الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هيرتا موللر ترصد ممارسات القهر داخل معسكرات العمل السوفييتية عقب الحرب العالمية الثانية

هيرتا موللر ترصد ممارسات القهر داخل معسكرات العمل السوفييتية عقب الحرب العالمية الثانية
19 ديسمبر 2009 22:41
تلفت الكاتبة هيرتا موللر في روايتها «أرجوحة النفس» إلى أنه كانت هناك قوائم يُقتاد البشر على أساسها إلى التجمعات في محطات القطار ومنها إلى المجهول في عربات كانت مخصصة في العادة لنقل الدواب ثم تستمر الرحلة فيها أسابيع وأسابيع، حتى الوصول إلى معسكرات العمل تلك، والتي كان يقع أغلبها في أوكرانيا. واستغلت الكاتبة هذه الأحداث التاريخية لتبني عليها عالمها الروائي إذ تحدثت مع بعض من بقي على قيد الحياة من هؤلاء المعتقلين ومنهم الشاعر أوسكار باستيور، قال لها: سأساعدك «بكل ما عشته»، وكانت هيرتا موللر تلتقي أوسكار باستيور، هو يتحدث وهي تكتب حدثها عن نقطة الصفر في وجود الإنسان وكينونته وعن الذكريات المرة والتفاصيل الصعبة. في بداية الكتاب هناك رصد قوي لعمليات القهر التي كان يقوم بها الروس، على لسان بطل الرواية «ليو أوبيرج» حين يصف كيفية ذهابهم إلى قضاء الحاجة بشكل جماعي أثناء حفلات الترحيل تلك، فيقول:» كان جنود الحراسة الروس يصرخون «اوبورنايا» لتفتح أبواب كل العربات ونتدحرج بعضنا وراء بعض على أرضية ثلجية أكثر انخفاضاً وتنغمس أرجلنا في الثلج حتى باطن الركب، لقد أدركنا قبل أن نفهم أن كلمة أوبورنايا تعني الذهاب الجماعي إلى التواليت، فوق وعلى ارتفاع كبير جداً ابتسم القمر دائري المحيا فيما أنفاسنا تتطاير أمام وجوهنا متلألئاً كالثلج الذي تحت أقدامنا، ومن حولنا البنادق الآلية مصوبة نحونا، ثم يأتي الأمر: نزّل بنطالك». ويضيف:«في هذا الموقف المخزي من الحظ أن تكون تلك البرية الثلجية هي الشاهد والمرافق الوحيد لك في تلك المأساة، وأنه لا أحد غيرها كان يتفرج عليك حين أكرهتك تلك البرية ذاتها على الاصطفاف مع آخرين في رتل لفعل الشيء نفسه، لم يكن بي حاجة لقضاء الحاجة. لكني استسلمت للأمر وجلست القرفصاء كما فعل الجميع. ما أخشى برية هذا الليل وأهدأها». الملوخية يأخذنا بطل الرواية إلى داخل معسكر العمل ليصف لنا كيف كان اعتمادهم الرئيسي على الغذاء هناك على الأعشاب والنباتات الموجودة في الأراضي وكان من بينها نبات الملوخية أو السبانخ البرية كما كان يسميها الأهالي في تلك القرى والأماكن التي كانوا يساقون إليها. ويذكر طريقتين لطبخ الملوخية، كلاهما ينبئ بحجم المأساة والمعاناة التي كان يعيشها هؤلاء البشر في تلك المعسكرات. الأولى: يتناول المرء أوراقها بعد تمليحها كما هي، وكما تؤكل أوراق البقلة، ثم ترش عليها نتف من نبات الشبت. الثانية: تسلق سوق الملوخية بالماء المملح، ثم يتم اصطيادها بالملعقة كاصطياد السمك في الماء، حيث يشعر الأكل بطعم مُسكر لسبانخ مزيفة، يمكن معها شرب ماء ملؤها إما بوصفها حساء صافياً أو شاياً أخضر. ويقول ليو أوبيرج عن معسكر العمل أنه كان مقسماً إلى 5 فرق عمل وتتألف كل فرقة من 500 إلى 800 معتقل وكان الجميع يأتمرون بأوامر القائد الروسي للمعسكر شيشتفانيوف، ومساعده توربريكو ليتش. نساء الكلس يعود بطل الرواية ليو أوبيرج ليتحدث عن حالة الجوع التي كان يعانيها في أيام كثيرة داخل المعسكر، لافتاً إلى طريقة تغلبه على هذا الجوع، فيقول: «عندما لم أملك شيئاً للطبخ، أترك الدخان يسعى كأفعى عبر فمي وأمطّ لساني للأمام وأمضغ بفم فارغ، ما أكثر ما أكلت اللعاب مع دخان المساء وفكرت إذ ذاك بالسجق المشوي، حين لم أكن أملك شيئاً أطبخه، كنت أمر بجانب الطناجر، وأمثل حالة الذاهب للبئر لتنظيف أسنانه قبل النوم، وآكل مرتين قبل أن أدس فرشاة الأسنان في فمي، مرة أكل النار الصفراء بجوع عيني ومرة الدخان بجوع حلقي». ويعرج إلى وصف ما يعرف بــ «نساء الكلس» موضحاً، أن مجموعة نساء الكلس هي إحدى مجموعات العمل في ورشة البناء. وتتألف من نساء يقمن بجر عربة الخيول المحملة بالأحجار الكلسية، أولاً على المنحدر الواقع قرب الاسطبل ثم ينزلن بها بعد ذلك. والعربة عبارة عن صندوق خشبي له شكل شبه منحرف، على كل جهة للعربة تُربط خمس نساء من أكتافهن وحوضهن بسيور جلدية إلى النير، وإلى جانبهن يسير أحد المراقبين، من شدة ما يُجهدن أنفسهن في الشد تتبلل أعينهن بالدمع وتبقى أفواههن نصف مفتوحة. ذبابات الوحل إحدى نساء الكلس «ترودي بيليكان» في سياق أحداث الرواية، تقول: «عندما ينسى المطر هذه البرية لعدة أسابيع ويتحجر الوحل حول حفرة الطفي وكأنه وردة من فرو، يصير ذباب الطين عنيداً جداً.. ذباب الوحل يشم الملح في الأعين والحلاوة في الحلق، وكلما ضعف الإنسان، دمعت عيناه أكثر وزادت حلاوة ريقه». ويصف بطل الرواية ليو أوبيرج حال ترودي بيليكان بأنها كانت تعلّق على العربة في الخلف تماماً، لأنها أضعف من أن تحمل مع الجزء الأمامي، ولم تعد ذبابات الوحل تحط على زاوية العين بل في العين على الحدقية، ولا على الشفاه، بل تطير داخله في الفم، وتترنح ترودي بيليكان كأنها سكرى وتسقط على الأرض، وتدعس دواليب العربة أصابع رجليها. الأحذية الخشبية في موضع آخر من الرواية يحدثنا ليو أوبيرج عن الأحذية الخشبية التي كانوا ينتعلونها وهي نوع آخر من العذاب ولكن المرتبط بالأقدام، حيث يذكر أنها عبارة عن لوح خشبي بسمك أصبعين، والجزء العلوي منه فهو مصنوع من قماش الكتان الرمادي. وقد دقت قطعة الجلد على مدارها في النعل بواسطة مسامير، ولأن القماش الكتاني أضعف من أن يثبت بالمسامير، كان ينشق دائماً مبتدئاً عند الكعب، وكانت الأحذية من النوع العالي ولها فتحات للرباطات، رغم عدم توفر هذه الرباطات إطلاقاً، ولذلك تُربط بسلك معدني رفيع فُتلت أطرافه وعقدت مع بعضها البعض، وعند فتحات الرباط كان القماش الكتاني ينشق دائماً بعد أيام قليلة من لبسه. وفي الأحذية الخشبية لا يوجد فردة يسرى وأخرى يمنى، ولا يستطيع لبسها في أصابع رجليه، وحين يمشي لا يرفع أقدامه عن الأرض بل يشحط رجليه شحطاً، ومن كثرة ما يجر ساقيه تتيبسان مع الوقت حتى الركبتين. أما ثياب العمل وهي بدلة المعسكر الموحدة والتي لا يوجد غيرها فيقول عنها أوبيرج: «لم يكن هناك أية فروق بين بدلة الرجل وبدلة المرأة، إلى جانب الأحذية الخشبية وأغلفتها فقد شملت بدلة العمل لباساً داخلياً وطقماً قطنياً وقفازات خاصة بالشغل وخرقاً للقدمين وبياضات للسرير ومنشفة وقطعة صابون مقطوعة من سبيكة كبيرة تفوح منها رائحة الصوديوم، كانت قطعة الصابون تلك تحرق الجلد، فتزيلها بعيداً من كثرة الجروح على جلودنا». فاوست مقابل شحم خنزير يعرج أوبيرج على علاقته بالكتب وعالم القراءة خلال أعوامه الخمس التي قضاها في المعسكر، مشيراً إلى أنه لم يقرأ الكتب التي جلبها معه اطلاقاً، لأن الورق ممنوع بشدة وقام بتخبئة الكتب إلى أن تسنى له مقايضتها بسلع أخرى كان أشد احتياجاً إليها من احتياجه للكتب، حيث قايض بعضا منها بورق السجائر، وذهبت مجموعة فاوست الشعرية مقابل طحين ذرة وشحم خنزير، وتحول كتاب أشعار فاين هيبر إلى ذرة بيضاء. ثم يتحدث عما يعرف بـ»فخ الخبز»، فيقول: «ليس بيننا واحد إلا ويقع في فخ الخبز، في فخ الصبر على توفير خبز الفطور وفي مصيدة تبادل الخبز على مائدة العشاء وفي فخ الليل مع خبز الفطور الموفر تحت الرأس، وأسوأ مصيدة لملاك الجوع هي مصيدة الصبر: أن تكون جوعاناً وفي يدك الخبز ثم لا تأكله، أن تقف بصلابة ضد نفسك، أصلب من أرض شديدة التجمد، ويقول لك ملاك الجوع كل صباح: فكر بالمساء». فظائع عديدة مع المشاهد المختلفة للحياة داخل معسكرات العمل التي أقامها الاتحاد السوفييتي القديم في عام 1945 والتي شهدت معاملة لا إنسانية وفظائع عديدة ارتكبها الروس آنذاك في حق عديدين ممن لا ذنب لهم فيما فعله أدولف هتلر وغيره ممن جروا الدمار على العالم في الحرب الكونية الثانية. مع تلك المشاهد تسير باقي صفحات الكتاب معبرة عن قسوة الحروب وما تخلفه من ضحايا لم يدروا يوماً عن الطلقة أو الصاروخ، وربما لم يتشاجر أحدهم يوماً أو يرفع عقيرته بالصياح في وجه ظلم تعرض له أو مطالباً بمسألة حياتية فرضتها عليه قوانين الحياة.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©