السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كشك السجائر

كشك السجائر
7 مايو 2014 20:06
شعر: فرناندو بيسوا ترجمة د. محمد محمود مصطفى لعل قصيدة «كشك السجائر» من أهم القصائد التي كتبها فرناندو بيسوا، بل ولعلها من أهم القصائد في اللغة البرتغالية. وقد يبدو أن القصيدة تتسم باليأس منذ البداية وحتى النهاية، ولعلها لذلك تثير تعاطف القراء. إن اليأس ليس هو يأس الشاعر في حد ذاته، بل لعله يأس الإنسانية بأسرها. والقصيدة التي تتحدث إلينا تخبرنا في حقيقة الأمر بواقعنا. فكل منا مليء بالإخفاقات، مهما كان النجاح الذي حققه على الصعيدين المهني أو العاطفي. وكلنا كذلك في حقيقة الأمر نتسم بنوع من التميز مهما كانت كارثية حياتنا كما تبدو للعالم الخارجي. وهذه الوجودية «المزدوجة» تكمن في طبيعة الإنسان ذاته. ولعل القصيدة تحكي قصة الشاعر نفسه، ففرناندو بيسوا كان من المفترض أن يصبح مهندساً بحرياً يبحر حول العالم، لكنه رفض إلى الأبد ذلك الفخ. والراوي في «كشك السجائر» ليس من اليائسين السلبيين. بل إنه يتأرجح دوماً بين النافذة التي يشاهد من خلالها «الحقيقة الخارجية» التي يمثلها كشك السجائر، وبين الكرسي الموجود في غرفته حيث ينسحب مجدداً إلى «الحقيقة الداخلية» لأفكاره وأحلامه. ثم نرى نسخة ثانية من هذه الازدواجية عند نهاية القصيدة، حيث نجد العالم الفعلي الذي نعيشه، في مواجهة العالم الذي ينبغي أن يكون، وتلك الازدواجية بين الواقعي والمثالي، أو بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، تنبع بالطبع من فكرة الوعى الإنساني. لقد كتب الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوتشي عن هذه القصيدة قائلاً أنها أعظم قصائد القرن العشرين. وإن كانت العظمة تستعصي على التقدير، إلا أن «كشك السجائر» هي واحدة من أعظم قصائد فرناندو بيسوا. ولعل مرد ذلك إلى إنسانيتها الكونية. لقد أطلق بيسوا على هذه القصيدة «موكب الهزيمة» عندما كتبها في يناير عام 1920 وقد انتظر بيسوا 5 سنوات قبل أن يرسلها إلى مجلة «حضور» التي تصدر في مدينة كويمبرا بالبرتغال، حيث تم نشرها عام 1933. ولا نعلم متى قرر الشاعر تغيير اسمها إلى «كشك السجائر». أنا لا شيء وسأبقى للأبد لا شيء ولا يمكنني أن أصبح أي شيء لكن بداخلي كل أحلام الكون. نوافذ غرفتي تلك الغرفة ضمن ملايين الغرف التي لا يعرفها أحد (وإن عرفوني، فما الذي سيعرفون؟) تطل على شارع غامض يعج دوماً بالناس، شارع لا تصل إليه أي فكرة، وتصله كل الأفكار. حقيقي، مستحيل حقيقي، ومؤكد، وغير مؤكد أنه مؤكد، غموض الأشياء تحت الحجارة والكائنات. والموت يلقي بكآبته على الأسوار وتشيب له رؤوس الرجال، والقدر يقود كل العربات صوب طريق العدم. اليوم هزمت، كأني عرفت الحقيقة. اليوم أنا هش، كما لو أني على عتبة الموت، وليس لي أي صلة قرابة بالأشياء أقول وداعاً، هذا المبنى وهذا الجانب من الطريق مجرد صف من عربات القطار، وصفارة الرحيل تئن برأسي وأعصابي تضطرب وعظامي تكاد تتكسر، اليوم أنا متحير، كمن جالت برأسه كل الأسئلة، واكتشف إجاباتها ثم نسيها. اليوم أنا ممزق بين حقيقة كشك السجائر على الجانب الآخر من الطريق، وبين حقيقة مشاعري الداخلية التي تنبئني بأن كل شيء ما هو إلا أضغاث أحلام. لقد أخفقت في كل شيء. لكن لعلي لم أخفق في أي شيء، لأنه ليس لدى أي طموح. من خلال النافذة في آخر المنزل صعدت سلم التعليم ذهبت إلى البلاد ولديّ أحلام كبيرة لكني لم أعثر سوى على الأشجار والحشائش، وعندما عثرت على الناس، كانوا أشبه بباقي البشر أبتعد عن النافذة وأجلس على كرسي فيم عساي أن أفكر؟ كيف يمكنني أن أعرف مصيري، وأنا الذي لا أعرف من أنا؟ لكن بماذا أفكر؟ أفكر في أن أصبح عدة أشياء وهناك الكثيرون يطمحون لأن يصبحوا الشيء ذاته الذي لا يمكننا جميعاً أن نكونه هل أنا عبقري؟ في هذه اللحظة هناك مئات الآلاف ممن يحلمون بالعبقرية مثلي، ولعل التاريخ لن يتذكر أياً منا كل غزواتهم الخيالية محض أحلام. لا، أنا لا أؤمن بنفسي. البشر مجانين مهووسون باليقينيات هل أنا، وليس لديّ أي يقينيات، أكثر أو أقل صوابا؟ لست وحدي... كم من مكان في هذا العالم يحلم فيه من يعتقدون أنهم عباقرة في هذه اللحظة؟ كم من تطلعات رائعة ونبيلة وشفافة بل ولربما ممكنة لن يقدر لها البتة أن ترى الضوء أو تلقي أذاناً صاغية خلق العالم لمن يقهرونه، لا لمن يحلمون أنه بإمكانهم أن يقهروه، حتى لو كانوا على صواب أحلامي ليست أقل من أحلام نابليون. ولعل قلبي أكثر إيماناً بالإنسانية من السيد المسيح. لقد اخترعت سراً فلسفات لم يكتبها كانط قط. ولكني، ولعلي سوف أظل دوماً، ذلك الرجل الذي يسكن السطح، حتى لو لم يكن لدى غرفة عند السطح. سأكون دائماً ذلك الذي لم يولد ليصنع ذلك، سأظل دائماً ذلك الذي لديه صفات جيدة، سأظل دائما ذلك الذي انتظر أن ينفتح الباب في حائط ليس به أي أبواب. صدحت بلحن الخلود في قن دجاج وسمعت صوت الرب في بئر مغطى. هل أؤمن بنفسي؟ لا، ولا بأي شيء. لتتدفق الطبيعة على رأسي المحموم، الشمس، والمطر، والريح على شعري، ولتأتِ باقي عناصر الطبيعة إن أرادت، أو لا تأتي. عبيد النجوم نحن، نغزو العالم بأسره قبل أن نخرج من أسرّتنا، ثم نصحو على مشهد ضبابي، نصحو وكل شيء غريب نمضي الى الخارج فنرى الأرض بأسرها مع النظام الشمسي ودرب التبانة واللانهاية (تناولي الشوكولاتة أيتها الفتاة الصغيرة تناولي الشوكولاتة، صدقيني ما من ميتافيزيقا على ظهر الأرض كالشوكولاتة، والأديان مجتمعة لا تعلمنا أكثر مما يعلمنا كشك الحلوى. تناولي، تناولي، أيتها الفتاة القذرة، لو كان بوسعي فقط أن أتناول الشوكولاتة بنفس الشره مثلك، لكني أعتقد أني بإلقاء غلاف الشوكولاتة الفضي، ألقي معه على الأرض حياتي.) لكني على الأقل مع المرارة على ما لن أصبحه أبداً تبقى هذه الأبيات التي كتبتها على عجل، بوابة مكسورة إلى المستحيل لكني على الأقل أحتقر نفسي بلا دموع، نبيل أنا في إيماءاتي عندما ألقي بذاتي المتسخة في المغسلة مع باقي الأشياء، وأبقى في البيت عارياً. (يا من تواسيني، وأنت غير موجودة فلذا تواسيني، أكنت من آلهة اليونان، كتمثال حي، أو امرأة رومية، نبيلة أو غير ذلك، أو أميرة جوالة، ساحرة ولطيفة، أو كونتيسة من القرن الثامن العشر، جميلة وفريدة، أو محظية من جيل آبائنا، أو شيء حديث، لا يمكنني أن أتخيله أياً كان ذلك، ومهما كنت، فإن كان بمقدورك أن تلهميني، فلتلهميني. يكاد قلبي ينفطر أثير روحي فتثير ما أثيره فلا أجد شيئا. أذهب صوب النافذة فأرى الشارع بوضوح مطلق. أرى المحلات، والممرات، والعربات المارة، أرى الكائنات البشرية تمر أرى الكلاب كذلك، كل ذلك بالنسبة لي جملة من جمل المنفى، وكل ذلك غريب، ككل ما عداه.) ولقد عشت، ودرست، وأحببت، بل وحتى آمنت، والآن ما من شحاذ على وجه الأرض إلا وأحسده لأنه ليس أنا، أنظر إلى أشلاء وعذابات وزيف كل واحد وأتساءل: لعلي لم أحيا أو أدرس أو أحب أو أؤمن (لأنه بإمكانك أن تفعل كل ذلك دون أن تفعل) لعلي موجود فقط، كالسحلية عندما يقطع ذيلها، ويظل يهتز دون السحلية. لقد صنعت من نفسي ما لست أتقنه، وما كان بوسعى أن أفعله لم أفعله. أرتدي الزي غير المناسب، ويخطئ الناس الظن بي، ولا أقول شيئاً وأضل الطريق، وعندما حاولت نزع القناع، التصق بوجهي. وعندما نزعته أخيراً ونظرت في المرآة، كنت قد كبرت في العمر. كنت مخموراً، ولم يعد بوسعي أن أعرف كيف أرتدي ملابسي التي لم أخلعها. ألقيت بالقناع ونمت في الخزانة ككلب تسامحت معه إدارة المحل لأنه غير مؤذ، وسوف أكتب ذلك لأبرهن على تفوقي الجوهر الموسيقي لأبياتي الخاوية، لو كان بوسعي فقط أن انظر إليك، دون أن أواجه كشك السجائر في الناحية الأخرى من الشارع أسحق ضمير وجودي، كمخمور يسقط على سجادة، أو كممسحة أرجل يسرقها الغجر ولا تساوي شيئاً لكن صاحب كشك السجائر يصل ويقف عند الباب. أنظر إليه بارتياب، وذراعي نصف ملتوية، يفاقم ذلك من عذابات روحي التعيسة، سوف يموت وسوف أموت أنا. سيخلف وراءه لافتة محله، وسأخلف ورائي قصائدي. ستموت اللافتة في النهاية، وكذلك قصائدي. وبعد ذلك يموت الكوكب الذي دار به ذلك. أما في الكواكب الأخرى من نظامنا الشمسي، فسيعيش من يشبهون البشر وسيواصلون كتابة أشياء كالقصائد وسوف يعيشون تحت ما يشبه اللافتات، دائماً شيء ما يقابل الآخر دائماً شيء ما عديم النفع كالآخر دائماً المستحيل غبي كالحقيقة، دائماً الغموض الداخلي صادق صدق الحقيقة الغافية على السطح. دائماً هذا الشيء أو ذاك، أو لا شيء أو الآخر. لكن أحدهم دخل كشك السجائر (هل يشري تبغا؟) وسرعان ما تصدمني الحقيقة الظاهرة. أقف شبه منتصب من الكرسي مليء بالحيوية كإنسان وسوف أحاول كتابة هذه الأبيات التي أقول فيها عكس ما أؤمن أشعل سيجارة وأفكر في كتابة أبياتي، وفي السيجارة أحس بالتحرر من عبء الفكر تتابع عيناي الدخان كما لو كان الدخان أثر من آثاري، وأشعر باللذة للحظة مستهلكة، أتحرر من كل مقامرة وأعي أن الميتافيزيقا هي نتيجة عدم الإحساس بأن كل شيء على ما يرام أعاود النكوص إلي الكرسي وأواصل التدخين. سوف أواصل التدخين بقدر ما يسمح بذلك القدر (لو كان لي أن أتزوج ابنة الخادمة لعلي كنت سعيداً الآن) بعد هذا التأمل، أنهض من الكرسي. وأذهب إلى النافذة، لقد خرج الرجل من كشك السجائر (واضعاً باقي النقود في جيبه) أه، إني أعرفه، إنه إستيفش غير الميتافيزيقي. (يصل صاحب كشك السجائر إلى الباب) وكمصادفة من مصادفات القدر يستدير إستيفش ليراني. يلوح بيده نحوي، وألوح بيدي نحوه قائلاً: أهلاً، إستيفش ويعود الكون كله إلى ذات المكان، دون مثاليات أو آمال، ويبتسم صاحب كشك السجائر. ? أستاذ باحث بمعهد لشبونة الجامعي، لشبونة، البرتغال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©