الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«فرانكشتاين في بغداد».. رواية الخراب الجذري «فرانكشتاين في بغداد».. رواية الخراب الجذري

«فرانكشتاين في بغداد».. رواية الخراب الجذري «فرانكشتاين في بغداد».. رواية الخراب الجذري
7 مايو 2014 20:08
تبدو فداحة الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر، سواء في العراق أو في أمكنة أخرى، أكثر مدعاة لاستدراج المتخيَّل الإبداعي الروائي كأحد السبل التعبيرية عن واقع تلك الفداحة، في تصوير تلك الفداحة على نحو مرهف من حيث طريقة السّرد واصطفاء منحى مغاير في التصوير الفني والجمالي، وهذا ما يتجلّى في العمل السّردي الثالث للروائي العراقي أحمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد)، الصادر عن دار الجمل في بيروت وبغداد عام 2013، والفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). إذا كان العمل الإبداعي يكرس طريقةً ما في عرض الواقع جمالياً، فإن سعداوي، وفي روايته هذه، ترك طريقته تلك تتألَّق من خلال توسُّله لجماليات (السَّرد المفتون بذاته) = (Metanarrative)، وسبق لي وعرَّفت هذا النَّمط من السّرد بأنه “وجود إبداعي متخيَّل وقد تحوَّلت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية كالقصَّص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمَّن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة السَّردية، وأحوال الكاتب، والقارئ، والمقروء، والناقد، والناص أو المؤلِّف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والمظاريف، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيَّل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصَّة أو رواية أو مسرحية”، خصوصاً أن السعداوي توافر على أظهر مُمكنات هذا السَّرد؛ وذلك باستخدام الحراك البوليسي في الأحداث، والاعتماد على عنصر الرواية داخل الرواية، وعلى توظيف الوثيقة؛ المسموعة والمرئية والورقية، وعلى الحكي من داخل النَّص أو المؤلِّف الشريك في الحدث وليس الراوي الأعزل، وغير ذلك من ضرورات السَّرد المفتون بذاته، لا سيما أن المؤلِّف الشريك بالحدث أعاد كتابة الرواية بفصولها التسعة عشر التي ختمها بها بعد أن كان نصها الأول الذي صادرته القوات الأمنية قد توقف عند الفصل السابع عشر. الروائي الشريك في رواية من هذا النَّمط، لا ينبغي أن نقف عند مدى نجاح أو فشل الروائي (أحمد سعداوي) في تصوير أحداث الواقع، فذلك ممكن لو كنّا بصدد عمل وثائقي بسيط، وكذلك لا نتوقف فقط عند قدرة الكاتب على التناص مع مماثلات سردية أخرى رغم أن التناص مع الغير فضيلة من فضائل النَّص المفتوح على العالم المحيط، بل نقف عند كيفيات سرد الحدث وتصويره، وهو ما يمثل جانباً مركزياً من جوانب الطاقة الإبداعية في أي عمل سَّردي لا يقلُّ أهمية عن الجانب الموضوعاتي فيه. تبدأ (فرانكشتاين في بغداد) من وثيقة متخيَّلة (Imagined Document) تفتح آفاق الحكي، ولا نكاد نعثر على مصدرها التوثيقي إلاّ في الصفحة 339 من المتن النَّصي، والتي أشارت إلى وجود “قصة”، بحسب نص الوثيقة (ص 8)، وهنا حافظ الناص (Textor) أو أحمد السعداوي على مستوى وعي رجال الأمن الذي لا يفرّق بين (قصَّة) و(رواية)، وهو التقرير الذي أشار إلى وجود مراسلات مع مؤلِّف (المؤلِّف/ الناص) الذي تم استدراجه من جانب لجنة تحقيق خاصَّة بغلق “دائرة المتابعة والتعقيب” التي أنشاءها الأمريكان في أثناء غزوهم العراق، وهي اللجنة التي اعتقلت “المؤلِّف” وحقَّقت معه، واكتشفت بحوزته نصاً قصصياً يتكوَّن من سبعة عشر فصلاً فلجأت إلى مصادرته، وعندما فُض اعتقال المؤلِّف تمكَّن من إعادة كتابته بفصوله التسعة عشر التي تمثل المتن النَّصي الكامل لرواية (فرانكشتاين في بغداد) كما نقرأها اليوم. وبذلك يحضر المؤلِّف/ الناص منذ بداية الرواية، ويسوِّغ لكيفية وجوده ودوره في نهايتها ليصبح راوياً وناصاً مشاركاً في أحداثها، وهذا ما أضفى على هذه الرواية قدراً جمالياً يؤسِّس بدوره لكينونة السَّرد المفتون بذاته. على نحو مضاعف، سعى الناص إلى تفعيل دور الوثيقة في بناء نصه السَّردي؛ فمرجع كتابته للفصول السبعة عشر مستمدٌ من تسجيلات صوتية عثر عليها “المؤلِّف” الشريك في الحكي (Homodiegetic Narrator) أو المؤلِّف داخل الحدث عندما اشترى من الصحفي المهزوم “محمود السوادي” جهاز التسجيل الصوتي الإلكتروني خاصته بمبلغ 400 دولار (انظر ص 324) والذي ضمَّ معلوماته الرئيسة عن كل الأحداث التي ظهرت في الرواية باستثناء الفصلين الأخيرين اللذين كشف هذا “المؤلِّف” خلالهما عن دوره في الأحداث عامة وفي بناء المتن الحكائي لرواية (فرانكشتاين في بغداد) على نحو خاص بعد أن نحّى جانباً الرواية التي كان يكتبها (الرحلة غير المؤكَّدة والأخيرة) (ص 326). حكاؤون غالباً ما يوظِّف روائيو السّرد المفتون بذاته الحكاية داخل الحكاية في أعمالهم السّردية، وهذا ما نجده كثيراً في هذه الرواية؛ لا سيما أن كل الأحداث الدموية المسرودة تقوم على روح الرواية المتناقلة، لكن ثمة خصوصية كالها الناص لشخصية “هادي العتاك” الذي بدا حكّاءً من طراز رفيع في ما يتعلَّق بإنشاء شخصية “الشسْمة” (ص 96) أو “فرانكشتاين”، بحسب تسمية الصحفي محمود السوادي (ص 153، ص 331) أو “الذي لا اسم له” (ص 307)، والذي من لسانه - هادي العتاك - أخذت حكاية شخصية الكائن الغريب التي يتناقلها الناس، فضلاً عن تخاطرات السحرة والمنجمين الباراسيكولوجيين الذين يعملون مع دائرة المتابعة والتعقيب لكشف غيب ما يجري في بغداد من أحداث وتحت سطوة الاحتلال. ليس هذا فحسب، بل جعل الناص لهذا الكائن الغريب إمكانية سرد حكايته ذاتها بنفسه في الفصل العاشر المعنون بـ (الشسْمة) (ص 156)، وهو تضمين حكائي لافت يذكّرنا بالكلبة “هندة” في رواية (طائر أزرق نادر يحلق معي) الذي جعلها الناص أو مؤلِّف الرواية (يوسف فاضل) شريكة في سرد أحد فصولها مع الاختلاف بين الكلبة ككائن حيواني واضح الهوية و(الشسْمة)، الذي يعد كائناً هلامياً اتخذ هوية بشرية غامضة الروح. لقد جعل السعداوي أغلب الشخوص (Factors) المشاركين في الأحداث يروون بعضهم لبعض، وذلك تضمين جميل عزز من المكانة الحوارية البينية في هذه الرواية، لا سيما أن ظاهرة الشائعات كانت قد غزت مجتمع الرواية وهو أمر طبيعي وتلقائي في أزمنة الخراب والحرب والموت المجاني. تبادلية التناص إذا كانت لنا الرغبة بتصنيف رواية (فرانكشتاين في بغداد) بأنها رواية تناصية (Intertextuality)، فإن ذلك يمثل قيمة جمالية رائقة اجتهد أحمد سعداوي في ترسيخها بصنيعه السَّردي هذا، وذلك ما يمثل مظهراً من مظاهر السَّرد المفتون بذاته، بل جانباً يكرس قدراً من شعرية التناص فائقة الأداء؛ فهذه الرواية تنخرط في روايات ما بعد التغيير الجذري الشامل أو روايات التحرير أو روايات الخراب الجذري، وهي روايات تتناول ما جرى في مجتمع واقعي هو المجتمع العراقي، وما سردية أحمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد) سوى مظهر إبداعي من مظاهر هذا الاتجاه العراقي الجديد في كتابة الرواية، فكيف لا يتناص مع سنان أنطوان في (يا مريم)، ومع أنعام كجه جي في (طشاري)، وكيف لا يتناص مع نصوص سردية عربية أخرى ولدت في خضم الخراب في تونس وليبيا ومصر واليمن وغيرها من البلدان التي طالها خراب التغيير الجذري؟ في تجربة سعداوي هذه يتجلى أحد مظاهر التناص، ذلك الذي يفرضه مجتمع الرواية بكل ما فيه من رموز كلامية ولغوية وعادات وتقاليد وصور مرئية ومقروءة ومحسوسة ومشمومة وديكورات جسدية خاصَّة بالهوية العراقية وبنمط العيش في المجتمع العراقي وظفها سعداوي في روايته هذه كما وظفها عشرات الروائيين العراقيين قبله، وتلك ضرورة لا تمثل خرقاً للعقد السردي في طبيعته الأخلاقية، بل هي دال إبداعي تواصلي منح رواية (فرانكشتاين في بغداد) قدرا من الانفتاح على الغير والآخر، إلاّ أن سعداوي ذهب أكثر من ذلك وهو يستدرج متناصات أخرى ذات طابع عالمي وهو بصدد الانتقال من الواقعية السحرية إلى واقعية العجائبي الذي تمثله شخصية الكائن الغريب (الشسْمَة) التي بدت الضحية والجلاد في آن واحد؛ فهذا الكائن العجائبي وردت كائنيته في روايات أخرى عالمية، ولكن رسم السعداوي لهذه الشخصية حافظ على الطبيعة المجتمعية العراقية بحيث جعله عراقي الأهواء والسمات وهو ما نجده في جملة من العلامات الجسدية والثقافية التي ظهر بها هذا الكائن في حيواته اليومية. أخيراً، في رواية (فرانكشتاين في بغداد)، لم تكن بنية اللغة الواصفة ذات سياق شعري نافر الوجود، لكنها الأحداث، وكذلك الأنموذج العجائبي، نراهما يشعّان بشعرية البناء والمناورة في التواصل بين الفاعلين أو الشخوص المشاركين في الرواية (Actors)، وكذلك في بناء العلاقة بين الواقعي والعجائبي، وعلاقتهما معاً بجملة العوامل المكانية والزمانية والثقافية (Actants) كما تتجلَّى في الحدث اليومي الذي انبرت مخيَّلة السعداوي السّردية لرسمه في عمله الروائي الثالث، وكل ذلك بدا متساوقاً مع الطريق السَّردي الذي انتهجه السعداوي ألا وهو طريق السَّرد المفتون بذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©