الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النصوص الفائزة بمسابقة «الساردون»: النجاح من الخطوة الأولى

النصوص الفائزة بمسابقة «الساردون»: النجاح من الخطوة الأولى
7 مايو 2014 23:58
تنشر “الاتحاد” اليوم، نصوص القصص الثلاث التي فازت في الدورة الأولى لمسابقة “الساردون”، التي نظمتها على هامش الدورة الرابعة والعشرين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب. وكانت “الاتحاد” قد أعلنت عن الجائزة وشروطها قبل وقت قصير من انطلاق فعاليات المعرض، فتقدم لها العشرات من المبدعين في الإمارات والبلاد العربية، علما أن المسابقة خصصت للشباب الذين يكتبون للمرة الأولى، أو للذين لم يسبق لهم نشر نصوصهم في أي وسيلة إعلامية ورقية أو إلكترونية. وقد لوحظ أن عددا كبيرا من المشاركين، قد أفصحوا أن المسابقة قد دفعتهم للكتابة للمرة الأولى، بعدما كانوا يترددون في ذلك. وقبل ختام معرض الكتاب، أعلن رئيس تحرير «الاتحاد» الأستاذ محمد الحمادي، أسماء الفائزين في حفل أقيم في جناح أبوظبي للإعلام في المعرض. والفائزون هم: المصري حسن عبدالحميد أبوالسعود بالجائزة الأولى عن قصته «الآن أيها السيد»، وعبدالرؤوف بن مراد من الجزائر بالجائزة الثانية عن قصته «السيد وسيم»، وتحصلت الإماراتية مريم الحساني على الجائزة الثالثة عن قصتها «وبدأت أحلم». وكانت «الاتحاد» قد أعلنت عن هذه الجائزة العربية منذ شهر تقريباً وترشح لها أكثر من 30 قاصاً في دورتها الأولى من كل البلدان العربية. يذكر أن لجنة من النقاد قد راجعت المشاركات، وخلصت إلى حيثيات القصص الفائزة، على النحو الآتي: بالنسبة لقصة «الآن أيها السيد» فإن كاتبها وعبر بناء قائم على التشظي والاختزال والانتقالات المفاجئة، يقدم طريقة حيوية في السرد تعتمد الإيجاز والانتقالات السريعة في الزمان والمكان، والتداعيات (وفق منهج تيار الوعي) مع حس دعابة. قصة غير تقليدية البناء واللغة، وهي في الواقع لغة هذيانية تعكس وتعبّر عن حالة من الوحدة العميقة. كما أن في القصة مونولوجاً رائعاً يقدمه مسن يسكن في دار الإيواء بعد أن تركه أولاده. إحساس دقيق واستيعاب للمكان والزمان ورجوع للماضي بلغة عذبة وسلاسة وانسيابية يسودها التوتر أحياناً بحسب طبيعة الحدث أو التذكرات. أما في قصة «السيد وسيم» فإن الكاتب هنا يحافظ على الحس التقليدي في البناء واللغة والحوار والعلاقات بين الشخصيات، وعبر ذلك يقدم قصة محبوكة بشكل جيد يسردها بسلاسة وعلى نحو مشوّق. الفكرة ذاتها -القائمة على الفنتازي والخارق والظواهر المرعبة- هي جديدة على القصة العربية وتستحق التشجيع. وتعكس قصة «وبدأت أحلم» مقاومة المرأة للتهميش والمصادرة رغم وفائها. الآن أيها السيد* حسن عبد الحميد «لنكن ممتنين لهؤلاء الذين جعلونا سعداء، إنهم أكثر بستاني العالم سحراً لأنهم جعلوا أرواحنا تزهر» «مارسيل بروست» الريح - هذه الليلة - تعصف حيناً وتسكن حيناً، وبين هذا وذاك تخلف شعوراً أخّاذا بالحموضة النفّاذة. لماذا لم أنم حتى هذا الوقت؟ ساعة الدار الميتة تشير إلى التاسعة. هل عادت الساعة إلى الحياة وتشير إلى الوقت الآن أم هو مجرد توارد مواقيت؟ إنه الملل، يرحم الله أمي التي دائما ما كانت تردد لنا ونحن نعمل في حقول الفول الجبلية التي تحضن قريتنا: (لا تملوا، ملل + ملل = خيبة ثقيلة. لا تملوا من ديمومة العمل أو انقطاعه، لا تملوا من صهيل جواد أبيكم طوال الليل، لا تملوا أوتكرهوا نظرة جيرانكم إليكم القائلة بأنكم غجر حتى لو نجحتم في الحياة واشتريتم أرضا تفلحونها وماشية ترعونها وأكلتم مما يأكلون وشربتم مما يشربون. تصالحوا معهم ولا تنازعوا مع أنفسكم فيهم. أعينكم زرقاء وخضراء وعسلية وجُل أعينهم سوداء. شعوركم صفراء وبنية وحمراء وسوداء كالليل وجُل شعورهم سوداء، جلدكم أبيض وبرتقالي وأسمر وجُل جلودهم سمراء، اختلافكم يميزكم، ولكن لا تعيروهم بجمالكم ولا تستاؤوا من تعييرهم لكم بقلة الأصل وضعف النسب. لا تملوا من نجاحكم ولا تملوا من سعيكم نحو راحة البال وهدوء الأحوال والسلام مع من يجاوركم). ??? هل ناولوني عشائي؟ ربما. لو لم يفعلوا سيتوصون بي في وجبة الفول الصباحية. هم يعلمون أن ذاكرة العجائز خبيثة: تتذكر الهين وتغفل السمين، وهم على أية حال يخشون لو تذكرت فأشكو لمدير الدار الزعاق، لماذا لا يؤمنون بأن الله أحق بالخشية؟ منذ أيام؛ كنت أجلس هنا في هذا الفناء الضيق الذى يؤم الدار مع «وفاء» المرأة النظيفة التي لا تتوجع كثيرا مثلي. أنا لا أعرف هذا البغض اللاطوعي الذي أملكه تجاه كل من يئن، أو يتوجع، أو يتصيهن. بصراحة، هي كانت تتوجع لكن توجعها كان طيبا مثلها: دموع تنثال فجأة وتتقوقع سريعا كما لو كانت لم توجد. إسهام مع نظرات حادة لقدميها، وهما يتدعكان بتراب راقد. ضغطات سرية بمقبضيها على جوانب مقعد تجلس عليه، صرخة خافتة من شهر لآخر. لم أكن أكلمها حينما كنت أراها هكذا ،ولا هي كانت تحكي. دخلنا الدار في يوم واحد. أتى بها شاب مفرط الطول، كانت عفية مكرومة. تضاءلت طيلة هذه السنين حتى تحولت إلى قفة من عظام متقزمة، وبعض من لحم متجعد. استطيبت منها أشياء كثيرة؛ لاسيما لكنتها النوبية، و«لتها» ،وعجنها في وصف الفاجيكيين ومرار رحلة الشلال والهضبة. يا سلام على أم هذه الأيام! وفاء، المرأة السمراء التي تنثر الطيب بفجع على إبطيها وقدميها ومفرق رأسها، ورغم هذا تتدفق رائحة جسدها الغريبة الملهمة على من يجاورها في مجلس أو من يتمشى معها في ساحة الدار الضيقة. المرأة التي تتكرع بدون سابق إشعار، ثم تقول لمن يضحك عليها: (سنة الله ورسوله). المرأة التي تأكل الملوخية المجففة بنهم الجنوبيين الجائعين، وتشرب كوب الينسون من دون سكر - ماتت منذ بضعة مساءات. لا أعرف كيف أو على أية حال قابلت وجه رب كريم. كنا متفقين على أن نكون معاً عندما نموت، لا لكي نستأسد على الموت الذي يصرع أعتى الأسود بنصف اشارة، ولكن لكى نتقوى على أنفسنا الضعيفة، لكي نموت بشجن، لكي نعبر بشجن، لكى نحيا هناك بشجن. لكن للموت ألاعيبه وأسبابه، فصلنا عن بعضنا بعضاً بهدوء الثعابين في فصل الخريف، عندما تتلمس فرائس ساذجة، ساذجة لدرجة تجعلها لا تفرق بين فصل الخريف وفصل الشتاء التي تطمئن له الفرائس لبيات الثعابين فيه. قالوا لي: «كانت تغزل لك قفازا، ولها قفاز استعدادا لزمهرير أسود تنبئ عنه رياح الخريف الباردة» عندما اضطجعت على فراشها، وقالت لرفيقتها: «يكفيني ما شربت، سأصعد الآن». يومها، سمعت همهمات وخوف يتراشق بين المشرفات المراهقات الجديدات. استطلعت - كما الجميع - وعرفت بصعوبة. لم أبك كثيرا، و لم أطلب - لخيبة الجميع - أن أراها، ولدهشتى قهقهت كما يليق بمعتوه. صحيح أن الرفاق اشمأزوا مني والرفيقات سببنني كثيرا متعجبات، الا أني لم أكترث، بل جعرت بصوت جهوري حتى تعشيت وشربت شايا خفيفا، وأبعدت فتيتة خبز من عتبة باب غرفتى كيلا يدوسها مخلوق بقدميه فتشتكيني عند الحي البصير. صحوت في الضحى، كانوا قد أخذوها. عندئذ بكيت، عندئذ انقبض قلبي وأعرض عن الحياة لنصف يوم، عندئذ اتكأت وحشة العالم على صدري، عندئذ استصلح البث بمعول الفقد روحي ونبت فيها. تقريباً، إن لم تخن الذاكرة، لم يأت أحد ليراها، أو ليأخذها كما لن يأتي أحد ليراني أو يأخذني. ??? ها أنا ذا بأثواب عديمة الرائحة ومداس رمادي. استحال لون شعري حليبا شاهقا وحرث الحزن كثيرا من أراضيه. فقدت الزيت والشحم واللحم من وجهي وأجنابي. ازدردت الساعات جُل وزني الذي لا أتذكر من أين أو كيف اكتسبته! تعاستي القديمة بنت القديمة أخت القديمة حفيدة القديمة جدة القديمة ـ كما هي تشرب حياتها من ماء حياتى على مهل بكياسة رجل سياسة و بخسة كلب متشرد. - هل أذكر سبب خلافي مع أبنائي؟ - لا أذكر لملمتي لبعض من كتبي وقليل من ملابسي، وصورة أحبها، هي لي في الصف الثالث الاعدادي - وسط فرحة زاعقة تندلع من أعين زوجاتهم: «ستصرن عجائز يا شمطاوات؛ ستصرن عجائز لتعرفن وتجربن وتدركن كم هي مرذولة حياة العجائز؛ ستنقصم ظهوركن وتتوقفن عن المشي لأخذ راحة كل خطوتين ونصف، سيستغل الصغار عجزكن ليضربكن ويكشفوا الستر عن سوأتكن المتكلسة؛ سترتجف اليد والقدم وينخس القلب وترتعش عروق الرقبة الزرقاء، ويستغزب البصر عن أعينكن الحمراء الآن، السوداء كعين الفأر يومئذ». لم أصفع الباب ورائي بعنف المطرود، ولم أكن لأقدر، تركت هذه المهمة لولد قذر الوجه من أحفادي، أداها بتشجيع بصري شع من أمه وتصفيق ملتهب من إخوته الصغار. أذكر أني اشتريت لهذا الولد بنفسي أطقم ولادته، أذكر هذا جيداً. لم أكره الولد، إنه حفيدي؛ فكيف أكرهه؟ ولم أكره زوجات أبنائي، إنهن أمهات أحفادي؛ فكيف أكرههن وهن من أعطينني نعمة ولد الولد، ولم أكره أبنائي بالطبع، هؤلاء هم خلفائي على الأرض: هم من سيجلسون على المقهى الذي جلست عليه، ويدفعون ثمن كوب الشاي الذي قد يكون سببا في كسوة لحم بنات القهوجي الفقير. هم من سيأكلون في صباح كل يوم من علي عربة بائعة الفول الأرملة الشابة التي انكسرت رقبة زوجها الذي يعمل مساحا لزجاج الأبنية الكبيرة بعد أن طوحته رياح قوية ضربت المدينة، على حين غفلة، في الهواء؛ فلا تجوع وتضطر إلى أن تأكل الخبز بثدييها. هم أيضا من سيترحمون عليّ ويقرؤون على روحي الفاتحة ليلة الخميس، بعد أن يشبعوا من وجبة دسمة قادرة بعون من الله على جلب روح الرضا إلى غرفهم المغلقة. ??? مرت سنون يعلمها الله ومدير الدار، وأنا أنا، لاشيء آخر. قادت مصادفة عمياء وسخيفة وعبثية - الفتاة التى كنت أحبها بجنون، ولم تكن تعرف، إلى شارع جانبنا هو شارعنا، عرفتها وعرفتني. دعوتها إلى شاي وقبلت، كانت كما هي: وجه له نور الظل وطفولة ناضجة، ترامت على مقعد أدكن الصفرة، تعجبت في نفسي لأكواب الشاي لما أتت سريعا، على غير عادتها، وتغيظت، في نفسي أيضا، لمداعبات شرهة أغدقتها علينا المشرفة الثلاثينية (أرملة بضة تتجهم بسبب ومن دونه). كانت تشرب وكنت أشرب. لم يعكر صفونا إلا النظر لنباتات شيطانية تربت بفضل ماء شيطاني، تغاضينا عنها وحسنا فعلنا. بعد مدة حكيت لها سرى القديم، غرغرت بالضحك وقالت بتصاب: (حقا؟ أكان هذا؟ أكنت أنت؟ طيب علي أن أذهب). ودعتها لباب الدار، لم تلتفت وراءها لتلقي النظرة الكلاسيكية كما حدث ويحدث وسيحدث في الأفلام. جلست بعدها على مصطبة الدار، وشعرت بسعادة عميقة لنظرات الغيرة، وهي تتطاير من أعين وفاء - التي كانت تجلس غير ذي بعيد عنا، ضحكت (فضحك لضحكي من يسير في الشارع) لما رأيت فتى عشرينياً يؤطر بصره بعوينات نحيفة، ويرتدي بوكسراً ولا شيء آخر. وقف على حد شرفة مقابلة وصرخ في السماء قائلاً: (كيف أحكي لك عن تعبي؟) لم يعره أحد اهتماما. أذكر بعده، والذكرى عندي مسألة نسبية، أني دخلت وفتحت كتابا يحكي لي فيه كاتبه عن تعبه، أنهيته وفتحت ورقة صفراء أخشاها، كما أخشى ما هو موجود خلف خطفة الموت، وحكيت فيها لنفسي عن تعبي. لا، لن أفكر فيما مضى، سأشم هذا الهواء الطلق الذى يندلق من بطن ريح صبية تضرب المدينة الراكدة - قبل أن تغيّره رائحة مصرفين يحضنان جانبي الدار؛ وإن دهمته الرائحة سأنتظر دفقة أخرى لهواء قادم بإذن الجميل المسيّر. وسأتغاضى عن وحل تغطس فيه قدماي، وعن ندف من طين تلعب مع وجهي. ??? مر ذلك الزمان الذي كنت أحب فيه قدوم الريح. كنت أسكن قرية تتمدن، وكان الناس لا زالوا يفرحون لقدومها كما المطر. وقتها: كانت الريح تملس على بيوت الفقراء البسيطة أو الدميمة الواطئة، وتطوف توعدا ببيوت الأثرياء الأقوياء العالية. تسرق قشا وتضرم فيه النار. كانت مشاكسة وكنا نحبها، تكسر نافذة الماخور الوحيد في قريتنا لتهدد نواطيره وتذكرهم بيوم يميز من الغيظ، تنسال من كوة جامعنا كضوء قمري لتطمئن عبدالله العابد شيخنا وبركتنا على عبادته، وتوصيه بتوخي تقوى الجمال فيما يرى ويسمع ويعمل. تخلع الشجرة الجرداء فى أول القرية والنخلة العقيم فى آخرها؛ فيرتاحا من مشقة الوقوف العبثي. تملأ قلب فاجر بالرعب، وتعربد في قلب سكير فيخاف نفسه ويكرهها. يتخفى بأزيزها مراهق يخطط مع أخيه الأصغر لقتل من قتل أباهم الذى كان يصيد قلب النهر برفق، تتسمع لنحيب مكتوم لعاشق معدم - هجرته فتاته لتتزوج من يحمل حافظتي نقود في كل جيب. تتسمع لأم أيتام تخاف من ليل بهيم أغطش ظلمته أكثر من اللازم. تلكز بقبضاتها الخفية الأخطبوطية الأبواب المغلقة؛ فترتج ثم تصر وتنفتح وترتعد لانفتاحها أحشاء ساكنيها، ويظنونها أشباح موتاهم، أتت لتذكرهم بالاستغفار لهم فتطن ألسنتهم بالدعاء كي يرحمهم الله. كانت الريح جميلة، وجميلة، وبالإضافة الى ذلك كانت جميلة، استمدت جمالها من قلة ورودها على قريتنا ومن أفعالها الغريبة والمرغوبة من الله والعباد والقدر. ما هذه الأفكار وهذا الاضطراب؟ نعم أحتاج إلى حضور وفاء الوحدوي وسطوة حكاياتها، ولكن لما كل هذا، ولم يمر إلا بضعة أيام قليلة؟ أضاف الزمان بضعة أيام إلى تاريخ الإنسانية المزري، ولم أفكر إلى الآن في تصليح حياتي قليلا، ولو إلى حين. هل أهلوس؟ ربما. أحتاج إذن للنوم، هو النوم وحده من ينسيني ثقل الوقت، وأخوه الأكبر (السأم) من سيعلمني السلام وينتشلني من نجاسة كبيرة اسمها الدنيا. سأنام. لا، قد أحلم، وأنا أخاف أن أحلم. لكن بماذا سوف أحلم؟ بقطار باهت يزعق وهو يطحن عظام أبى البيضاء؟ أم بباخرة صغيرة ورعناء تأن، ولا تأبه لسقوط الابن الوحيد البار بي من جوفها لجوف البحر اللاقاعي، لا يهم بماذا سوف أحلم. المهم، المهم المهم - هو أن أنام. * القصة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة «الساردون» وبدأتُ أَحلم* مريم الحساني لم أشعر بالاشمئزاز من نفسي قدر ما شعرت به في ذلك اليوم، فكان عقابي من «جنس العمل». سقطت الفتاة الجالسة بجانبي في المحاضرة الجامعية من على كرسيها، وتلوت بشكل لم أعهد مثله من قبل، ركض الجميع نحوها، إلا أنا تسمرت مكاني، واكتفيت برفع قلمها عن الأرض ووضعه على طاولتها، وجلستُ على كرسيّ دون حراك، في حين أن جميع زميلاتي تعاون على حمل الفتاة سريعا للطبيبة، لم أكلف على نفسي حتى أن أعرف اسمها وما حدث لها، اكتفيت بالصمت، وتعديل صفحة الكتاب أمامي. ما سبب موقفي هذا؟! لا أعلم حقاً، ولكن بدأت حياتي من هناك وانتهت هناك... تزوجتُ من رجل كان مصاباً بالصرع، لم أكن أعلم عن مرضه حتى وقع أمامي يتلوى بنفس الطريقة، كان ذلك عقب ثلاث أشهر من زواجي. لقد تسمرتُ بنفس موقفي السابق، حتى أفاقني الدوار من جمودي، فركضت أنادي أم زوجي، سألتني:«سلمى! هل تناول دواءه، متى آخر مرة أخذه؟!». أجبت: «أي دواء؟!»، لم أكن أعرف أنه يأخذ دواء، لم أعرف أنه يعاني مرضٍاً ما!.. بدأت رحلة العلاج معه، أحببته، ولم أتوقف أو يقل حبي له، ولم أتبرم أبداً ولو لحظة من مرضه، كما أني خبأت مرضه عن أهلي، أردتُ أن أكون الزوجة التي تحفظ سرَّ زوجها. علي هو الرجل الطيب، هو الحياة الجديدة، هو الحلم الذي قررتُ أن أعيشه. عشنا معاً خمس سنوات، تعرض فيها للعديد من نوبات الصرع، فتعلمت كيف أعالج الموقف، كان يتقيأ أحياناً، فيزعجه الأمر كثيراً. أحضنه، أطمئنه بأن لا بأس بذلك، أنظف المكان، وأعود مسرعة لأحضنه مجدداً، وهكذا نحتوي الموضوع مراراً وتكراراً. وإلى جانب زيارات المستشفى لمتابعة حالته في الصرع، كنت أذهب لأعالج عقُمي، حاولت مراراً الإنجاب، لكن لم أنجح أبدا. عجز الأطباء عن تفسير سبب عقمي، في الحقيقة أنا لست عقيماً، بإمكاني أن أنجب توائم حتى، ولم يكن زوجي عقيماً، أيضاً، إذا لماذا لا ينجح الأمر؟! قال طبيبي: «أنتي أمركُ بيد الله، كل شيء رائع ليحدث الحمل، ولكن لا أعرف لماذا لا تنجح كل الطرق؟!!». لم أفهم الطبيب، وحاولت مراراً مع أطباء آخرين، تحملت عمليات أطفال الأنابيب، وعمليات تفجير البويضات بالإبر، المضحك أني كنت أخشى الإبر في طفولتي، حتى جاء الوقت الذي أصبحتُ فيه أحقن معدتي بنفسي، من أجل أن أحصل على طفل يحتمل أن يغير حياتي أنا وزوجي علي. أن يغير ذلك الركود والصمت المر في حياتنا، صحيح أني أحبه، وهو كذلك، ولكن أن نعيش وسط أشقائه وعائلاتهم كان الأمر موجعاً كل يوم. شقيقتي ريم التي تزوجت بعدي بخمس سنوات حصلت على طفلها قبل أن يكمل زواجها تسعة أشهر. الناس تتغير حياتهم، وحياتي مع علي تتكرر سيناريوهاتها كل يوم بشكل ممل. تمنيت في قلبي أن تتغير حياتي بأي طريقة كانت، وحدث ذلك. فجر أحد الأيام، أصيب زوجي بنوبة صرع، استخدمت الطرق المعتادة، ولكن علي ظلَّ يتلوى ويركل برجليه ويفرفر بيديه، ركضت نحو عمتي، ولحقها عمي، حاولوا، لكن علي ضلَّ يواصل ركلاته التي بدأت تضعف شيئاً فشيئاً. لا أدري كيف نقل إلى المستشفى، ولا أعلم حقاً كيف وصلت أنا للمستشفى وكيف كان الجميع هناك، حتى لا أعرف لماذا كانت أمي هناك وأبي، والجميع... أخبرنا الطبيب أن علي توفي، أعادوني لمنزل زوجي وألبسوني عباءة وطلبوا مني تقبل العزاء فيه. - هل مات حقاً؟! أمي: توقفي هذا يؤلم زوجك في قبره!. - ولكن يا أمي لقد وعدني بالعديد من الأمور، ويجب أن ننجزها. - توقفي! فانتحبت بعدها، شعرتُ بمرارة الموت، الموت الذي لم يسبق أن ذقته في حبيب وقريب، وذقته في علي. مرت أيام العزاء الثلاثة، وأنا أقبل وأحضن كل ركن وجدار في حجرتنا، أشم ثوبه المعلق الذي مازالت رائحة عطره وجسده فيه، كنتُ أنتظر أن ينتهي يوم العزاء لأعودَ مسرعة إلى حجرتنا، لأنام على فراشنا، لأحلم أنه سيفتح الباب بمفتاحه ويدخل علي، وأن ذلك هو كابوس، فقط كابوس مزعج، ولكن لم يحدث ذلك. وكما نقلوني من المستشفى إلى بيت زوجي، نقلوني بعدها بثلاثة أيام إلى بيت أبي. شعرت أني في عربة جنازة، وأني الميتة، غطيت بشكل خانق، حجب الطريق، وحجب كل شيء عني، وصوني بأصول العدة، وكيف علي أن أعتد على علي، ولكن الألم لم يكن في ذلك، إنما في فقدانه للأبد. كره جميع أفراد أسرتي الجلوس معي، كنتُ حزينة كئيبة، لم أستطع أن أجاملهم في محاولات إضحاكي. حزنت على علي حقاً بكل خلية فيني، بكل مشاعري، وبكل سنين عمري، وقررت أن أوقف حياتي وأعيش كجثة تتحرك على الأرض حزناً على فراقه. الأغراض التي حملتها معي من بيت الزوجية إلى بيت أهلي كنتُ أخصص لها وقت يوميا لأقلبها، لأشتم فيها الذكريات وأعيشها مثلما عشتها بالسابق. صور زفافي، ذلك اليوم الذي كنت فيه أميرة، حفل لم تحصل عليه أي فتاة في العائلة، حسدت عليه حتى اليوم، ذلك اليوم الذي التقيت فيه مع علي وتحدثنا حتى الصباح، وكأننا أردنا أن نختصر الأيام التي لم نعشها معاً من قبل. تذكارات من سفراتنا إلى تايلند وسوريا التي كانت رحلتنا الأخيرة معاً، في رحلة سوريا سمح لي علي بما لم يسمح لي به في السابق، وهو ركوب الخيل، سوريا التي عشت فيها نصف شهر تنقلت فيها بين مدنها أنا وعلي، ولم يبخل دليلنا السياحي حسن بمساعدتنا بالاحتفال بشهر عسلنا الخامس، فأخذنا لأكثر الأماكن رومانسية وجمالاً، قدمت هديتي لعلي هناك في سوريا، كانت عبارة عن ساعة وعطر أكثر ما يحب علي استخدامه وتغيره. عقب هذه الرحلة بشهر كانت فاجعتي فيه. مرت أربعة أشهر العدة، ولم أحصل على ميراثي منه، لم يهمني المال، ولكن تأخرت عائلة زوجي، وظننت أن حزنهم على ولدهم سبب في تأخير إجراءات حصر الميراث، وتبعتها أربعة أشهر أخرى، خُطبت فيها من رجلان أحدهما متزوج، والآخر أرمل مثلي، طبعاً رفضت وفاء لعلي، وحاولت عائلتي إجباري على قبول الأرمل أقلها، وأوضحوا لي أن هذه الفرصة لن تتكرر لي، وأنه يجب علي أن أتزوج وأفكر بالحياة مجددا، وأن أيامي مع علي مضت بلا عودة. كيف مضت؟! علي هنا معي، في الحب الذي أسسناه لنا ليحمينا من عواصف الحياة، إن لم يكمل هو المشوار معي لظرف الموت، سأكمله أنا.. قلت لهم حرفياً: «لو عشت عشرين سنة أخرى لن أندم ولو لحظة على قراري هذا، لن أندم على فرصة حصول زوج وأبناء، متأكدة من أني أريد العيش مع نفسي وذكراه» في الشهر التاسع من بعد وفاة علي، اتصل والد زوجي بي، وطلب مني الذهاب للمحكمة في الغد بخصوص توزيع الميراث، قلت له هل يمكنني أن لا أذهب وأن يحل الأمر دون حضوري،لكنه أصرَّ على قدومي في الغد، وأن هذه إجراءات رسمية ستنتهي سريعاً. ذهبت مع أبي، والصدمة التي طغت على نبأ وفاة علي، هو ما أخبرني به القاضي في ذلك اليوم: «ستتقاسمين نصيبك من ورث علي مع أرملته الأخرى، إلى جانب والديه وأشقاءه». - أي أرملة؟!، علي لم يكن متزوج إلا زوجة واحدة وهي أنا. تقدم والد زوجي نحوي، قال: «سلمى! لم نخبرك طوال هذا الوقت، لأننا أردنا أن تواصلي الترحم عليه، وأن لا تكرهيه». أجبت بشكل سريع: «أنا سامحته، وستبقى دعواتي تظله» سألني أبي لماذا وكيف حدث هذا؟ هو مصدوم أيضاً، لدرجة أنه شكَّ بأني أعلم مسبقاً بالموضوع، أعلم قبل وفاته، لكني صدقاً لم أكن أعلم حتى لحظة وقوفي بالمحكمة.. أوضح عمي أن بعد وفاة علي، اتصلت امرأة بهم وأخبرتهم أنها زوجة لعلي كانت تعيش في مدينة أخرى، ولديها طفل من زواج سابق، ولديها كل الأوراق الرسمية التي تثبت ذلك. في داخلي كانت هناك مشاعر مضطربة وهائجة، أولها شعور الغدر، ووقتها شعرت بالظلم، الظلم الذي لا يستطيع أن يحدد مخلوق طعمه حتى يذقة، حتى يكون بين ذراعيه ويشعر، بالألم الذي يحطم أسنانه ويخنق حنجرته، ويحرق عينيه، ويقبض على معدته، فيرميه على الأرض ليتوسل أن تنشق وتحضنه. ظلموني عندما لم يخبروني أن علياً كان مصاباً بالصرع، عندما جاؤوا لخطبتي. ظلمني علي عندما خان حبي ورعايتي وتزوج سرّاً. ظلمتني تلك المرأة عندما سرقت عني الحب والوفاء. ظلمتني عائلته مرة أخرى عندما تركتني أحزن لتسعة أشهر على فقد أغلى الناس، فعشت كل يوم ميتة. هذا الشعور بالظلم، ليس له علاقة بالتسامح الذي منحته لعلي، بل بكياني المعرض للإساءة... وأنا في المحكمة، لم أفكر للحظة، أن أسأل عن اسم تلك المرأة، وكيف هي شكلها، كم عمرها، في الحقيقة عرفت بعد ذلك أنها في الأربعين، وأنا ابنة ستة وعشرين عاما؟!.. مضحك الأمر لدرجة السخرية. عدتُ للمنزل، حاصرني أبي بالأسئلة، وأمي بالشفقة، فكرت والدتي أن النحس يتلبسني، وظلت تبحث عن شعرت النحس في وجهي، لكنها لم تجد إلا وجهاً غريباً لم تره طوال تسعة أشهر، إنها ابتسامة على محياي، لم تفسر إلا بصدمة الجنون، إنما هي ابتسامة التطهر والخلاص. طلبتُ من والدي ومن أمي ومن الجميع، أن يتركوا هذي القصة سرّاً، لم يكن لكبريائي علاقة بالموضوع، بل بحقيقة غفراني الكلي له، لم أرد أن يذكره أي شخص مهما كان بسوء، لم أرد أن يعرفه الجميع إلا كما عرفوه في حياته، رجل بسيط بطيبته، كريم معي ومحب، لم أرد أن أنكر هذا الحب، لا يهم أن كان حقيقياً أم لا، المهم أني شعرتُ به واستمتعت بذلك الدفء الذي وفره علي لي. هذا كان قراري أردتُ أن تنتهي القصة هنا. حقّاً كان قرار غفراني له هو سريعاً وحقيقياً.. لكن قبل ذلك أردتُ فعل شيء أخير؛ أغلقت باب حجرتي، وبكيت بكاءً جديداً يختلف عن بكاء المموت. فتوقفت بعدها، وأخذت حماماً وجلست لأتحدث بصوت عالٍ مع نفسي، أو بالأحرى مع علي: علي سامحتك!، أنت ميت، ولا تستحق هنا إلا عفوي وسماحي، لو كنتَ حيّاً لما غفرت لك، لكني سامحتك بكل جوارحي، سامحتك مقابل خمس سنوات سعيدة منحتها لي لم يكدرها إلا مرضك ومحاولات إنجاب طفل، لكن يا علي! متى تزوجتها ومتى كنت تزورها؟! كيف ذلك؟! وأنت من يعيش كل يومه معي، كيف ذلك؟! حسنا، لا يهم ذلك، المهم أني سامحتك ولترافقك دعواتي أيها الطيب!.. كان ذلك اليوم نقطة جديدة لتغير حياتي، عدتُ فتاة كأنها لم تتزوج يوماً، وسريعاً حذفتُ خمس سنين من عمري، وكأنها لم تكن. عشت بذات الغنج الذي تحليت به قبل زواجي، سهرت على الانترنت، والأفلام، خرجت للسوق عقب أن قاطعته، حققت حلمي بدخول السينما، وبدأت أحلم من جديد بفارس أحلامي... * القصة الفائزة بالجائزة الثالثة في «الساردون»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©