر محزن··· تمنى جيروم في تلك اللحظة لو يغادر المكان قبل أن يرى الوجه الحبيب وهو يتقلص كي ينفجر في ضحكة مفاجئة· ـ كثيرون من قرائه بعثوا برسائل إثر سقوط الخنزير عليه· لم تكن عمته أبدا مباشرة بهذا الشكل من قبل· عندها وقعت المعجزة ولم تضحك سالي، بل تسمرت في موضعها مذعورة العينين تستمع لعمته وهي تواصل سرد القصة حتى النهاية· ـ أمر مرعب حقا، ويدفعك إلى التأمل· هكذا فجأة يأتيك من السماء· امتلأ قلب جيروم بالبهجة، فلقد أزاحت عنه رعبه وإلى الأبد· وفي سيارة الأجرة التي أقلتهما إلى البيت طوقها بذراعيه وقبلها بحب غامر لم يكشف عنه بمثل هذه القوة من قبل، وكانت ردة فعلها واضحة عندما تلألأت الدموع في عينيها الزرقاوين· سألها: بماذا تفكرين الآن يا عزيزتي؟ طوقت كفه بيديها وقالت متسائلة: وماذا حدث للخنزير المسكين؟ ـ من المؤكد أنهم تناولوه على العشاء· قال ذلك وهو يقبل عروسه ثانية، وقد غمرته سعادة مفاجئة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©